
الكفر الشامل لكفر اليهود وغيرهم، وهو يظهر في اعتقاد المرء أن لغير الله تصريفا في الكون، ودفعا للضر، وجلبا للخير، وفي أخذ الحلال والحرام في الدين عن غير الله وكتابه المنزل كما فعلت النصارى اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة التوبة آية ٣١].
الشرك: هو الغطاء الكثيف الذي يمنع نور الإيمان من الوصول إلى القلب وهو منتهى ما تهبط إليه عقول البشر، ومنه تتولد سائر الرذائل التي تهدم الأفراد والجماعات ولا غرابة في ذلك فالمشرك بالله يفهم في حجر أو بشر مثله أو جماد لا حياة فيه: له تأثيرا في الكون، ويعبده ليقربه إلى الله زلفى، وبالتوحيد والإيمان: الخلاص من كل ذلك والسمو بالنفس إلى عبادة الرب والاعتماد عليه وحده والتوكل عليه والإخلاص له وفي هذا نور القلب، وصفاء الروح، ونور البصيرة، والعزة الكاملة، والنص المحقق لهذا كله لا يغفر الله الشرك أبدا تغليظا لذنبه، وامتيازا له عن سائر المعاصي، ويغفر ما دون ذلك، لأن نور الإيمان يسترها، وإنما مغفرة المعاصي لمن يشاء من عباده الموفقين للتوبة والعمل الصالح إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [سورة هود آية ١١٤].
وأما من يشرك بالله فقد اجترح إثما عظيما، وأى إثم يقاس بجانب الشرك بالله؟
أهل الكتاب وجزاؤهم على أعمالهم [سورة النساء (٤) : الآيات ٤٩ الى ٥٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥)

المفردات:
يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ: يمدحونها. يُظْلَمُونَ الظلم: النقص وتجاوز الحد.
فَتِيلًا: هو ما تكون في شق نواة التمر مثل الخيط. بِالْجِبْتِ المراد: الأصنام، وأصله الرديء الذي لا خير فيه. الطَّاغُوتِ: مصدر بمعنى الطغيان والجبروت، ويطلق على كل ما يعبد من دون الله، وعلى الشيطان. نَقِيراً: هو النقرة التي تكون في ظهر النواة: ويضرب بها المثل في القلة والحقارة. يَحْسُدُونَ الحسد:
تمنى زوال نعمة للغير.
المعنى:
ألم ينته علمك إلى هؤلاء الذين يزكون أنفسهم، ويدّعون ما ليس فيهم. وأنهم أبناء الله وأحباؤه، لا تمسهم النار مهما فعلوا لكرامتهم على الله: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ «١» وما علموا أن تزكية النفس تكون بالعمل الذي يجعلها زكية طاهرة، وهذه التزكية محمودة عند الله والناس، أما التزكية بالقول والادعاء والاعتماد على ما كان للآباء فهي مستهجنة عند الله والناس مبعثها الغرور الكاذب، والجهل الفاضح، ولذا يقول الله: (بل الله يزكى من يشاء) من عباده بتوفيقه للعمل الصالح، ولا تنقصون شيئا من جزاء أعمالكم مهما كان بسيطا هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى «٢» فلا عبرة بتزكيتكم أنفسكم يا أهل الكتاب.
(٢) سورة النجم آية ٣٢.

وعلينا نحن المسلمين ألا ندع لهذا الداء طريقا إلى قلوبنا أبدا وألا نغتر بأننا أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وكتابنا خير كتاب، ونبينا خاتم الأنبياء وأننا الأمة الوسط، لا: اعملوا فسيرى الله أعمالكم:
«اعملي يا فاطمة فلن أغنى عنك من الله شيئا».
انظروا أيها المسلمون كيف يختلقون على الله الكذب في دعواهم وتزكيتهم أنفسهم، وكفى بهذا الافتراء على الله إثما مبينا واضحا.
روى عن عكرمة: أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين في مكة يؤلبهم على النبي صلّى الله عليه وسلّم يأمرهم أن يغزوه قائلا: إنا معكم نقاتله فقالوا: إنكم أهل كتاب مثله ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، فإن أردت أن تخرج معنا فاسجد لهذين الصنمين فسجد. ثم قالوا: نحن أهدى أم محمد؟ فنحن ننحر الكوماء (الناقة الضخمة) ونسقى الحاج، ونقرى الضيف، ومحمد قطع رحمه، وخرج من بلده؟ فقال: بل أنتم أهدى سبيلا، فنزلت تلك الآيات.
ألم ينته علمك إلى أولئك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ومع هذا يؤمنون بالأصنام والطاغوت ويقولون في شأن الذين آمنوا للذين كفروا أى من أجل مخالفتهم: هؤلاء الكفار الجاهليون أهدى من الذين آمنوا سبيلا وأقوم طريقا، يا عجبا كل العجب:
يقول أصحاب الكتاب والرسل لمن لهم كتاب ورسول مصدق لما معهم مؤيد بكتبهم مبشر به عندهم مثل هذا القول.
أولئك الذين قضى عليهم الله بالطرد من الرحمة بسبب كفرهم وعصيانهم ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا أبدا.
بل ليس لهم نصيب من الملك ولو كان لهم نصيب منه فرضا، فهم لا يؤتون غيرهم من الناس أحقر شيء وأبسطه، وصدق الله فهم كذلك في حكمهم الزائل بفلسطين، وما ذلك إلا لأنهم أنانيون مطبوعون على الأثرة وحب المادة والغرور الكاذب بأنه ليس أحد غيرهم يستحق شيئا.
بل هم يحسدون الناس كمحمد صلّى الله عليه وسلّم على ما آتاه الله من فضله كالنبوة والكتاب والحكمة، ولا غرابة في هذا فقد آتى الله آل إبراهيم الكتاب والحكمة والنبوة وآتيناهم ملكا عظيما، والعرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم، واليهود من ولد إسحاق بن إبراهيم.