
يَخْتَلِفُوا فِي مُدْخَلَ صِدْقٍ بِالضَّمِّ، فَبِالْفَتْحِ الْمُرَادُ مَوْضِعُ الدُّخُولِ، وَبِالضَّمِّ الْمُرَادُ الْمَصْدَرُ وَهُوَ الْإِدْخَالُ، أَيْ: وَيُدْخِلْكُمْ إِدْخَالًا كَرِيمًا، وَصَفَ الْإِدْخَالَ بِالْكَرَمِ بِمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِدْخَالَ يَكُونُ مَقْرُونًا بِالْكَرَمِ عَلَى خِلَافِ مَنْ قَالَ اللَّه فِيهِمْ: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ [الْفُرْقَانِ: ٣٤] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مُجَرَّدَ الِاجْتِنَابِ عَنِ الْكَبَائِرِ لَا يُوجِبُ دُخُولَ الْجَنَّةِ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَالتَّقْدِيرُ: إِنْ أَتَيْتُمْ بِجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ، وَاجْتَنَبْتُمْ عَنْ جَمِيعِ الْكَبَائِرِ كَفَّرْنَا عَنْكُمْ بَقِيَّةَ السَّيِّئَاتِ وَأَدْخَلْنَاكُمُ الْجَنَّةَ، فَهَذَا أَحَدُ مَا يُوجِبُ الدُّخُولَ فِي الْجَنَّةِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ عَدَمَ السَّبَبِ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْمُسَبِّبِ، بَلْ هاهنا سَبَبٌ آخَرُ هُوَ السَّبَبُ الْأَصْلِيُّ الْقَوِيُّ، وَهُوَ فَضْلُ اللَّه وَكَرَمُهُ وَرَحْمَتُهُ، كَمَا قَالَ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يُونُسَ: ٥٨] واللَّه أعلم.
[سورة النساء (٤) : آية ٣٢]
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢)
اعْلَمْ أَنَّ فِي النَّظْمِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَاهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، وَعَنْ قَتْلِ النَّفْسِ، أَمَرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا سَهَّلَ عَلَيْهِمْ تَرْكَ هَذِهِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَهُوَ أَنْ يَرْضَى كُلُّ أَحَدٍ بِمَا قَسَمَ اللَّه لَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ وَقَعَ فِي الْحَسَدِ، وَإِذَا وَقَعَ فِي الْحَسَدِ وَقَعَ لَا مَحَالَةَ فِي أَخْذِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ وَفِي قَتْلِ النُّفُوسِ، فَأَمَّا إِذَا رَضِيَ بما قدر اللَّه أَمْكَنَهُ الِاحْتِرَازُ عَنِ الظُّلْمِ فِي النُّفُوسِ وَفِي الْأَمْوَالِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ: هُوَ أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَقَتْلَ النَّفْسِ، مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ فَأَمَرَ أَوَّلًا بِتَرْكِهِمَا لِيَصِيرَ الظَّاهِرُ طَاهِرًا عَنِ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ، وَهُوَ الشَّرِيعَةُ. ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَهُ بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لِنُفُوسِ النَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ بِالْقَلْبِ عَلَى سَبِيلِ الْحَسَدِ، لِيَصِيرَ الْبَاطِنُ طَاهِرًا عَنِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الطَّرِيقَةُ. [في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ] ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّمَنِّي عِنْدَنَا عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَةِ مَا يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ مِنَ الْكَافِرِ أَنْ يُؤْمِنَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ لَكَانَ مُتَمَنِّيًا. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: النَّهْيُ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: لَيْتَهُ وُجِدَ كَذَا، أَوْ لَيْتَهُ لَمْ يُوجَدْ كَذَا، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى لَا يَكُونُ تَمَنِّيًا، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُبْحَثَ عَنْ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ، وَلَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِرَادَةِ مَا يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ إِمَّا نَفْسَانِيَّةٌ، أَوْ بَدَنِيَّةٌ، أَوْ خَارِجِيَّةٌ.
أَمَّا السَّعَادَاتُ النَّفْسَانِيَّةُ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَهُوَ: الذَّكَاءُ التَّامُّ وَالْحَدْسُ الْكَامِلُ، وَالْمَعَارِفُ الزَّائِدَةُ عَلَى مَعَارِفِ الْغَيْرِ بِالْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ. وَثَانِيهِمَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَهِيَ: الْعِفَّةُ الَّتِي هِيَ وَسَطٌ بَيْنِ الْخُمُودِ وَالْفُجُورِ، وَالشَّجَاعَةُ الَّتِي هِيَ وَسَطٌ بَيْنِ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ، وَاسْتِعْمَالُ الْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْبَلَهِ وَالْجَرْبَزَةِ، وَمَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ هُوَ الْعَدَالَةُ.
وَأَمَّا السَّعَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ: فَالصِّحَّةُ وَالْجَمَالُ، وَالْعُمْرُ الطَّوِيلُ فِي ذَلِكَ مَعَ اللَّذَّةِ وَالْبَهْجَةِ.

وَأَمَّا السَّعَادَاتُ الْخَارِجِيَّةُ: فَهِيَ كَثْرَةُ الْأَوْلَادِ الصُّلَحَاءِ، وَكَثْرَةُ الْعَشَائِرِ، وَكَثْرَةُ الْأَصْدِقَاءِ وَالْأَعْوَانِ، وَالرِّيَاسَةُ التَّامَّةُ، وَنَفَاذُ الْقَوْلِ، وَكَوْنُهُ مَحْبُوبًا لِلْخَلْقِ حَسَنَ الذِّكْرِ فِيهِمْ، مُطَاعَ الْأَمْرِ فِيهِمْ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَجَامِعِ السَّعَادَاتِ، وَبَعْضُهَا فِطْرِيَّةٌ لَا سَبِيلَ لِلْكَسْبِ فِيهِ، وَبَعْضُهَا كَسْبِيَّةٌ، وَهَذَا الَّذِي يَكُونُ كسيبا مَتَى تَأَمَّلَ الْعَاقِلُ فِيهِ يَجِدْهُ أَيْضًا مَحْضَ عَطَاءِ اللَّه، فَإِنَّهُ لَا تَرْجِيحَ لِلدَّوَاعِي وَإِزَالَةِ الْعَوَائِقِ وَتَحْصِيلِ الْمُوجِبَاتِ، وَإِلَّا فَيَكُونُ سَبَبُ السَّعْيِ وَالْجِدِّ مُشْتَرَكًا فِيهِ، وَيَكُونُ الْفَوْزُ/ بِالسَّعَادَةِ وَالْوُصُولُ إِلَى الْمَطْلُوبِ غَيْرَ مُشْتَرَكٍ فِيهِ، فَهَذَا هُوَ أَقْسَامُ السَّعَادَاتِ الَّتِي يُفَضِّلُ اللَّه بَعْضَهُمْ عَلَى بعض فيها.
المسألة الثالثة: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا شَاهَدَ أَنْوَاعَ الْفَضَائِلِ حَاصِلَةً لِإِنْسَانٍ، وَوَجَدَ نَفْسَهُ خَالِيًا عَنْ جُمْلَتِهَا أَوْ عَنْ أَكْثَرِهَا، فَحِينَئِذٍ يَتَأَلَّمُ قَلْبُهُ وَيَتَشَوَّشُ خَاطِرُهُ، ثم يعرض هاهنا حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَتَمَنَّى زَوَالَ تِلْكَ السَّعَادَاتِ عَنْ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ، وَالْأُخْرَى: أَنْ لَا يَتَمَنَّى ذَلِكَ، بَلْ يَتَمَنَّى حُصُولَ مِثْلِهَا لَهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ لِمُدَبِّرِ الْعَالَمِ وَخَالِقِهِ: الْإِحْسَانُ إِلَى عَبِيدِهِ وَالْجُودُ إِلَيْهِمْ وَإِفَاضَةُ أَنْوَاعِ الْكَرَمِ عَلَيْهِمْ، فَمَنْ تَمَنَّى زَوَالَ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى اللَّه تَعَالَى فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ مِنْ خَلْقِ الْعَالَمِ وَإِيجَادِ الْمُكَلَّفِينَ، وَأَيْضًا رُبَّمَا اعْتَقَدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِتِلْكَ النِّعَمِ مِنْ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ فَيَكُونُ هَذَا اعْتِرَاضًا عَلَى اللَّه وَقَدْحًا فِي حِكْمَتِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُلْقِيهِ فِي الْكُفْرِ وَظُلُمَاتِ الْبِدْعَةِ، وَيُزِيلُ عَنْ قَلْبِهِ نُورَ الْإِيمَانِ، وَكَمَا أَنَّ الْحَسَدَ سَبَبٌ لِلْفَسَادِ فِي الدِّينِ، فَكَذَلِكَ هُوَ السَّبَبُ لِلْفَسَادِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الْمَوَدَّةَ وَالْمَحَبَّةَ وَالْمُوَالَاةَ، وَيَقْلِبُ كُلَّ ذَلِكَ إِلَى أَضْدَادِهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ نَهَى اللَّه عِبَادَهُ عَنْهُ فَقَالَ: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ مِنْ هَذَا الْحَسَدِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أُصُولِ الْأَدْيَانِ، أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٣] فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ. وَلَا مَجَالَ لِأَحَدٍ فِي مُنَازَعَتِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ وَلَا عِلَّةَ لِصُنْعِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ صَارَتْ أَبْوَابُ الْقِيلِ وَالْقَالِ مَسْدُودَةً، وَطُرُقُ الِاعْتِرَاضَاتِ مَرْدُودَةً. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَهَذَا الطَّرِيقُ أَيْضًا مَسْدُودٌ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فَهُوَ أَعْرَفُ مِنْ خَلْقِهِ بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَدَقَائِقِ الْحِكَمِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشُّورَى: ٢٧] وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَاقِلٍ مِنَ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّه سُبْحَانَهُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى
حَكَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنِ اسْتَسْلَمَ لِقَضَائِي وَصَبَرَ عَلَى بَلَائِي وَشَكَرَ لِنَعْمَائِي كَتَبْتُهُ صِدِّيقًا وَبَعَثْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الصِّدِّيقِينَ وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي وَلَمْ يَشْكُرْ لِنَعْمَائِي فَلْيَطْلُبْ رَبًّا سِوَايَ»
فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا تَمَنَّى زَوَالَ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنْ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ مَا
رَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَقُومَ مَقَامَهَا فَإِنَّ اللَّه هُوَ رَازِقُهَا»
وَالْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْحَسَدِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَمَنَّ ذَلِكَ بَلْ تَمَنَّى حُصُولَ مِثْلِهَا لَهُ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ قَالُوا: هَذَا أَيْضًا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ/ رُبَّمَا كَانَتْ مَفْسَدَةً فِي حَقِّهِ فِي الدِّينِ وَمَضَرَّةً عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي دَارًا مِثْلَ دَارِ فُلَانٍ، وَزَوْجَةً مِثْلَ زَوْجَةِ فُلَانٍ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي مَا يَكُونُ صَلَاحًا فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَمَعَادِي وَمَعَاشِي. وَإِذَا تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ كَثِيرًا لَمْ يَجِدْ دُعَاءً أَحْسَنَ مِمَّا ذكر اللَّه فِي الْقُرْآنِ تَعْلِيمًا لِعِبَادِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي

الْآخِرَةِ حَسَنَةً
[الْبَقَرَةِ: ٢٠١] وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَتَمَنَّ أَحَدٌ الْمَالَ فَلَعَلَّ هَلَاكَهُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ، كَمَا فِي حَقِّ ثَعْلَبَةَ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الآية: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ.
المسألة الرابعة: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ:
قَالَ مُجَاهِدٌ قَالَتْ أَمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّه يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا نَغْزُو، وَلَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ ضِعْفُ مَا لَنَا، فَلَيْتَنَا كُنَّا رِجَالًا فَنَزَلَتِ الْآيَةُ،
الثَّانِي: قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ قَالَ الرِّجَالُ: نَرْجُو أَنْ نُفَضَّلَ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فُضِّلْنَا فِي الْمِيرَاثِ وَقَالَ النِّسَاءُ: نَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْوِزْرُ عَلَيْنَا نِصْفَ مَا عَلَى الرِّجَالِ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ: الثَّالِثُ: لَمَّا جَعَلَ اللَّه الْمِيرَاثَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ قَالَتِ النِّسَاءُ: نَحْنُ أَحْوَجُ لِأَنَّا ضُعَفَاءُ، وَهُمْ أَقْدَرُ عَلَى طَلَبِ الْمَعَاشِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. الرَّابِعُ:
أَتَتْ وَاحِدَةٌ مِنَ النِّسَاءِ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: رَبُّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَاحِدٌ، وَأَنْتَ الرَّسُولُ إِلَيْنَا وَإِلَيْهِمْ، وَأَبُونَا آدَمُ وَأُمُّنَا حَوَّاءُ. فَمَا السَّبَبُ فِي أَنَّ اللَّه يَذْكُرُ الرِّجَالَ وَلَا يَذْكُرُنَا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. فَقَالَتْ: وَقَدْ سَبَقَنَا الرِّجَالُ بِالْجِهَادِ فَمَا لَنَا؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلْحَامِلِ مِنْكُنَّ أَجْرَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ فَإِذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ لَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا لَهَا مِنَ الْأَجْرِ، فَإِذَا أَرْضَعَتْ كَانَ لَهَا بِكُلِّ مَصَّةٍ أَجْرُ إِحْيَاءِ نَفْسٍ».
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَأَنْ يَكُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا.
أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لِكُلِّ فَرِيقٍ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبَ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّه لَهُ. الثَّانِي: كُلُّ نَصِيبٍ مُقَدَّرُ مِنَ الْمِيرَاثِ عَلَى مَا حَكَمَ اللَّه بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَرْضَى بِهِ، وَأَنْ يَتْرُكَ الِاعْتِرَاضَ، وَالِاكْتِسَابُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِمَعْنَى الْإِصَابَةِ وَالْإِحْرَازِ. الثَّالِثُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، فَأَبْطَلَ اللَّه ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَصِيبًا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا.
وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ لِكُلِّ أَحَدٍ قَدْرٌ مِنَ الثَّوَابِ يَسْتَحِقُّهُ بِكَرَمِ اللَّه وَلُطْفِهِ، فَلَا تَتَمَنَّوْا خِلَافَ/ ذَلِكَ. الثَّانِي: لِكُلِّ أَحَدٍ جَزَاءٌ مِمَّا اكْتَسَبَ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضَيِّعَهُ بِسَبَبِ الْحَسَدِ الْمَذْمُومِ وَتَقْدِيرُهُ: لَا تُضَيِّعْ مَالَكَ وَتَتَمَنَّ مَا لغيرك.
الثالث: للرجال نصيب مما اكتسبوا سبب قِيَامِهِمْ بِالنَّفَقَةِ عَلَى النِّسَاءِ، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ، يُرِيدُ حِفْظَ فُرُوجِهِنَّ وَطَاعَةَ أَزْوَاجِهِنَّ، وَقِيَامَهَا بِمَصَالِحِ الْبَيْتِ مِنَ الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ وَحِفْظِ الثِّيَابِ وَمَصَالِحِ الْمَعَاشِ، فَالنَّصِيبُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هُوَ الثَّوَابُ.
وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ، وَلَا مُنَافَاةَ.
ثُمَّ قَالَ تعالى: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ: (وَسَلُوا اللَّه مِنْ فَضْلِهِ) بِغَيْرِ هَمْزٍ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مِنَ السُّؤَالِ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ وَاوٌ أَوْ فَاءٌ، وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ.