
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا) يحتمل وجهين:
يحتمل: أنه كان على علم منه بما يفعلون من فعل الكفر والشر ونحوه من خلق إبليس، لا عن جهل ولا غفلة، ليس كصنيع ملوك الأرض أنهم إذا فعلوا فعلا ثم استقبل الخلاف فإنما يكون ذلك لفعله منهم وجهل بالعواقب، فاللَّه - سبحانه وتعالى - كان لم يزل عالمًا بهم، لكنه تركهم على ذلك لما لا يلحقه الضرر بالعصيان، ولا النفع بالطاعة، بل حاصل الضرر والنفع يرجع إليهم.
والثاني: يخرج مخرج التحذير لهم والتنبيه؛ لأن من علم أن آخر يعلم بصنيعه كان أحذر وأخوف ممن يعلم أنه ليس عليه حافظ ولا رقيب، وعلى هذا يخرج قوله: (كِرَامًا كَاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)، ليكونوا على حذر من ذلك.
وقيل: (وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا) أنهم لن يؤمنوا.
وفي قوله -أيضًا-: (وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا) أي: أنشأهم على العلم بما يفعلون؛ يبين أنه أنشأهم؛ ليعلم الخلائق أن مخالفتهم إياه لا تضره؛ إذ كل من يضره الخلاف لا يتولى ابتداءه إلا على الغفلة ببعضه من الضرر يلحقه بالخلاف.
والثاني: على التحذير وقت الفعل بتذكير المراقب عليه على ما عليه الأمر المعتاد من الانتهاء عن أمور تهواها النفس بالمراقب عليه.
ويحتمل: كان على إرادة نفي حدثية العلم، أو أخبر بعلمه بفعلهم وما لهم من الجزاء، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (٤٠) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (٤٢)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) وقوله - تعالى -: (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) و (نَقِيرًا)، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).
ذكر هذا - واللَّه أعلم - لئلا يظن جاهل إذا رأي ألم الأطفال والصغار وما يحل بهم أن ذلك ظلم منه لهم، لكن ذلك - واللَّه أعلم - ليعلم أن الصحة والسلامة إفضال من اللَّه -

تعالى - لهم، لا لحق ألهم عليه في، ذلك؛ إذ له أن يخلق كيف شاء: صحيحًا، وسقيمًا، ثم من ظلم آخر في الشاهد إنما يظلم لإحدى خلتين:
إما لجهل بالعدل والحق، وإما لحاجة تمسه يدفع ذلك عن نفسه، فيحمله على الظلم، فاللَّه - سبحانه وتعالى - غني بذاته، عالم، لم يزل يتعالى عن أن تمسه حاجة؛ أو يخفى عليه شيء مع ما كان معنى الظلم في الشاهد هو التنازل مما ليس له بغير إذن من له وكل الخلائق من كل الوجوه له؛ فلا معنى ثَمَّ للظلم.
ثم قيل في الذرة: إنها نملة، وكذلك في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " مثقال نملة ".
وقيل: مثقال حبة، وهو على التمثيل، ليس على التحقيق، ذكر لصغر جثته أنه لا يظلم ذلك المقدار، فكيف ما فوق ذلك؟!، لا أن مثله يحتمل أن يكون، لكن لو كان فهو بتكوينه، وباللَّه التوفيق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)
هذا على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: من ارتكب كبيرة يخلد في النار ومعه حسنات كثيرة، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) وهي الجنة، وهذا لسوء ظنهم باللَّه، وإياسهم من رحمته.
عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إِنَّ اللَّه - تعالى - لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حسَنَة يُثابُ عَلَيهَا إِمَّا رِزْقٌ فِي الدنْيَا، وَإِمَّا جَزَاءٌ فِي الآخِرَةِ ".
وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يَقُولُ اللهُ - تَعَالَى -: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرةٍ مِنْ إِحْسَانٍ " قال أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: