
وكانوا يقولون: راعنا، وهو كلام أيضا كالذي قبله يحتمل: انظرنا وتمهل علينا، ويحتمل أنه من الرعونة والحمق، أو هي كالكلمة العبرانية (راعنا) وهي كلمة سب عندهم.
فهذه جرائم ثلاث كانوا يقولونها للنبي صلّى الله عليه وسلّم تارة في مجلسه وتارة بعيدا عنه يفعلون هذا ليّا بألسنتهم وفتلا بها وصرفا للكلام عن إرادة الخير إلى إرادة الشر والسب وطعنا في الدين وقدحا فيه بالاستهزاء والسخرية.
وهذا منتهى الجرأة في الباطل والعدوان على الحق، ولو أنهم قالوا عند ما سمعوا أمرا أو نهيا: سمعنا وأطعنا، بدل: سمعنا وعصينا، ولو أنهم قالوا: اسمع وانظرنا عند خطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم بدل: اسمع غير مسمع، وراعنا لو ثبت هذا لكان خيرا لهم، وأهدى سبيلا، ولكن لم يقولوا ذلك فخذلهم الله ولعنهم وطردهم من رحمته فهم لا يوفقون أبدا لخير، ولذا فإنهم لا يؤمنون أبدا إلا إيمانا قليلا لا إخلاص فيه أو إلا قليلا منهم كعبد الله ابن سلام وأضرابه.
تهديد ووعيد لأهل الكتاب [سورة النساء (٤) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨)
المفردات:
الطمس: الإزالة، ومنه طمس الدار، أزال معالمها. وُجُوهاً الوجه:
تارة يراد به الوجه المعروف، وتارة يراد به وجه النفس، وهو ما تتوجه إليه من

المقاصد، قال تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ. أَدْبارِها: جمع دبر وهو الخلف والقفا. والارتداد: الرجوع إلى الوراء في المحسوسات وفي المعاني. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ. أَوْ نَلْعَنَهُمْ أو نهلكهم، وقيل: نمسخهم. افْتَرى:
اختلق.
المعنى:
يا أيها الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى: آمنوا بالقرآن المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم المصدق لما معكم من التوراة والإنجيل، وقد وصفهم القرآن بأنهم أوتوا الكتاب مع أنهم ضيعوا جزءا منه وحرفوا جزءا آخر تسجيلا عليهم بالتقصير واستحقاق العقاب.
والأديان السماوية متفقة في الأصول العامة كالتوحيد ونفى الشرك وإثبات البعث والدعوة إلى كريم الأخلاق والقرآن الكريم مصدق لموسى وعيسى بهذا المعنى، ومعترف بهما وبغيرهما من الأنبياء والرسل، فكيف لا يؤمن أهل الكتاب بالقرآن وبمحمد؟ مع أنه جاء مصدقا لما معهم وموافقا لملة إبراهيم- عليه السلام- بل تراهم غيروا وصفه صلّى الله عليه وسلّم وبدلوا وأنكروا فقيل لهم: يا أهل الكتاب آمنوا بما أنزلنا من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم إليها، في كيدكم للإسلام وأهله، ونردها خاسئة خاسرة إلى الوراء، وذلك بإظهار الإسلام وإعلاء كلمته وافتضاح أمركم وكشف ستركم، فالطمس والوجه والرد على الأدبار كلها أمور معنوية وقد تحققت، أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت، وقد ورد أن الله أهلكهم، وقد تم ذلك وتحقق الوعيد في كل المعاصرين بإذلال بنى النضير وإجلائهم، وإهلاك بنى قريظة، وبعضهم فسر الطمس والوجه والارتداد على الأدبار على أنها أمور حسية، وتأول في تحقيق ذلك والله أعلم بكلامه، وأنتم تعلمون أن وعيده في الأمم السابقة قد تحقق وحصل فاحذروا وعيده وخافوا عقابه إن وعد الله كان مفعولا.
بعد أن وعد الله أهل الكتاب وهددهم إن لم يؤمنوا، وكان وعده مفعولا لا محالة، ساق هذه الآية لتأكيد ما مضى وتقريره ببيان استحالة المغفرة بدون الإيمان فإنهم كانوا يفعلون ما يفعلون، ويقولون: سَيُغْفَرُ لَنا على أن المراد بالشرك في الآية مطلق