
فإن الله سبحانه يقول «إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» ولا تنكثوا ولا تعينوا ناكثا فإن الله يقول: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ».
وقد وقع مثل هذا في كلام العرب فقد قالوا: من حفر لأخيه جبّا وقع فيه منكبّا والعبرة في الأمور بالعواقب، والله يمهل ولا يهمل، ووراء الدنيا الآخرة، فإن لم يجاز الماكر في هذه الدار فسيلقى الجزاء في الآخرة «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ».
ثم هددهم بأن يحل بهم مثل ما أحل بمن قبلهم من العذاب فقال.
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك إلا أن أحل بهم من نقمتى على شركهم بي وتكذيبهم رسولى- مثل ما أحللت بمن قبلهم من أمثالهم الذين كذبوا رسلهم.
ثم علل انتظارهم للعذاب وتهديدهم به بقوله:
(فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) أي وهذه سنة الله في كل مكذب، فلا تغير ولا تبدل، ولن يجعل الرحمة موضع العذاب، ولن يحوّل العذاب من نفس إلى أخرى كما قال: «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى».
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)

المعنى الجملي
بعد أن هدد المشركين بجريان سنته فيهم، بإهلاكهم كما أهلك المكذبين من قبلهم- نبههم إلى ذلك بما يشاهدونه من آثارهم في رحلاتهم للتجارة في الشام والعراق واليمن، فقد خلت منهم منازلهم وسلبوا ما كانوا فيه من النعيم بعد كمال القوة وكثرة العدد والعدد، وكثرة المال والولد، وما أغنى ذلك عنهم شيئا ولا دفع عنهم من عذابه لما جاء أمره، لأنه لا يعجزه شىء إذا أراده.
ثم ذكر حلمه بعباده وأنه لو آخذهم بما اجترحوا من السيئات ما ترك على ظهر الأرض إنسانا يدبّ على وجهها، لكنه أخّر عقابهم إلى يوم القيامة فيحاسبهم ويوفى كل عامل جزاء عمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهو البصير بحال عباده
الإيضاح
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أي أولم يسر هؤلاء المشركون بالله في الأرض التي أهلكنا فيها أهلها، بكفرهم بنا وتكذيبهم، رسلنا أثناء رحلاتهم التي يسلكونها إلى طريق الشام فى تجاراتهم، فينظروا كيف كانت عاقبتهم- ألم نهلكهم ونخرب مساكنهم ونجعلهم مثلا لمن بعدهم، فيتعظوا بهم ويزدجروا عما هم عليه من الشرك بعبادتهم الآلهة من الأوثان والأصنام؟
ثم بين أنهم إذا ساروا على تمردهم وعنادهم فهم لا يفلتون من عقابه فقال:
(وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي ولن يعجز الله هؤلاء المشركون به المكذبون لرسوله، فيسبقوه هربا وينجوا من الهلاك إذا هو أراد ذلك بهم، لأنه لا يعجزه شىء يريده في السموات ولا في الأرض.

وغير خاف ما في هذا من شديد الوعيد وعظيم التهديد لهم.
ثم علل عدم عجزه عن شىء فيهما بقوله:
(إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) أي إنه تعالى عليم بمن يستحق أن تعجّل له العقوبة ومن قد تاب وأناب إلى ربه ورجع عن ضلالته، قدير على الانتقام ممن شاء منهم، وعلى توفيق من أراد الإيمان.
ولما كان المشركون يستعجلون بالوعيد استهزاء فيقولون «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» بيّن أنه لا يعاجلهم بالعقوبة على ما كسبوا، لعلهم ينيبون أو ينيب بعضهم إلى ربه، ويثوب إلى رشده فقال:
(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) أي ولو يعاقب الله الناس ويكافئهم بما عملوا من الذنوب واجترحوا من الآثام ما ترك على ظهر الأرض نسمد تدب لشؤم المعاصي التي يفتنّون فيها (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي ولكن يؤخر عقابهم ومؤاخذتهم بما كسبوا إلى أجل حدده عنده لا يقصرون دونه ولا يتجاوزونه إذا بلغوه.
(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) أي فإذا حل ذلك الأجل فإن الله يجازى المكلفين بما عملوا من خير أو شر، لا يخفى عليه شىء من أمرهم، دقّ أو جلّ، ظهر أو بطن.
اللهم أحسن أعمالنا ظواهرها وبواطنها، وتقبل منا ما نعمل مما يرضيك إنك أنت الخبير البصير.

مجمل ما اشتملت عليه السورة الكريمة من حكم وأحكام
(١) الأدلة على قدرة الله بإبداعه للكون وأنه المنعم المتفضل.
(٢) تذكير الناس بالنعم ليشكروها.
(٣) تثبيت فؤاد رسوله بذكر قصص المكذبين للأنبياء والمرسلين.
(٤) نداء الناس عامة بأن يتحلّوا بالفضائل، ويتخلّوا عن الرذائل، ولا يتبعوا خطوات الشيطان، وينظروا فيما أبدع الرّحمن، من الآيات في الأرض والسموات.
(٥) ضرب الأمثال لما سلف من القسمين، وإيضاح الطائفتين المؤمنة والكافرة.
(٦) تقسيم المؤمنين إلى علماء محققين، وصالحين متقين، ثم تقسيمهم من حيث العمل أقساما ثلاثة.
(٧) وصف عاقبة الكافرين والمؤمنين وما يلقاه كل منهما يوم القيامة.