آيات من القرآن الكريم

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا
ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ

قال تعالى «أَلَمْ تَرَ» كلمة تعجب «إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ» يا سيد الرسل وهي دنسة بالكفر والإنكار والجحود، وهذا تعجب من حالهم وعجّب رسوله من أطوارهم، وهذه نزلت في أناس من اليهود أتوا بأطفالهم إلى حضرة الرسول وقالوا له
هل على هؤلاء من ذنب؟ قال لا، قالوا ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا باليل، وما عملناه بالليل يكفر عنا بالنهار، أي بسبب ما يقدمونه من العبادة والخيرات بزعمهم، وهذا هو معنى تزكيتهم أنفسهم، وقد قالوا بعد هذا (نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) كما سيأتي في الآية ١٧ من المائدة الآتية، وقالوا قبل «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى» الآية ١١٢ من البقرة فرد الله عليهم بقوله «بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ» فلا عبرة بتزكية المرء نفسه «وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا» (٤٩) من نوابهم بسبب قولهم هذا لأنه ناشيء عن ظنهم ليس إلا والفتيل هو الخيط الذي في بطن النواة ويضرب به المثل بالقلّة والحقارة كالنقير الذي هو بظهرها والقطمير غشاؤها الرقيق الملتف عليها فيا سيد الرسل «انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ» هؤلاء اليهود «عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» بعدّ أنفسهم كأطفالهم غير المؤاخذين بما فعلوا لفقد سن التمييز مع إصرارهم على جحودهم القرآن الذي جئتهم به الذي لا أعظم من الكفر به إلا الشرك «وَكَفى بِهِ» بكذبهم هذا «إِثْماً مُبِيناً» (٥٠) ظاهرا لا يحتاج إلى الإثبات،
ثم ذكر الله جل ذكره شيئا من سيئاتهم الاخر وعجب رسوله منها فقال «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ» هو كل ما عبد من دون الله من الأوثان إنسانا كان أو حيوانا أو جمادا «وَالطَّاغُوتِ» الشيطان اسم مبالغة الطاغية «وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» من أهل مكة «هؤُلاءِ» يعنون المشركين أنفسهم «أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا» (٥١) طريقا وهو قول كذب محض ليشطوهم على دينهم ويمنعوهم من الإسلام «أُولئِكَ الَّذِينَ» يقولون هذا القول «لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» (٥٢) وهذه قصة أخرى من سيئات اليهود التي عملوها سابقا فيما بينهم يخبر الله تعالى رسوله بها وهي أن حيي بن أحطب وكعب بن الأشرف ذهبوا إلى مكة بعد واقعة أحسد في سبعين رجلا

صفحة رقم 564

من أصحابهم ليحالفوا قريشا على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم التي أخزاهم الله به وشقت شملهم كما مر في الآية ٢٤ فما بعدها من سورة الأحزاب ونقضوا عهدهم معه، فقالت لهم قريش إنا لا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، فإن أردتم أن تسجدوا لهذين الصنمين فنختبر صدقكم فسجدوا، قالوا اسم الصنمين جبتا وطاغوت، فذلك قوله تعالى (يُؤْمِنُونَ) إلخ فتعاهدوا عند البيت على قتاله صلّى الله عليه وسلم، ثم قال أبو سفيان لكعب كيف أنتم يا أهل الكتاب نحن أميون لا نعلم أن محمدا أهدى أم نحن؟
قال اعرض عليّ دينك، فقال نحن ننحر للحجيج الكرماء الناقة كثيرة اللحم مرتفعة السنام ونسقيهم الماء ونقري الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر البيت ونطوف به ونحن أهل الحرم ومحمد من علمت، فقال أنتم أهدى سبيلا مما عليه محمد، فأنزل الله هذه الآية. ويفهم من هذا أن هذه الآية نزلت بعد حادثة أحد وقبل الأحزاب فتكون متقدمة في النزول على ما قبلها كآية اليتيم المارة آنفا، ولا مانع، لأن الآيات التي نزلت بالحوادث أو بغيرها قد تتقدم على سورها وقد تتأخر كما ذكرناه غير مرة، وإن كلا منها توضع بمحلها كما هي الآن في المصاحف وفاقا لما هو عند الله بأمر من حضرة الرسول وإشارة من جبريل الأمين عليهما الصلاة والسلام، راجع الآية ٤٤ المارة ومن جملة سيئاتهم أنهم قالوا نحن أحق بالملك والنبوة من العرب القرشيين فكيف نتبعهم، فأنزل الله تنديدا بهم «أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ» فيما سبق حتى يدعون الأولوية به «فَإِذاً» أي لو كان لهم حظ فيه «لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً» (٥٣) منه راجع الآية ٤٩ المارة آنفا تعلم أن النقير يضرب مثلا لكل تافة «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ» أي محمدا وأصحابه «عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» من النصر والغلبة والتقدم والملك والنبوة والكتاب، وليس هذا ببدع «فَقَدْ آتَيْنا» قبلهم «آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» مثل داود وسليمان ويوسف «وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» (٥٤) في الدنيا لم نؤته محمدا ولا غيره راجع وصفه في الآية ٩ من سورة سبأ ج ٢ والآية ١٥ فما بعدها من سورة النمل ج ١ والآية ٧٧ من سورة الأنبياء فما بعد في ج ٢ وما بعدها فلماذا لا يحسدونهم وقد جمعوا بين الملك والنبوة والكتاب وخصوا بأشياء لم تكن

صفحة رقم 565

لأحد قبلهم ولا تكون لأحد بعدهم؟ وهؤلاء اليهود «فَمِنْهُمْ» أناس منّ الله عليهم بالإيمان المعنيون بقوله تعالى «مَنْ آمَنَ بِهِ» كعبد الله بن سلام وأصحابه وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ» كهؤلاء الموجودين عندك الذين شأنهم الكذب والحسد والنفاق ومن بعدهم ممّن كان على شاكلتهم «وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً» (٥٥) لمن لا يؤمن بالله ورسله وكتبه، وإن اليهود كما أنهم يطعنون بحضرة الرسول يطعنون أيضا بأصحابه كما مر في الآية ١٠٥ وفي كتابه في الآية ١٠٨ وفي مستقبل الإسلام في الآية ١٧ وفي الكعبة واستقبالها في الآية ١١٥ وفي الدعوة الإسلامية في الآية ١١٨ من البقرة المارة. وهناك لهم سيئات أخرى كثيرة مرت وستمر، قاتلهم الله ما ألعنهم. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا» من جميع الخلق «سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها» بالصفة وإلا فهي عين الأولى كما إذا صنعت خاتمك على غير هيئته الأولى فهو هو.
غير أن الصياغة تبدلت فبدلت صفته وذلك لأن الجوارح تعظم فيظن رائيها أنها غيرها فلا يصح القول بأن تكون جلودا غير جلودهم لمنافاته لقوله تعالى «لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» وأن الله غير الجلد الذي اكتسب الإثم واستحق العذاب على صفة أخرى لا أنه بدل نفسه بغيره إذ تأبى حكمة الله أن يعذب شيئا بجرم غيره لقوله جل قوله (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى). وهذه الآية مكررة في القرآن كثيرا.
ومما يدل على هذا ما رواه البخاري عن أبي هريرة يرفعه قال ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع. وما رواه مسلم عنه قال قال صلّى الله عليه وسلم ضرس الكافر أو قال نايه مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام. وغير مستحيل على الله تعالى أن يضاعف أجسادهم ليضاعف عذابهم، ولا غرو أن الجريح قد يرم جرحه حتى يصير العضو المجروح مثله مرارا بسبب جرح بسيط فكيف بما يصيبهم من كيّ النار الدال عليها قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً» لا يمتنع عليه شيء يكبر ما يشاء ويصغر ما يشاء «حَكِيماً» (٥٦) بما يفعل لا اعتراض عليه «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ» من الأقذار الدنيوية مما يعتري نساءها من

صفحة رقم 566

حيض ونفاس واستحاضة وغيرها «وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا» (٥٧) دائما صفة موضحة مؤكدة كقولك ليل أليل ويوم أيوم وأحمر قان وأصفر ناصع وأبيض خالص وأسود خالص وأخضر أدهم وشبهها. قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» حين طلبها بلا توان «وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ» فإنه يأمركم أيها الحكام والمحكمين «أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» قريبا كان المحكوم أو بعيدا مؤمنا أو كافرا عدوا أو صديقا «إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ» فتعم الشيء الذي يأمركم به ربكم ويرشدكم إليه من أداء الأمانة والعدل في الأحكام لأنهما ملاك الدنيا والآخرة «إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً» (٥٨) ولم يزل كذلك.
مطلب توصية الله الحكام بالعدل ومحافظة الأمانة والأحاديث الواردة فيها وتواصي الاصحاب في ذلك:
وهذا خطاب عام على الإطلاق لكل أحد وخاص بالأمراء والحكام يرمي إلى حثّ ولاة الأمور أن يقوموا برعاية الرعية ويحملهم على إحقاق الحق بمقتضى الشرع وأن لا يولوا المناصب غير أهلها لأنها أمانة بأيديهم، ولأن تولية الأمور لغير أهلها ظلم وهو من علامات الساعة كما جاء في الحديث الصحيح إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظروا الساعة. وقوله صلّى الله عليه وسلم إذا ضيعت الأمانة فانتظروا الساعة. قال سيدنا علي كرم الله وجهه على الوالي أن يتعهد أموره ويتفقد أعوانه حتى لا يخفى عليه إحسان المحسن ولا إساءة المسيء ثم لا يترك أحدهما بغير جزاء فإن ترك ذلك تهاون المحسن واجترأ المسيء وضاع العمل. وقال عمر بن الخطاب من ولي أمور العباد ينبغي له أن يتطلع على صغير أمورهم وكبيرها فإنه مسئول عنها، ومن غفل خسر الدنيا والآخرة. وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من استعمل رجلا من عصابة وفيهم من هو أرضى منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين. وعن أبي بكر رضي الله عنه وعن أصحاب رسول الله أجمعين قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ولي من أمر المسلمين شيئا فأمّر عليهم أحدا محاباة (أي لأجل قرابة أو أمر آخر) فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم، ألا فليتق الله من وسد الأمر

صفحة رقم 567

لغير أهله، وليراقب مغبة هذه الأحاديث، ومن وصايا سيدنا عمر إلى معاوية إذا تقدم لك الخصمان فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة وادناء الضعيف حتى يشتد قلبه وينبسط لسانه، وتعاهد الغريب فإنك إن لم تتعاهده سقط حقه ورجع إلى أهله، وإنما ضبع حقه من لم يرفق به، وآسي بين الناس في لحظك وطرفك، وعليك بالصلح ما لم يتبين لك فصل القضاء. وجاء في الحديث الذي رواه ثوبان لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له، وأخرجه البغوي عن أنس- وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أربع إذا كن فيك فلا عليك فيما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفة طعمة. وأخرج عن ميمون بن مهران ثلاث تؤدى إلى البر والفاجر الرحم توصل برة كانت أو فاجرة، والأمانة تؤدى إلى البر والفاجر، والعهد يوفى به للبر والفاجر. وأخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صام وصلّى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان. واختلف في سبب نزول هذه الآية في رواية ابن عباس وابن مسعود والبراء بن عازب وأبي جعفر وأبي عبد الله أنها عامة كما جرينا عليه وعليه أكثر المفسرين وعن زيد بن اسلم واختاره الجبائي أنها خاصة بولاة الأمور على الوجه الذي ذكرناه فيهم، والآية تدل بسياقها على كلا الأمرين، ولا يمنع عمومها في جميع الأمانات خصوص سببها في الأمراء، وما رواه البغوي من أنها نزلت في عثمان بن طلحة وهي رواية عن ابن عباس، وانه أسلم يوم الفتح فيه نظر، لأن عثمان هذا على ما قاله أبو عمرو بن عبد البر وابن منده وابن الأثير أنه هاجر إلى المدينة بعد هدنة الحديبية سنة ثمان مع خالد بن الوليد، ولقيهما عمرو بن العاص مقبلا من عند النجاشي فرافقهما وهاجر معهما، فلما رآهم النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأصحابه رمتكم مكة بأفلاذ كبدها، يعني أنهم وجوه قومهم من أهلها فأسلموا. نعم إن عثمان المذكور جاء بالمفتاح يوم الفتح وسلمه لحضرة الرسول وطلب العباس إن يضمه إليه مع السقاية، قالوا وكان حضرة الرسول قبل الهجرة أراد أن يدخل البيت، فطلب المفتاح من عثمان هذا فلم يعطه إياه، ولم يفتح له الباب، فقال صلّى الله عليه وسلم إني رسول الله قال له

صفحة رقم 568

لو علمت انك رسوله لما منعنك، فقال له سيأتي يوم إن شاء الله أنزعه منك، فلما كان الفتح وأتى عثمان بالمفتاح وطلبه العباس ظن أنه لا يعيده إليه لما سبق منه فنزل جبريل وأمره برده إليه عن أمر ربه وتلا هذه الآية فرده إليه وقال
خذها يا بني طلحة (يعني سدانة البيت) خالدة مخلدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، ثم إنه أعطاه بعد إلى أخيه شيبة وهي حتى الآن في ذريته فإذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم تلا هذه الآية بعد الفتح عند ذلك بمناسبة رد المفتاح إلى السادن القديم فلا يعني أنها نزلت في هذا الشأن، لأن هذه السورة نزلت قبل الفتح بسنتين ولا يجوز أن يقال إن هذا لعلة من الإخبار بالغيب، لأن هذه من الأقوال الواقعية لا المخبر بوقوعها وليست من الأقوال حتى تكرر والله أعلم. ومما يؤيد نزول هذه الآية فيما ذكرنا قوله تعالى بسياقها «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» من جنسكم وقومكم أيها المؤمنون فإن هذه فرع عن قوله (وَإِذا حَكَمْتُمْ) الآية، ويؤكده قوله عز وجل «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ» من أمر دينكم ودنياكم «فَرُدُّوهُ» ارجعوا به في طلب حله «إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ما دام حيا وإلى كتاب الله وسنة رسوله بعد وفاته «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» فافعلوا ما تؤمرون به «ذلِكَ» الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله «خَيْرٌ» لكم من الاستبداد بالرأي واتباع هوى أنفسكم فيه «وَ» تأويل الرسول له «أَحْسَنُ» من تأويلكم، لأنه لا ينطق عن الهوى بل يتبع الوحي المنزل عليه فيه من ربه وما يلهمه الله مما يلقيه في روعه، لذلك كان تأويله «تَأْوِيلًا» (٥٩) خيرا من تأويلكم وأحمد عاقبة روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني. وروى البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم حدود الله. إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولهذا البحث صلة في الآية ١٥٩ من سورة الأنعام في ج ٢، فراجعها. والآية عامة في كل أمير وما قاله عكرمة أراد بها أبا بكر وعمر للحديث المروي عن حذيفة. قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إني لا أدري ما يقال فيكم فاقتدوا بالذين بعدي أبي بكر

صفحة رقم 569

وعمر. أخرجه الترمذي وما قاله ميمون بن مهران أن المراد بهم أمراء السرايا والبعوث أو أنهم عموم الأصحاب لما روي عن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم أخرجه رزين في كتابه ولما روي عن البغوي بسنده عن الحسن عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم مثل أصحابي في أمتي كالملح في الطعام لا يصلح الطعام إلا بالملح. وقال الحسن ذهب ملحنا فكيف نصلح؟ وقال غيره:

يا علماء السوء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد
وكذلك ما روى البخاري عن ابن عباس بأنها نزلت في عبد الله بن حذافة ابن قيس وما قاله السدي بأنها في خالد بن الوليد حين بعثه الرسول على سرية فيها عمار بن يسر فلما قربوا من القوم هربوا، وجاء رجل إلى عمار قد أسلم فأمنه عمار، فرجع الرجل فجاء خالد فأخذ ماله، فقال إني قد أمنته وقد أسلم قال خالد تجير علي وأنا الأمير؟ فتنازعا وقدما إلى رسول الله، فأجاز أمان عمّار ونهاه أن يجبر الثانية على أميره. فهذه الأقوال إن صحت لا تخصص هذه الآية بمن وردت فيهم لأنهم من جملة الأمراء المأمور بإطاعتهم فيدخلون بحكم عمومها دخولا أوليا وغيرهم من بعدهم لذلك ما ذهبنا إليه هو الأولى وقد مشى على هذا الطبري والجبائي وزيد بن اسلم وكثير من المفسرين غيرهم لذلك فإنها مطلقة باقية على إطلاقها.
في مطلب معنى زعم قصة بشر واليهودي والزبير والأنصاري وامتثال أوامر الرسول:
قال تعالى «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» من الكتب وهذا تعجب ثالث يعجب الله به رسوله مما جبل عليه اليهود من الطبائع السيئة، ولفظ زعم يأتي بمعنى الحق والباطل والكذب والصدق بحسب مناسبة المقام، وأكثر ما يستعمل بالشك، وجاء في الحديث زعمه جبريل، وفي حديث خمام بن ثعلبة زعم رسولك، وقال سيبويه زعم الخليل لشيء يرتضيه، وفي شرح مسلم أن زعمه في كل هذا بمعنى قال والمراد هنا مجرّد ادعاء، أي أنهم يدعون إيمانهم بتلك الكتب والحال أنهم لم يؤمنوا بها حقيقة لأنهم «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ» فلو كان إيمانهم صحيحا لما طلبوا المحاكمة إلى المنافق المعبر عنه في الطاغوت فكيف يرضونه حكما «وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا

صفحة رقم 570
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية