
وقرأ الجمهور: «يأتكم» بالياء من تحت. وقرأ الأعرج: «تأتكم» بتاء من فوق.
وقوله: مِنْكُمْ أعظم في الحجة، أي رسل من جنسكم لا يصعب عليكم مراميهم ولا فهم أقوالهم. وقولهم: بَلى جواب على التقرير على نفي أمر، ولا يجوز هنا الجواب بنعم، لأنهم كانوا يقولون: نعم لم يأتنا، وهكذا كان يترتب المعنى، ثم لا يجدوا حجة إلا أن كلمة العذاب حقت عليهم، أي الكلمة المقتضية من الله تعالى تخليدهم في النار، وهي عبارة عن قضائه السابق لهم بذلك، وهي التي في قوله تعالى لإبليس لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٥]. والمثوى: موضع الإقامة.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٥]
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)
قوله: الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لفظ يعم كل من يدخل الجنة من المؤمنين الذين اتقوا الشرك، لأن الذين لم يتقوا المعاصي قد يساق منهم زمر وهم الذين سبق لهم أن يغفر الله لهم من أهل المشيئة، وأيضا فالذين يدخلون النار ثم يخرجون منها قد يساقون زمرا إلى الجنة بعد ذلك فيصيرون من أهل هذه الآية، والواو في قوله: وَفُتِحَتْ مؤذنة بأنها قد فتحت قبل وصولهم إليها، وقد قالت فرقة: هي زائدة. وجواب إِذا، فُتِحَتْ، وقال الزجاج عن المبرد: جواب إِذا محذوف، تقديره بعد قوله: خالِدِينَ فيها سعدوا. وقال الخليل: الجواب محذوف تقديره: حتى جاؤوها وفتحت أبوابها، وهذا كما قدر الخليل قول الله تعالى:
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: ١٠٣] وكما قدر أيضا قول امرئ القيس: [الطويل] فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى أي أجزنا وانتحى. وقال قوم: أشار إليهم ابن الأنباري وضعف قولهم: هذه واو الثمانية مستوعبا في سورة الكهف، وسقطت هذه الواو في مصحف ابن مسعود فهي كالأولى. وسَلامٌ عَلَيْكُمْ تحية. ويحتمل أن يريد أنهم قالوا لهم سلام عليكم وأمنة لكم. و: طِبْتُمْ معناه: أعمالا ومعتقدا ومستقرا وجزاء.
وقوله تعالى حكاية عنهم: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ يريد أرض الجنة، قاله قتادة وابن زيد والسدي والوراثة هنا مستعارة، لأن حقيقة الميراث أن يكون تصيير شيء إلى إنسان بعد موت إنسان، وهؤلاء إنما ورثوا مواضع أهل النار أن لو كانوا مؤمنين. و: نَتَبَوَّأُ معناه: نتخذ أمكنة ومساكن.
ثم وصف حالة الملائكة من العرش وحفوفهم به، وقال قوم: واحد حَافِّينَ حاف. وقالت فرقة:

لا واحد لقوله: حَافِّينَ لأن الواحد لا يكون حافا، إذ الحفوف الإحداق بالشيء، وهذه اللفظة مأخوذة من الحفاف وهو الجانب، ومنه قول الشاعر [ابن هرمة] :[الطويل]
له لحظات عن حفافي سريره | إذا كرها فيها عقاب ونائل |
وقوله: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ قالت فرقة: معناه: أن تسبيحهم يتأتى بحمد الله وفضله. وقالت فرقة: تسبيحهم هو بترديد حمد الله وتكراره. قال الثعلبي: متلذذين لا متعبدين ولا مكلفين.
وقوله: وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ختم للأمر، وقول جزم عند فصل القضاء، أي إن هذا الحاكم العدل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه، ومن هذه الآية جعلت الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ خاتمة المجالس والمجتمعات في العلم. وقال قتادة: فتح الله أول الخلق بالحمد، فقال:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: ١] وختم القيامة بالحمد في هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وجعل الله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: ١] فاتحة كتابه، فبه يبدأ كل أمر وبه يختم، وحمد الله تعالى وتقديسه ينبغي أن يكون من المؤمن كما قال الشاعر: [الطويل]
وآخر شيء أنت في كل ضجعة | وأول شيء أنت عند هبوبي |