
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَماذا عَلَيْهِمْ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «مَاذَا» اسْمًا وَاحِدًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَأَيُّ الشَّيْءِ عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «ذَا» فِي مَعْنَى الَّذِي، وَيَكُونُ «مَا» وَحْدَهَا اسْمًا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَمَا الَّذِي عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ يَصِحُّ عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْإِيمَانِ فِي غَايَةِ السُّهُولَةِ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ مُعْتَبَرًا لَكَانَ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ، فَإِنَّا نَرَى الْمُسْتَدِلِّينَ تَفْرُغُ أَعْمَارُهُمْ وَلَا يَتِمُّ اسْتِدْلَالُهُمْ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ كَافٍ.
أَجَابَ الْمُتَكَلِّمُونَ بِأَنَّ الصُّعُوبَةَ فِي التَّفَاصِيلِ، فَأَمَّا الدَّلَائِلُ عَلَى سَبِيلِ الْجُمْلَةِ فَهِيَ سَهْلَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الْبَحْثِ غَوْرًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَضَرَبُوا لَهُ أَمْثِلَةً، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: وَلَوْ كَانُوا غَيْرَ قَادِرِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ اللَّه ذَلِكَ، كَمَا لَا يُقَالُ لِمَنْ هُوَ فِي النَّارِ مُعَذَّبٌ: مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَرَجُوا مِنْهَا وَصَارُوا إِلَى الْجَنَّةِ، وَكَمَا لَا يُقَالُ لِلْجَائِعِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الطَّعَامِ: مَاذَا عَلَيْهِ لَوْ أَكَلَ. وَقَالَ الْكَعْبِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ الْكُفْرَ ثُمَّ يَقُولُ: مَاذَا عَلَيْهِ لَوْ آمَنَ. كَمَا لَا يُقَالُ لِمَنْ أَمْرَضَهُ: مَاذَا عَلَيْهِ لَوْ كَانَ/ صَحِيحًا، وَلَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ: مَاذَا عَلَيْهَا لَوْ كَانَتْ رَجُلًا، وَلِلْقَبِيحِ: مَاذَا عَلَيْهِ لَوْ كَانَ جَمِيلًا، وَكَمَا لَا يَحْسُنُ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ الْعَاقِلِ كَذَا لَا يَحْسُنُ مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَبَطَلَ بِهَذَا مَا يُقَالُ: إِنَّهُ وَإِنْ قَبُحَ مِنْ غَيْرِهِ، لَكِنَّهُ يَحْسُنُ مِنْهُ لِأَنَّ الْمُلْكَ مُلْكُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ:
إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ الْعَاقِلُ وَكِيلَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الضَّيْعَةِ وَيَحْبِسَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مُفَارَقَةِ الْحَبْسِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: مَاذَا عَلَيْكَ لَوْ تَصَرَّفْتَ فِي الضَّيْعَةِ، وَإِذَا كَانَ مَنْ يَذْكُرُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ سَفِيهًا دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى اللَّه تَعَالَى، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِطَرِيقَةِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ قَدْ كَثُرَ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَمُعَارَضَتُهُمْ بِمَسْأَلَتَيِ الْعِلْمِ وَالدَّاعِي قَدْ كَثُرَتْ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِعَادَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقَصْدَ إِلَى الرِّئَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ بَاطِنًا غَيْرَ ظَاهِرٍ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ عَلِيمٌ بِبَوَاطِنِ الْأُمُورِ كَمَا هُوَ عَلِيمٌ بِظَوَاهِرِهَا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَتَى اعْتَقَدَ ذَلِكَ صار ذلك كالرداع لَهُ عَنِ الْقَبَائِحِ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ: مِثْلَ داعية النفاق والرياء والسمعة.
[سورة النساء (٤) : آية ٤٠]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠)
اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ [النساء: ٣٩] فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّ اللَّه لَا يَظْلِمُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا، فَرَغِبَ بِذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْوَعْدِ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الذَّرَّةُ النَّمْلَةُ الْحَمْرَاءُ الصَّغِيرَةُ فِي قَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَدْخَلَ يده في

التُّرَابِ ثُمَّ رَفَعَهَا ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ذَرَّةٌ ومِثْقالَ مِفْعَالٌ مِنَ الثِّقَلِ يُقَالُ: هَذَا عَلَى مِثْقَالِ هَذَا، أَيْ وَزْنِ هَذَا، وَمَعْنَى مِثْقالَ ذَرَّةٍ أَيْ مَا يَكُونُ وَزْنُهُ وَزْنَ الذَّرَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَظْلِمُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ عَلَى أَصْغَرِ/ مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً [يُونُسَ: ٤٤].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ خَالِقًا لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ، لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ ظُلْمَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَلَوْ كَانَ مُوجِدُ ذَلِكَ الظُّلْمِ هُوَ اللَّه تَعَالَى لَكَانَ الظَّالِمُ هُوَ اللَّه، وَأَيْضًا لَوْ خَلَقَ الظُّلْمَ فِي الظَّالِمِ، وَلَا قُدْرَةَ لِذَلِكَ الظَّالِمِ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الظُّلْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَلَا عَلَى دَفْعِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِمَنْ هَذَا شَأْنُهُ وَصِفَتُهُ: لِمَ ظَلَمْتَ ثُمَّ يُعَاقِبُهُ عَلَيْهِ، كَانَ هَذَا مَحْضَ الظُّلْمِ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الظُّلْمِ.
وَالْجَوَابُ: الْمُعَارَضَةُ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي عَلَى مَا سَبَقَ مِرَارًا لَا حَدَّ لَهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اسْتِدْلَالَاتِ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ وَعَظُمَتْ، إِلَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِالْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالسُّؤَالُ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ مُعَيَّنٌ، وَهُوَ الْمُعَارَضَةُ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي، فَكُلَّمَا أَعَادُوا ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالَ أَعَدْنَا عَلَيْهِمْ هَذَا السُّؤَالَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الظُّلْمِ لِأَنَّهُ تَمَدَّحَ بِتَرْكِهِ، وَمَنْ تَمَدَّحَ بِتَرْكِ فِعْلٍ قَبِيحٍ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ ذَلِكَ التَّمَدُّحُ، إِلَّا إِذَا كَانَ هُوَ قَادِرًا عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّمِنَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَتَمَدَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَذْهَبُ فِي اللَّيَالِي إِلَى السَّرِقَةِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِأَنَّهُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَتَمَدَّحَ بِأَنَّهُ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ عَلَى طَاعَتِهِ وَأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يُثِبْهُ لَكَانَ ظَالِمًا، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُثِبْهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ لَكَانَ قَدْ ظَلَمَهُمْ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا كَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُمْ بِالثَّوَابِ عَلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ، فَلَوْ لَمْ يُثِبْهُمْ عَلَيْهَا لَكَانَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ ظُلْمٍ، فَلِهَذَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الظُّلْمِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظُّلْمَ مُحَالٌ مِنَ اللَّه، أَنَّ الظُّلْمَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْجَهْلِ وَالْحَاجَةِ عِنْدَكُمْ، وَهُمَا مُحَالَانِ عَلَى اللَّه، وَمُسْتَلْزِمُ الْمُحَالِ مُحَالٌ، وَالْمُحَالُ غَيْرُ مَقْدُورٍ. وَأَيْضًا الظُّلْمُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ لَا يَتَصَرَّفُ إِلَّا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، فَيَمْتَنِعُ كَوْنُهُ ظَالِمًا. وَأَيْضًا: الظَّالِمُ لَا يَكُونُ إِلَهًا وَالشَّيْءُ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا كَانَتْ لَوَازِمُهُ صَحِيحَةً، فَلَوْ صَحَّ مِنْهُ الظُّلْمُ لَكَانَ زَوَالُ إِلَهِيَّتِهِ صَحِيحًا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ إِلَهِيَّتُهُ جَائِزَةَ الزَّوَالِ، وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ فِي حُصُولِ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ لَهُ إِلَى مُخَصِّصٍ وَفَاعِلٍ، وَذَلِكَ عَلَى اللَّه مُحَالٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ عِقَابَ قَطْرَةٍ مِنَ الْخَمْرِ يُزِيلُ ثَوَابَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ/ مُدَّةَ مِائَةِ سَنَةٍ.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ ثواب كل تلك الطاعات العظيمة تلك السنن المتطاولة، أزيد

مِنْ عِقَابِ شُرْبِ هَذِهِ الْقَطْرَةِ، فَإِسْقَاطُ ذَلِكَ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ بِعِقَابِ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ ظُلْمٌ، وَإِنَّهُ مَنْفِيٌّ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: إِنَّ عِقَابَ الْكَبِيرَةِ يُحْبِطُ ثَوَابَ جُمْلَةِ الطَّاعَاتِ، وَلَا يَنْحَبِطُ مِنْ ذَلِكَ الْعِقَابِ شَيْءٌ. وَقَالَ ابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ: بَلْ يَنْحَبِطُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَشْرُوعَ صَارَ حُجَّةً قَوِيَّةً لِأَصْحَابِنَا فِي بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِالْإِحْبَاطِ فَإِنَّا نَقُولُ: لَوِ انْحَبَطَ ذَلِكَ الثَّوَابُ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يحبط مثله من العقاب أولا يُحْبَطُ، وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ. فَالْقَوْلُ بِالْإِحْبَاطِ بَاطِلٌ. إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَا يَجُوزُ انْحِبَاطُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ سَبَبُ عَدَمِ كل واحد منهما وجود الآخر، فلو حصل العدمان معا لحصل الوجودان مَعًا، ضَرُورَةَ أَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً مَعَ الْمَعْلُولِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ انْحِبَاطُ الطَّاعَةِ بِالْمَعْصِيَةِ مَعَ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَنْحَبِطُ بِالطَّاعَةِ، لِأَنَّ تِلْكَ الطَّاعَاتِ لَمْ يَنْتَفِعِ الْعَبْدُ بِهَا الْبَتَّةَ، لَا فِي جَلْبِ ثَوَابٍ، وَلَا فِي دَفْعِ عِقَابٍ وَذَلِكَ ظُلْمٌ، وَهُوَ يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَلَمَّا بَطَلَ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ الْقَوْلُ بِفَسَادِ الْإِحْبَاطِ عَلَى مَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّ ثَوَابَ الْإِيمَانِ، وَالْمُدَاوَمَةَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْإِقْرَارَ بِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْصُولُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَالْمُوَاظَبَةَ عَلَى وَضْعِ الْجَبِينِ عَلَى تُرَابِ الْعُبُودِيَّةِ مِائَةَ سَنَةٍ: أَعْظَمُ ثَوَابًا مِنْ عِقَابِ شُرْبِ الْجُرْعَةِ مِنَ الْخَمْرِ، فَإِذَا حَضَرَ هَذَا الشَّارِبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأُسْقِطَ عَنْهُ قَدْرُ عِقَابِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ مِنْ ذَلِكَ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ فَضَلَ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ قَدْرٌ عَظِيمٌ، فَإِذَا أُدْخِلَ النَّارَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْعِقَابِ، فَلَوْ بَقِيَ هُنَاكَ لَكَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا وَهُوَ بَاطِلٌ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ إِلَى الْجَنَّةِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْآيَةُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ حَسَنَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِهِ «كَانَ» التَّامَّةَ، وَالْمَعْنَى: وَإِنْ حَدَثَتْ حَسَنَةٌ، أَوْ وَقَعَتْ حَسَنَةٌ، وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ «كَانَ» النَّاقِصَةِ وَالتَّقْدِيرِ: وَإِنْ تَكْ زِنَةُ الذَّرَّةِ حَسَنَةً. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ (يُضَعِّفْهَا) بِالتَّشْدِيدِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ مِنَ التَّضْعِيفِ، وَالْبَاقُونَ يُضاعِفْها بِالْأَلِفِ وَالتَّخْفِيفِ مِنَ الْمُضَاعَفَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَكُ: أَصْلُهُ مِنْ «كَانَ يَكُونُ» وَأَصْلُهُ «تَكُونُ» سَقَطَتِ الضَّمَّةُ لِلْجَزْمِ، وَسَقَطَتِ الْوَاوُ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ النُّونِ فَصَارَ «تَكُنْ» ثُمَّ حَذَفُوا النُّونَ أَيْضًا لِأَنَّهَا سَاكِنَةٌ. وَهِيَ/ تُشْبِهُ حُرُوفَ اللِّينِ، وَحُرُوفُ اللِّينِ إِذَا وَقَعَتْ طَرَفًا سَقَطَتْ لِلْجَزْمِ، كَقَوْلِكَ: لَمْ أَدْرِ، أَيْ لَا أَدْرِي وَجَاءَ الْقُرْآنُ بِالْحَذْفِ وَالْإِثْبَاتِ، أَمَّا الْحَذْفُ فَهَهُنَا، وَأَمَّا الْإِثْبَاتُ، فَكَقَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً [النِّسَاءِ: ١٣٥].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ أَنَّهُ لَا يَبْخَسُهُمْ حَقَّهُمْ أَصْلًا، وَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَزِيدُهُمْ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْمُضَاعَفَةِ لَيْسَ هُوَ الْمُضَاعَفَةُ فِي الْمُدَّةِ، لِأَنَّ مُدَّةَ الثَّوَابِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَتَضْعِيفُ