آيات من القرآن الكريم

وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ

الْخَلَاصُ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ السَّعِيدَ لَا يَنْقَلِبُ شَقِيًّا، وَالشَّقِيَّ لَا يَنْقَلِبُ سَعِيدًا، وَكَلِمَاتُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي دَفْعِ هَذَا الْكَلَامِ مَعْلُومَةٌ، وَأَجْوِبَتُنَا عَنْهَا أَيْضًا مَعْلُومَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا وُجُوبَ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَيَّنُوا أَنَّهُ مَا بَقِيَ لَهُمْ عِلَّةٌ وَلَا عُذْرٌ بَعْدَ مَجِيءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَجِيءُ الْأَنْبِيَاءِ شَرْطًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ لَمَا بَقِيَ فِي هَذَا الْكَلَامِ فَائِدَةٌ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا سَمِعُوا مِنْهُمْ هَذَا الْكَلَامَ قَالُوا لَهُمْ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَوْ كَانَ دُخُولُهُمُ النَّارَ لِأَجْلِ أَنَّهُ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِ الْمَلَائِكَةِ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ فَائِدَةٌ، بَلْ هَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَبْقَى مُفِيدًا إِذَا قُلْنَا إِنَّهُمْ إِنَّمَا دَخَلُوا النَّارَ لِأَنَّهُمْ تَكَبَّرُوا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ يَقْبَلُوا قَوْلَهُمْ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى دَلَائِلِهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا، والله أعلم بالصواب.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٥]
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ أَهْلِ الْعِقَابِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، شَرَحَ أَحْوَالَ أَهْلِ الثَّوَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً فَإِنْ قِيلَ السَّوْقُ فِي أَهْلِ النَّارِ لِلْعَذَابِ مَعْقُولٌ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِالذَّهَابِ إِلَى مَوْضِعِ الْعَذَابِ وَالشَّقَاوَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُسَاقُوا إِلَيْهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الثَّوَابِ فَإِذَا أُمِرُوا بِالذَّهَابِ إِلَى مَوْضِعِ الْكَرَامَةِ وَالرَّاحَةِ وَالسَّعَادَةِ، فَأَيُّ حَاجَةٍ فِيهِ إِلَى السَّوْقِ؟
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالصَّدَاقَةَ بَاقِيَةٌ بَيْنَ الْمُتَّقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزُّخْرُفِ: ٦٧] فَإِذَا قِيلَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ اذْهَبْ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: لَا أَدْخُلُهَا حَتَّى يَدْخُلَهَا أَحِبَّائِي وَأَصْدِقَائِي فَيَتَأَخَّرُونَ لِهَذَا السَّبَبِ، فَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُونَ إِلَى أَنْ يُسَاقُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ قَدْ عَبَدُوا اللَّهَ تَعَالَى لَا لِلْجَنَّةِ وَلَا لِلنَّارِ، فَتَصِيرُ شِدَّةُ اسْتِغْرَاقِهِمْ فِي مُشَاهَدَةِ مَوَاقِفَ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ مَانِعَةً لَهُمْ عَنِ الرَّغْبَةِ فِي الْجَنَّةِ، فَلَا جَرَمَ يَحْتَاجُونَ إِلَى أَنْ يُسَاقُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ وَعِلِّيُّونَ لِلْأَبْرَارِ»
فَلِهَذَا السَّبَبِ يُسَاقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالرَّابِعُ: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ يُسَاقُونَ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِسَوْقِ أَهْلِ النَّارِ طَرْدُهُمْ إِلَيْهَا بِالْهَوَانِ وَالْعُنْفِ كما يفعل بالأسير إذ سِيقَ إِلَى الْحَبْسِ وَالْقَيْدِ، وَالْمُرَادُ بِسَوْقِ أَهْلِ الْجَنَّةِ سَوْقُ مَرَاكِبِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يُذْهَبُ بِهِمْ إِلَّا رَاكِبِينَ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ السَّوْقِ إِسْرَاعُهُمْ إِلَى دَارِ الْكَرَامَةِ وَالرِّضْوَانِ كَمَا يُفْعَلُ بِمَنْ يُشَرَّفُ وَيُكَرَّمُ مِنَ الْوَافِدِينَ عَلَى الْمُلُوكِ، فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ السَّوْقَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها الْآيَةَ، وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْلَةَ هَذَا الْكَلَامِ

صفحة رقم 479

شَرْطٌ وَاحِدٌ مُرَكَّبٌ مِنْ قُيُودٍ: الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: هُوَ مَجِيئُهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْقَيْدُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها فَإِنْ قِيلَ قَالَ أَهْلَ النَّارِ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا بِغَيْرِ الْوَاوِ، وَقَالَ هَاهُنَا بِالْوَاوِ فَمَا الْفَرْقُ؟ قُلْنَا الْفَرْقُ أَنَّ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ لَا تُفْتَحُ إِلَّا عِنْدَ دُخُولِ أَهْلِهَا فِيهَا، فَأَمَّا أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَفَتْحُهَا يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَى وُصُولِهِمْ إِلَيْهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص: ٥٠] فَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْوَاوِ كَأَنَّهُ قِيلَ: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا. الْقَيْدُ الثَّالِثُ: قَوْلِهِ وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ خَزَنَةَ الْجَنَّةِ يَذْكُرُونَ لِأَهْلِ الثَّوَابِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يُبَشِّرُونَهُمْ بِالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ الْآفَاتِ/ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُمْ طِبْتُمْ وَالْمَعْنَى طِبْتُمْ مِنْ دَنَسِ الْمَعَاصِي وَطَهُرْتُمْ مِنْ خُبْثِ الْخَطَايَا وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَادْخُلُوها يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الدُّخُولُ مُعَلَّلًا بِالطِّيبِ وَالطَّهَارَةِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا إِذَا كَانَ طَاهِرًا عَنْ كُلِّ الْمَعَاصِي، قُلْنَا هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى يُبَدِّلُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُونَ طَيِّبِينَ طَاهِرِينَ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هُوَ الشَّرْطُ فَأَيْنَ الْجَوَابُ؟ قُلْنَا فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْحَذْفِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ بَلَغَ فِي الْكَمَالِ إِلَى حَيْثُ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَوَابَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ وَالْوَاوُ مَحْذُوفٌ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا خَاطَبُوا الْمُتَّقِينَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ، قَالَ الْمُتَّقُونَ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فُصِّلَتْ: ٣٠] وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ أَرْضُ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِرْثِ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجَنَّةَ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما [الْبَقَرَةِ: ٣٥] فَلَمَّا عَادَتِ الْجَنَّةُ إِلَى أَوْلَادِ آدَمَ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَسْمِيَتِهَا بِالْإِرْثِ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا اللفظ مأخوذ من قول القائل: هذا أَوْرَثَ كَذَا وَهَذَا الْعَمَلُ أَوْرَثَ كَذَا فَلَمَّا كَانَتْ طَاعَتُهُمْ قَدْ أَفَادَتْهُمُ الْجَنَّةَ، لَا جَرَمَ قَالُوا وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْرَثَنَا الْجَنَّةَ بِأَنْ وَفَّقَنَا لِلْإِتْيَانِ بِأَعْمَالٍ أَوْرَثَتِ الْجَنَّةَ الثَّالِثُ: أَنَّ الْوَارِثَ يَتَصَرَّفُ فِيمَا يَرِثُهُ كَمَا يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ وَلَا مُدَافِعٍ فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْجَنَّةِ كَيْفَ شَاءُوا وَأَرَادُوا، وَالْمُشَابَهَةُ عِلَّةُ حُسْنِ الْمَجَازِ فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ حَيْثُ نَشاءُ وَهَلْ يَتَبَوَّأُ أَحَدُهُمْ مَكَانَ غَيْرِهِ؟ قُلْنَا يَكُونُ لِكُلِّ أَحَدٍ جَنَّةٌ لَا يَحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى جَنَّةِ غَيْرِهِ، قَالَ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ: الْجَنَّاتُ نَوْعَانِ، الْجَنَّاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ وَالْجَنَّاتُ الرُّوحَانِيَّةُ فَالْجَنَّاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ لَا تَحْتَمِلُ الْمُشَارَكَةَ فِيهَا، أَمَّا الرُّوحَانِيَّاتُ فَحُصُولُهَا لِوَاحِدٍ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِهَا لِلْآخَرِينَ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى صِفَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ: فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ قَالَ مُقَاتِلٌ لَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، بَلْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَمَّا حَكَى مَا جَرَى بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ الْمُتَّقِينَ مِنْ صِفَةِ ثَوَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ بَعْدَهُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ ثَوَابَ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ كَمَا أَنَّ دَارَ ثَوَابِ الْمُتَّقِينَ الْمُؤْمِنِينَ هِيَ الْجَنَّةُ، فَكَذَلِكَ دَارُ ثَوَابِ الْمَلَائِكَةِ جَوَانِبُ الْعَرْشِ وَأَطْرَافُهُ، فَلِهَذَا قَالَ: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أي محفين بِالْعَرْشِ. قَالَ اللَّيْثَ: يُقَالُ حَفَّ الْقَوْمُ بِسَيِّدِهِمْ يَحُفُّونَ حَفًّا إِذَا طَافُوا بِهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَنَقُولُ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ دَارَ ثَوَابِهِمْ هُوَ جَوَانِبُ الْعَرْشِ وَأَطْرَافُهُ ثُمَّ قَالَ: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ ثَوَابَهُمْ هُوَ عَيْنُ ذَلِكَ التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ، وَحِينَئِذٍ رَجَعَ حَاصِلُ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ أَعْظَمَ

صفحة رقم 480

دَرَجَاتِ الثَّوَابِ اسْتِغْرَاقُ قُلُوبِ الْعِبَادِ فِي دَرَجَاتِ التَّنْزِيهِ وَمَنَازِلِ التَّقْدِيسِ ثُمَّ قَالَ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ عَلَى دَرَجَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةٍ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ/ مِنْهُمْ فِي دَرَجَاتِ الْمَعْرِفَةِ وَالطَّاعَةِ حَدٌّ مَحْدُودٌ لَا يَتَجَاوَزُهُ وَلَا يَتَعَدَّاهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أَيِ الْمَلَائِكَةُ لَمَّا قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى قَضَائِهِ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ، وَهَاهُنَا دَقِيقَةٌ أَعْلَى مِمَّا سَبَقَ وَهِيَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَضَى بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، فَهُمْ مَا حَمِدُوهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْقَضَاءِ، بَلْ حَمِدُوهُ بِصِفَتِهِ الْوَاجِبَةِ وَهِيَ كَوْنُهُ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ، فَإِنَّ مَنْ حَمِدَ الْمُنْعِمَ لِأَجْلِ أَنَّ إِنْعَامَهُ وَصَلَ إِلَيْهِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا حَمِدَ الْمُنْعِمَ وَإِنَّمَا حَمِدَ الْإِنْعَامَ، وَأَمَّا مَنْ حَمِدَ الْمُنْعِمَ لَا لِأَنَّهُ وصل إليه النعمة فههنا قَدْ وَصَلَ إِلَى لُجَّةِ بَحْرِ التَّوْحِيدِ، هَذَا إِذَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلُهُ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ شَرْحُ أَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ فِي الثَّوَابِ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ شَرْحِ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ لَمَّا قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ اشْتَغَلُوا بِحَمْدِ اللَّهِ وَبِذِكْرِهِ بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ كَمَا أَنَّ حِرْفَةَ الْمُتَّقِينَ فِي الْجَنَّةِ الِاشْتِغَالُ بِهَذَا التَّحْمِيدِ وَالتَّمْجِيدِ، فَكَذَلِكَ حِرْفَةُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ حَافُّونَ حَوْلَ الْعَرْشِ الِاشْتِغَالُ بِالتَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ، ثُمَّ إِنَّ جَوَانِبَ الْعَرْشِ مُلَاصِقَةٌ لِجَوَانِبِ الْجَنَّةِ، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ يَصِيرُونَ مُتَوَافِقِينَ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي تَحْمِيدِ اللَّهِ وَتَسْبِيحِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْتِذَاذِهِمْ بِذَلِكَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ.
ثُمَّ قَالَ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أَيْ بَيْنَ الْبَشَرِ، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ التَّسْبِيحَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِالْإِلَهِيَّةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فَالْمُرَادُ وَصْفُهُ بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، فَالتَّسْبِيحُ عِبَارَةٌ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ وَهُوَ صِفَاتُ الْجَلَالِ، وَقَوْلُهُ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِقْرَارِ بِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ صِفَاتُ الْإِكْرَامِ، وَمَجْمُوعُهُمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرَّحْمَنِ: ٧٨] وَهُوَ الَّذِي كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ يَذْكُرُونَهُ قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ وَهُوَ قولهم وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة: ٣٠] وَفِي قَوْلِهِ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ مَنْ هُوَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْإِبْهَامِ التَّنْبِيهُ، عَلَى أَنَّ خَاتِمَةَ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى حَضْرَةِ الْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ لَيْسَ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَتَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: ١٠].
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ آخَرِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ، يَقُولُ مُصَنَّفُ هَذَا الْكِتَابُ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ عَجَزُوا عَنْ إِحْصَاءِ ثَنَائِكَ، فَمَنْ أَنَا، وَالْأَنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ اعْتَرَفُوا بِالْعَجْزِ وَالْقُصُورِ، فَمَنْ أَنَا، وَلَيْسَ مَعِي إِلَّا أَنْ أَقُولَ أَنْتَ أَنْتَ وَأَنَا أَنَا، فَمِنْكَ الرَّحْمَةُ وَالْفَضْلُ وَالْجُودُ وَالْإِحْسَانُ، وَمِنِّي الْعَجْزُ وَالذِّلَّةُ وَالْخَيْبَةُ وَالْخُسْرَانُ، يَا رَحْمَنُ يَا دَيَّانُ يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ أَفِضْ عَلَيَّ سِجَالَ الرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كثيرا.

صفحة رقم 481
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية