آيات من القرآن الكريم

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ۖ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا ۖ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ

رَزَقْناهُمْ»
من فضلنا مما هو فاضل عن كفايتهم «سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ» بذلك الإنفاق «تِجارَةً» مع الله تعالى فقد نيل ثوابه «لَنْ تَبُورَ» ٢٩ تكسد بل تتداول دائما، وقد تعهد الله لمثل هؤلاء على لسان رسوله بقوله واعدا مؤكدا «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ» كاملة على أعمالهم هذه «وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» زيادة عظيمة، وما بالك بزيادة الله أيها القارئ فهي وهو أعلم كما قال ابن عباس مما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم تخطر على قلب بشر «إِنَّهُ غَفُورٌ» كثير المغفرة لذنوب عباده المنفقين في سبيله «شَكُورٌ» ٣٠ لعملهم هذا
«وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «مِنَ الْكِتابِ» هو من كلامنا الأزلى ليس بسحر ولا كهانه ولا شعر، وإنما «هُوَ الْحَقُّ» الذي لا مرية فيه وقد أنزلناه «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب المتقدمة لاشتماله عليها وزيادة كثيرة لم تذكر فيها ولم تنزل على أحد قبلك، لأنه خاتمة الكتب أنك خاتم الرسل وهو ناسخ لكل ما يخالفه مما في الكتب القديمة «إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ» ٣١ ببواطن الأمور وظواهرها، يحيط بهم لا يخفى عليه شيء من أمرهم «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ» القرآن المنزل عليك يا سيد الرسل «الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» أمتك المخلصين الجارين على طريقك، لأننا اصطفيناهم لك من بعدهم كما اصطفيناك لهم من بعد الرسل، قال ابن عباس يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه اصطفاهم على سائر الأمم، واختصّهم بكرامته، بأن جعلهم اتباع سيد الرسل، وخصّهم بأفضل الكتب، وجعلهم خير الأمم ثم قسمهم جل شأنه أقساما ثلاثة فقال «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» وهم المرجون لأمر الله مثل الآتي ذكرهم في الآية ١٠٨ من سورة التوبة في ج ٣ فهؤلاء إن شاء عذّبهم بعدله، وإن شاء عفا عنهم بفضله «وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» خلط عملا صالحا وآخر سيئا وهؤلاء مقطوع لهم بالنتيجة بأنهم من أهل الجنة، لقوله تعالى «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ» الآية ١٠٤ من سورة التوبة لأن عسى فيها للتحقيق وهكذا كل عسى بالبينة لله تعالى «وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ» وهؤلاء يدخلون الجنة بغير

صفحة رقم 128

حساب، المرادون في قوله تعالى (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) الآية ١٠٢ من التوبة أيضا، كما سنبين هذا كله في محله في تفسير هذه الآيات وآخر سورة الواقعة الآتية إن شاء الله تعالى قال عمر رضي الله عنه على المنبر بعد تلاوة هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له، وجاء أيضا عنه صلى الله عليه وسلم: السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة، وأما الظالم فيحبس حتى يظن أنه لا ينجو، ثم تناله الرحمة فيدخل الجنة- رواه أبو الدرداء- وقال ابن عباس: السابق المخلص، والمقتصد المرائي، والظالم الكافر بالنعمة غير الجاحد لها. وقال الربيع بن أنس: الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد صاحب الصغائر، والسابق المجتنب لهما. فوافق هذا التأويل القرآن والحديث والأثر وقول السلف الصالح، فتدبر وانظر لنفسك أي الدار تختار.
واعلم أن المتلبس بإحدى هذه الخصال الثلاث، ما كان تلبسه إلا «بِإِذْنِ اللَّهِ» وأمره وإرادته وتوفيقه وقضائه وقدره «ذلِكَ» إيراث الكتب والاصطفاء لمحمد ﷺ وأمته «هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» ٣٢ الذي لا أكبر منه، إذ لم يعطه أحدا قبلهم، فكل الأمم لم تختص بما خصت به هذه الأمة كما أن رسولها خص بأشياء لم تختص بها الأنبياء قبله، راجع تفسير الآية ١٥٨ من سورة الأعراف المارة، وأي فضل أعظم من هذا، لأن السابقين منهم يدخلون الجنة فور خروجهم من قبورهم، والمقتصدين بعد الحساب، والظالمين بعد العذاب. ثم بين جل بيانه بعض ذلك بقوله «جَنَّاتُ عَدْنٍ» إقامة دائمة «يَدْخُلُونَها» بمحض الفضل لا دخل للكسب فيها «يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً» مرصعا فيها، ومن هنا تعلم أهل الدنيا ترصيع الذهب بالأحجار الكريمة «وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ» ٢٣ ناعم زيادة في التنعم والترف، ولما رأى أهل الجنة ما غمرهم به الله من فضله شكروه «وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ» الذي كنا نكابده في الدنيا خوف عاقبة هذا اليوم في عدم قبول الأعمال والمؤاخذة على ما صدر منّا. روى البغوي عن أبي عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس

صفحة رقم 129

على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رءوسهم، يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن «إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ» ٣٤ ومن فضله وكرمه لعباده أنه يغفر الذنب العظيم ويشكر العمل القليل «الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ» وهي الجنة لأنها دائمة لا يبرح عنها أهلها ولا يفارقونها عطاء «مِنْ فَضْلِهِ» ولطفه وعطفه، لأن العمل مهما كان كثيرا لا يؤهل صاحبه ما ذكره الله له هنا. ومن تمام النعمة أنه «لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ» تعب ولا مشقة «وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ» ٣٥ كلال وملالة ولا فتور وإعياء، ولم تكرر هذه الكلمة إلا في الآية ٢٨ من سورة ق المارة وهذه الأحوال لا تحصل إلا بنتيجة العناء، وهذا من جملة ما من الله به على عباده المؤمنين. هذا أيها الناس حال أهل الجنة جعلنا الله من أهلها، أما حال أهل النار فانظروا ماذا يحلّ بهم من المنتقم الجبار واسألوا الله العافية.
مطلب نذر الموت ومعنى الغيب:
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ» بعذابها «فَيَمُوتُوا» مرة ثانية ويستريحوا منه «وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها» فيها بل يبقى مشتدا عليهم «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الفظيع الذي لا تقواه القوى «نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ» ٣٦ لآياتنا جحود لنعمنا، مكذب لرسلنا، ثم بين حالهم فيها أجارنا الله منها بقوله «وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها» يتصايحون من شدّة الألم ودوامه بأصوات عالية، ولما لم ينفعهم ولما يرد عليهم، يعودون فيستغيثون قائلين «رَبَّنا أَخْرِجْنا» من هذا العذاب وأعدنا إلى الدنيا «نَعْمَلْ صالِحاً» كما تحب وترضى فنطيع الرسل، ونصدق الكتب، ونؤمن باليوم الآخر، ونعترف لك بالوحدانية الفردة، ونعمل يا ربنا «غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» في الدنيا قبلا من التكذيب والجحود والإشراك، فيوبخهم الله تعالى بقوله «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ» في الدنيا «ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ» لو أردتم ذلك لأنا أمهلناكم مدة كافية ما بين الخامسة عشرة من أعماركم إلى الستين، فأكثر وأقل، ولم يجدر

صفحة رقم 130

بكم ذلك الإمهال. وقيل المراد بهذا العمر هو سن البلوغ الثامنة عشرة سنة فقط، أو سن الكمال الأربعون سنة، أو سن الانتهاء الستون فما فوق، وقد ذكّرناكم على لسان رسلنا وخوفناكم سوء العاقبة فلم تتذكروا ورفضتم كتبي ورسلي وأنكرتم وحدانيتي «وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ» من قبل فأبيتم قبول إرشاده، ولم تعتبروا بما جرى على من قبلكم، ولم يؤثر فيكم ما ترون من علامات الموت، وأصررتم على ظلمكم «فَذُوقُوا» عذاب النار التي كنتم تكذبون بها لأنكم ظلمة «فَما لِلظَّالِمِينَ» اليوم لدينا «مِنْ نَصِيرٍ» ٣٧ يخلصهم مما هم فيه. هذه الآية جواب من الله عز وجل للظالمين وتوبيخ لهم على عدم رجوعهم إلى الله في الدنيا مع تمكنهم منه خلال المدة التي عاشوها فيها. أخرج الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة والنسائي وغيره عن سهل بن سعد قال قال رسول الله ﷺ أعذر الله تعالى إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة. وعنه بإسناد الثعلبي قال قال رسول الله ﷺ أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين. والنذير في الآية يطلق على النبي فكل نبي نذير لأمته من بين يدي عذاب أليم ويطلق على القرآن لأن فيه من التحذير والأمر والنهي ما يكفي لمن كان له قلب، ويطلق على الشيب لأنه نذير الموت فقد جاء في الأثر: ما من شعرة تبيضّ إلا قالت لأختها استعدي للموت. ويطلق على كلّ واعظ آمر بالمعروف ناه عن المنكر. ونذر الموت غير الشيب كثيرة، منها المرض والحمى وموت الأقران والأقارب وبلوغ سن الهرم وقيل فيه:

رأيت الشيب من نذر المنايا لصاحبه وحسبك من نذير
وقائلة تخضّب يا حبيبي وسود شيب شعرك بالعبير
فقلت لها المشيب نذير عمري ولست مسودا وجه النذير
قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ»
مع خفائه ودقته فعلم كل شيء في العالم داخل في هذا العلم، لأنه ظاهر بالنسبة لذلك، لأن السرّ والعلن عنده سواء، وهذا الغيب هو بالنسبة للملائكة والجن، وإلا فلا غيب عليه البتة راجع الآية ٢٦ من سورة الجن المارة «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ»
٣٨

صفحة رقم 131

والذي يعلم خفايا القلوب، لا يخفى عليه علم غيرها وذات الصدور مضمراتها وهي تأنيث ذي الموضوع لمعنى الصحبة، أي فمن جملة علمه تعالى يعلم أنهم بعد اعترافهم بهذا العذاب (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الإنكار والجحود والتكذيب- راجع تفسير الآية ٢٩ من سورة الأنعام في ج ٢ قال تعالى «هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ» يخلف بعضكم بعضا «فِي الْأَرْضِ» كلما انقرض جيل خلفه غيره، فالأحرى أن تعتبروا بمن سلف من الأمم الخالية، لأن مصيركم سيكون مثلهم، فمن آمن فله ثواب إيمانه، وكذلك «فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» يعاقب بمقتضاه «وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً» بغضا وكرها شديدا في الدنيا، واحتقارا وذلا وحرمانا من كل خير «وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً» ٣٩ في الآخرة، وذلك هو الخسران المبين وكرر الجملة تأكيدا وإيذانا بأن مصير الكفر اقتضاءان قبيحان مرّ ان: المقت في الدنيا والخسارة في الآخرة، فلو لم يكن الكفر مستوجبا غير هذين لكفى به شرا، فكيف إذا كان يستوجب أشياء أخر؟ «قُلْ» يا سيّد الرسل لهم هذا لعلّهم يرجعون إليّ قبل أن يمتنع عليهم لا يمكنهم الرجوع، ثم يقول لهم جل قوله تبكينا وتقريعا مما يزيد في أسفهم «أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من جميع الأوثان النامية والجامدة «أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ» حتى يكونوا شركاء فيها، أروني أي جزء من أجزائها خلقوه حتى جعلتموهم شركائي في العبادة وصيّرتموهم آلهة وعبدتموهم: فإذا كانوا لم يخلقوا شيئا منها فأخبروني «أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ» معي وهل خلقوا منها شيئا، وهل يعلمون ما فيها وما مصيرها؟ وإذا لم يكن لهم شيء من ذلك أيضا، فأعلموني «أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً» ذكر فيه أن لهم شيئا من ذلك «فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ» حتى يظنّوا بأن لهم علاقة في خلق السموات والأرض أو شركة فيها «بَلْ» ليس لهم شيء فيها أصلا ولا علم لهم بما فيهما، وان ما اتخذوه من تلقاء أنفسهم جمادا عنادا، وما انتحلوه من عبادة الملائكة وغيرهم

صفحة رقم 132
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية