آيات من القرآن الكريم

وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ

ولما ذكر أحوال الكافرين، أتبعه أحوال أضدادهم فقال: ﴿وسيق﴾ وسوقهم إلى المكان الطيب يدل على أن موقفهم كان طيباً لأن من كان في أدنى نكد فهيئ له مكان هنيء لا يحتاج في الذهاب إليه إلى سوق، فشتان ما بين السوقين! هذا سوق إكرام، وذاك سوق إهانة وانتقام، وهذا لعمري من بدائع أنواع البديع، وهو أن يأتي سبحانه بكلمة في حق الكفار فتدل على هوانهم بعقابهم، ويأتي بتلك الكلمة بعينها وعلى هيئتها في حق الأبرار فتدل على إكرامهم بحسن ثوابهم، فسبحان من أنزله معجز المباني، متمكن المعاني، عذب الموارد والمثاني.
ولما كان هذا ليس لجميع السعداء بل للخلص منهم، دل على ذلك بقوله: ﴿الذين اتقوا﴾ أي لا جميع المؤمنين ﴿ربهم﴾ أي الذين كلما زادهم إحساناً زادوا له هيبة، روى أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه

صفحة رقم 567

عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة، فقيل: ما أطول هذا اليوم؟ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة» وروى الطبراني وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «تجتمعون يوم القيامة» - فذكر الحديث حتى قال: «قالوا: فأين المؤمنون يومئذ؟ قال: توضع لهم كراسي من نور ويظلل عليهم الغمام يكون ذلك اليوم أقصر على المؤمنين من ساعة من نهار» ويمكن أن يكون السوق إشارة إلى قسر المقادير للفريقين على الأفعال التي هي أسباب الدارين ﴿إلى الجنة زمراً﴾ أهل الصلاة المنقطعين إليها المستكثرين منها على حدة، وأهل الصوم كذلك - إلى غير من الأعمال التي تظهر آثارها على الوجوه.
ولما ذكر السوق، ذكر غايته بقوله: ﴿حتى إذا جاءوها﴾ ولما كان إغلاق الباب عن الآتي يدل على تهاون به، وفي وقوفه إلى أن يفتح له نوع هوان قال: ﴿وفتحت﴾ أي والحال أنها قد فتحت ﴿أبوابها﴾ أي إكراماً لهم قبل وصولهم إليها بنفس الفتح وبما يخرج إليهم

صفحة رقم 568

من رائحتها، ويرون من زهرتها وبهجتها، ليكون ذلك لهم سائقاً ثانياً إلى ما لم يروا مثله ولا رأوا عنه ثانياً.
ولما ذكر إكرامهم بأحوال الدار، ذكر إكرامهم بالخزنة الأبرار، فقال عطفاً على جواب «إذا» بما تقديره: تلقتهم خزنتها بكل ما يسرهم: ﴿وقال لهم خزنتها﴾ أي حين الوصول: ﴿سلام عليكم﴾ تعجيلاً للمسرة لهم بالبشارة بالسلامة التي لا عطب فيها. ولما كانت داراً لا تصلح إلا للمطهرين قالوا: ﴿طبتم﴾ أي صلحتم لسكناها، فلا تحول لكم عنها أصلاً، ثم سببوا عن ذلك تنبيهاً على أنها دار الطيب، فلا يدخلها إلا مناسب لها، قولهم: ﴿فادخلوها﴾ فأنتج ذلك ﴿خالدين *﴾ ولعل فائدة الحذف لجواب «إذا» أن تذهب النفس فيه من الإكرام كل مذهب وتعلم أنه لا محيط به الوصف، ومن أنسب الأشياء أن يكون دخولهم من غير مانع من إغلاق باب أو منع بواب، بل مأذوناً لهم مرحباً بهم إلى ملك الأبد.
ولما كان التقدير: فدخلوها، عطف عليه قوله: ﴿وقالوا﴾ أي جميع الداخلين: ﴿الحمد﴾ أي الإحاطة بأوصاف الكمال، وعدلوا إلى الاسم الأعظم حثاً لأنفسهم على استحضار جميع ما تمكنهم معرفته من الصفات فقالوا: ﴿لله﴾ أي الملك الأعظم ﴿الذي صدقنا وعده﴾ في قوله تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً فطابق قوله الواقع

صفحة رقم 569

الذي وجدناه في هذه الساعة ﴿وأورثنا﴾ كما وعدنا ﴿الأرض﴾ التي لا أرض في الحقيقة غيرها وهي أرض الجنة التي لا كدر فيها بوجه وفيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، بأن جعل حالنا فيها في تمام الملك وعدم التسبب في الحقيقة فيه حال الوارث الذي هو بعد موروثه ولا شيء بعده ولا منازع له حال كوننا ﴿نتبوأ﴾ أي نتخذ منازل هي أهل لمن خرج منها أن يشتهي العود إليها، وبينوا الأرض بقولهم في موضع الضمير: ﴿من الجنة﴾ أي كلها ﴿حيث نشاء﴾ لاتساعها فلا حاجة لأحد فيها أن ينازع أحداً في مكان أصلاً، ولا يشتهي إلا مكانه. ولما كانت بهذا الوصف الجليل، تسبب عنه مدحها بقوله: ﴿فنعم﴾ أجرنا - هكذا كان الأصل، ولكنه قال: ﴿أجر العاملين *﴾ ترغيباً في الأعمال وحثاً على عدم الاتكال.
ولما ذكر سبحانه الذين ركب فيهم الشهوات، وما وصلوا إليه من المقامات، أتبعهم أهل الكرامات الذين لا شاغل لهم عن العبادات، فقال صارفاً الخطاب لعلو الخبر إلى أعلى الخلق أنه لا يقوم بحق هذه الرؤية غيره: ﴿وترى﴾ معبراً بأخص من الإبصار الأخص من النظر كما بين في البقرة في قوله تعالى ﴿وإن القوة لله جميعاً﴾ [البقرة: ١٦٥] ﴿الملائكة﴾ القائمين بجميع ما عليهم من الحقوق ﴿حافين﴾ أي محدقين ومستديرين وطائفين في جموع لا يحصيها إلا الله. من الخف وهو الجمع، والحفة

صفحة رقم 570

وهو جماعة الناس، والأعداد الكثيرة، وهو جمع حاف، وهو الواحد من الجماعة المحدقة.
ولما كان عظيم الشيء من عظم صاحبه، وكان لا يحيط بعظمة العرش حق الإحاطة إلا الله تعالى، أشار إلى ذلك بإدخال الجاز فقال: ﴿من حول العرش﴾ أي الموضع الذي يدار فيه به ويحاط به منه، من الحول وهو الإحاطة والانعطاف والإدارة. محدقين ببعض أحفته أي جوانبه التي يمكن الحفوف بها بالقرب منها يسمع لحفوفهم صوت بالتسبيح والتحميد والتقديس والاهتزاز خوفاً من ربهم، فإدخال ﴿من﴾ يفهم أنهم مع كثرتهم إلى حد لا يحصيه إلا الله، لا يملؤون ما حوله، حال كونهم ﴿يسبحون بحمد﴾ وصرف القول إلى وصف الإحسان مدحاً لهم بالتشمير لشكر المنعم وتدريباً لغيرهم فقال: ﴿ربهم﴾ أي يبالغون في التنزيه عن النقص بأن يتوهم متوهم أنه محتاج إلى عرش أو غيره، وأن يحويه مكان متلبسين بإثبات الكمال للمحسن إليهم بإلزامهم بالعبادة من غير شاغل يشغلهم، ولا منازع من شهوة أو حظ يغفلهم، تلذذاً بذكره وتشرفاً بتقديسه، ولأن حقه إظهار تعظميه على الدوام كما أنه متصل الإنعام.
ولما تقدم ذكر الحكم بين أهل الشهوات بما برز عليهم من الشهادات،

صفحة رقم 571

ذكر هنا الحكم بينهم وبين الملائكة الذين فاضوا في أصل خلقهم بقولهم ﴿أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء﴾ الآية فقال: ﴿وقضى بينهم﴾ أي بين أهل الشهوات وأهل العصمة والثبات. ولما كان السياق عاماً في الترغيب والترهيب عدلاً وفضلاً، بخلاف سياق سورة يونس عليه السلام، قال: ﴿بالحق﴾ بأن طوبق بما أنزلنا فيهم في الكتب التي وضعناها لحسابهم الواقع، فمن طغى منهم أسكناه لظى بعدلنا، ومن اتقى نعمناه في جنة المأوى بفضلنا، لجهادهم ما فيهم من الشهوات حتى ثبتوا على الطاعات، مع ما ينزعهم من الطبائع إلى الجهالات، وأما الملائكة فأبقيناهم على حالهم في العبادات: ﴿وقيل﴾ أي من كل قائل: آخر الأمور كلها ﴿الحمد﴾ أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال، وعدل بالقول إلى ما هو حق بهذا المقام فقال: ﴿لله﴾ ذي الجلال والإكرام، علمنا ذلك في هذا اليوم عمل اليقين كما كنا في الدنيا نعلمه علم اليقين.
ولما كان ذلك اليوم أحق الأيام بمعرفة شمول الربوبية لاجتماع الخلائق وانفتاح البصائر وسعة الضمائر، قال واصفاً له سبحانه بأقرب الصفات إلى الاسم الأعظم: ﴿رب العالمين *﴾ أي الذي ابتدأهم،

صفحة رقم 572

أولاً من العدم وأقامهم ثانياً بما رباهم به من التدبير، وأعادهم ثالثاً بعد إفنائهم بأكمل قضاء وتقدير، وأبقاهم رابعاً لا إلى خير، فقد حقق وعده كما أنزل في كتابه وصدق وعيده لأعدائه كما قال في كتابه، فتحقق أنه تنزيله، فقد ختم الأمر بإثبات الكمال باسم الحمد عند دخول الجنان والنيران كما ابتدأ به عند ابتداء الخلق في أول الإنعام، فله الإحاطة بالكمال في أن الأمر كما قال كتابه على كل حال، فقد انطبق آخرها على أولها بأن الكتاب تنزيله لمطابقة كل ما فيه للواقع عندما يأتي تأويله، وبأن الكتاب الحامل على التقوى المسببة للجنة أنزل للإبقاء الأول، فمن أتبعه كان له سبباً للإبقاء الثاني، وهذا الآخر هو عين أول سورة غافر فسبحان من أنزله معجزاً نظامه، فائتاً القوى أول كل شيء منه وختامه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وأهل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين.

صفحة رقم 573

مقصودها الاستدلال على آخر التي قبلها من تصنيف الناس في الآخرة إلى صنفين، وتوفية كل ما يستحقه على سبيل العدل، بأن الفاعل ذلك له العزة الكاملة والعلم الشامل، وقد بين ما يغضبه وما يرضيه غاية البيان على وجه الحكمة، فمن لم يسلم أمره كله إليه وجادل في آياته الدالة على القيامة أو غيرها بقوله أو فعله فإنه يخزيه فيعذبه ويرديه، وعلى ذلك دلت تسميتها بغافر، فإنه لا يقدر على غفران ما يشاء لمن يشاء إلا كامل العزة، ولا يعلم جميع الذنوب ليسمى غافراً لها إلا بالغ العلم،

صفحة رقم 1

وكذا في جميع الأوصاف التي في الآية من المثاب والعقاب، وكذا الطول فإنه لا يقدر على التطول المطلق إلا من كان كذلك، فإن من كان ناقص العزة فهو قابل لأنه يمنعه من بعض التطولات مانع، ولن يكون ذلك إلا بنقصان العلم، وكذا الدلالة بتسميتها بالمؤمن فإن قصته تدل على هذا المقصد ولا سيما أمر القيامة الذي هو جل المقصود والمدار الأعظم لمعرفة المعبود) بسم الله (الملك الأعظم الذي يعطي كلاً من عباده ما يستحقه، فلا يقدر أحد أن يناقض في شيء من ذلك لا يعارض) الرحمن (الذي عمهم برحمته في الدنيا بالخلق والرزق والبيان لا خفاء معه) الرحيم (الذي يخص برحمته من يشاء من عباده فيجعله حكيماً، وفي تلك الأرض وملكوت السماء عظيماً)

صفحة رقم 2
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن، برهان الدين إبراهيم بن عمر بن حسن الرُّبَاط بن علي بن أبي بكر البقاعي
الناشر
دار الكتاب الإسلامي، القاهرة
عدد الأجزاء
22
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية