آيات من القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا
ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ

وقالت فرقة: انظر- معناه: انظر إلينا، فكأنه استدعاء اهتبال وتحف، ومنه قول ابن الرقيات [الخفيف] :

ظاهرات الجمال والحسن ينظر ن كما تنظر الأراك الظّباء
وَأَقْوَمَ معناه: أعدل وأصوب، «واللعنة» : الإبعاد، فمعناه: أبعدهم من المهدي، وقَلِيلًا:
نعت، إما لإيمان وإما لنفر أو قوم، والمعنى مختلف، فمن عبر بالقلة عن الإيمان قال: إما هي عبارة عن عدمه على ما حكى سيبويه من قولهم: أرض قل ما تنبت كذا وهي لا تنبته جملة، وإما قلل الإيمان لما قلت الأشياء التي آمنوا بها فلم ينفعهم ذلك، وذلك أنهم كانوا يؤمنون بالتوحيد ويكفرون بمحمد وبجميع أوامر شريعته ونواهيها، ومن عبر بالقلة عن النفر قال: لا يؤمن منهم إلا قليل، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، وغيرهما، وإذا قدرت الكلام نفرا قليلا، فهو نصب في موضع الحال وفي هذا نظر قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨)
هذا خطاب لليهود والنصارى، ولِما مَعَكُمْ معناه من شرع وملة، لا لما كان معهم من مبدل ومغير، و «الطامس» : الدائر المغير الاعلام، كما قال ذو الرمة: [البسيط]
من كل نضّاخة الذّفرى إذا عرقت عرضتها طامس الاعلام مجهول
ومن ذلك قيل للأعمى المسدودة عيناه: أعمى مطموس، وقالت طائفة: «طمس الوجوه» هنا: أن تعفى أثر الحواس فيها. وتزال الخلقة منه فيرجع كسائر الأعضاء في الخلو من أعضاء الحواس، فيكون أرد على «الأدبار» في هذا الموضع بالمعنى، أي خلوه من الحواس دبرا لكونه عامرا بها، وقال ابن عباس وعطية العوفي: «طمس الوجوه» أن تزال العينان خاصة منها وترد العينان في القفا فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشى القهقرى، وحكى الطبري عن فرقة: أن طمس الوجوه أن تتغير أعلامها وتصير منابت للشعر، فذلك هو الرد على الدبر، ورد على هذا القول الطبري، وقال مالك رحمه الله: كان أول إسلام كعب أنه مر برجل من أليل وهو يقرأ هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته. فأسلم مكانه، وقال: والله لقد خفت أن لا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي، وقال مجاهد والحسن والسدي والضحاك: ذلك تجوز، وإنما المراد به وجوه الهدى والرشد، وطمسها حتم الإضلال والصد عنها والتصيير إلى الكفر، وهو الرد على الأدبار، وقال ابن زيد: الوجوه هي أوطانهم وسكناهم في بلادهم التي خرجوا إليها، وطمسها: إخراجهم منها، والرد على الأدبار: هو رجوعهم إلى الشام من حبث أتوا أولا، وأَصْحابَ السَّبْتِ: هم أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت في الصيد، حسبما

صفحة رقم 63

تقدم، وكانت لعنتهم أن مسخوا خنازير وقردة، قاله قتادة والحسن والسدي: وأمر الله في هذا الموضع واحد الأمور، دال على جنسها، لا واحد الأوامر، فهي عبارة عن المخلوقات كالعذاب واللعنة هنا، أو ما اقتضاه كل موضع مما يختص به.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية، هذه مسألة الوعد والوعيد، وتلخيص الكلام فيها أن يقال: الناس أربعة أصناف، كافر مات على كفره، فهذا مخلد في النار بإجماع، ومؤمن محسن لم يذنب قطّ ومات على ذلك، فهذا في الجنة محتوم عليه حسب الخبر من الله تعالى بإجماع، وتائب مات على توبته فهو عند أهل السنة وجمهور فقهاء الأمة لاحق بالمؤمن المحسن إلا أن قانون المتكلمين أنه في المشيئة، ومذنب مات قبل توبته، فهذا موضع الخلاف، فقالت المرجئة: هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته، وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعيد كلها مخصصة في الكفار، وآيات الوعد عامة في المؤمنين، تقيّهم وعاصيهم. وقالت المعتزلة: إذا كان صاحب كبيرة فهو في النار ولا بد، وقالت الخوارج:
إذا كان صاحب كبيرة أو صغيرة فهو في النار مخلد ولا إيمان له، لأنهم يرون كل الذنوب كبائر، وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعد كلها مخصصة في المؤمن المحسن الذي لم يعص قط، والمؤمن التائب، وجعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كفارا أو مؤمنين، وقال أهل السنة وأحق: آيات الوعد ظاهرة العموم، وآيات الوعيد ظاهرة العموم، ولا يصح نفوذ كلها لوجهه بسبب تعارضها، كقوله تعالى: لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: ١٥- ١٦]، وهذه الآية هي الحاكمة ببيان ما تعارض من آيات الوعد والوعيد وقوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الجن: ٢٣] فلا بد أن نقول: إن آيات الوعد لفظها لفظ عموم، والمراد بها الخصوص في المؤمن المحسن، وفي التائب، وفيمن سبق في علمه تعالى العفو عنه دون تعذيب من العصاة، وأن آيات الوعيد لفظها عموم، والمراد بها الخصوص في الكفرة وفيمن سبق في علمه تعالى أنه يعذبه من العصاة، وتحكم بقولنا: هذه الآية النص في موضع النزاع، وهي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فإنها جلت الشك وردت على الطائفتين، المرجئة والمعتزلة، وذلك أن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فصل مجمع عليه، وقوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ فصل قاطع بالمعتزلة راد على قولهم ردا لا محيد عنه، ولو وقفنا في هذا الموضع من الكلام لصح قول المرجئة، فجاء قوله لِمَنْ يَشاءُ رادا عليهم، موجبا أن غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم، بخلاف ما زعموه من أنه مغفور لكل مؤمن.
قال القاضي أبو محمد: ورامت المعتزلة أن ترد هذه الآية إلى قولها، بأن قالوا: «من يشاء» هو التائب، وما أرادوه فاسد، لأن فائدة التقسيم في الآية كانت تبطل، إذا التائب من الشرك يغفر له.
قال القاضي أبو محمد: ورامت المرجئة أن ترد الآية إلى قولها، بأن قالوا: لِمَنْ يَشاءُ معناه:
يشاء أن يؤمن، لا يشاء أن يغفر له. فالمشيئة معلقة بالإيمان ممن يؤمن، لا بغفران الله لمن يغفر له، ويرد ذلك بأن الآية تقتضي على هذا التأويل أن قوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ عام في كافر ومؤمن، فإذا خصص المؤمنون بقوله لِمَنْ يَشاءُ وجب أن الكافرين لا يغفر لهم ما دون ذلك، ويجازون به.

صفحة رقم 64
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز
عرض الكتاب
المؤلف
أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي
تحقيق
عبد السلام عبد الشافي محمد
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1422 - 2001
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية