
على ذلك. كما أن معنى التسلية في الآية واضح نصّا وروحا. وقد أشبعنا الكلام على ذلك في سياق سورة المدثر.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٩ الى ١٤]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)
(١) تثير: تحرك.
(٢) يبور: يفسد ويهلك ويحبط.
(٣) أزواجا: أصنافا أو ذكرانا وإناثا أو أزواجا وزوجات.
(٤) سائغ: مريء سهل التقبل.
(٥) حلية: الأحجار والمعادن الكريمة التي يتزين بها والمقصود هنا ما يستخرج من البحار من مرجان ولؤلؤ.
(٦) قطمير: قشرة النواة.
الآيات: استمرار استطرادي للسياق السابق بسبيل التدليل على قدرة الله في

مظاهر الكون وآياته ونواميسه، وتوكيد ربوبيته واستحقاقه للخضوع والذكر والشكر وحده، وتقريع الكفار وتسفيههم. فقدرة الله تعالى وعظمته ماثلتان في الريح وما تحركه من سحاب وما ينزل من هذا السحاب من ماء على الأرض التي تكون ميتة فإذا هي بعد ذلك تعجّ بالحياة، مما فيه دليل على قدرة الله على بعث الناس ونشرهم بعد الموت، وفي خلق الناس من تراب ثم من نطفة ثم صيرورتهم أزواجا مما فيه دليل على يسر إحاطة علمه بكل شأن من شؤونهم من حمل ووضع وطول عمر وقصره. وفي البحار وما بينها من فروق في الطعم وما فيها للناس من منافع عظيمة من لحم طري يأكلونه وأحجار كريمة يتحلون بها وفلك تجري فيها فتيسر لهم أسباب الرزق. وفي حركة الشمس والقمر وتعاقب الليل والنهار في نطاق دقيق محكم فيه منافع عظيمة للناس.
ففي كل هذا دلائل باهرة على أن الله هو الرب الحقيقي للناس الذي له الملك والحكم وحده في الأكوان، والذي يستحق وحده الخضوع والعبادة والذكر والشكر، أما الذين يشركهم المشركون في الدعاء معه ويدعونهم من دونه من الآلهة والأرباب فإنهم لا يملكون من هذا الكون العظيم شيئا حتى ولا قشرة نواة، وهم لا يسمعون دعاء الداعين، وليس في استطاعتهم أن يستجيبوا لشيء من مطالبهم حتى لو سمعوا دعاءهم، ولسوف يتبرأون يوم القيامة من مشركيهم، وهذا هو الحق الذي لا يتحمل مراء لأنه صادر من خبير عليم. والكلمة الحق هي ما كان صادرا من خبير عليم.
وقد تخلل الآيات التي قررت ما شرحناه تقريرات متصلة بالدعوة وأهدافها، ومحتوية تقريعات وإنذارات للكفار كنتيجة لما هدفت إليه الآيات. فالعزة الحقيقية لله جميعا لا يشاركه فيها مشارك. وعلى من أراد الوصول إلى الكرامة والرضاء الرباني أن يسلك سبيله فيقول الحق ويعمل الخير، أما الذين يمكرون ويتآمرون على السوء ويدبرون المكائد والأذى للناس فلهم العذاب الشديد، والله تعالى كفيل بإحباط مكرهم وإفساد مكائدهم.

والآيات من روائع المجموعات القرآنية التي يخاطب بها العقل والقلب معا والتي تستمد براهينها من مشاهدات الناس وواقع أمورهم في كل زمن ومكان.
وهي قوية نافذة في أسلوبها وما استهدفته من تدعيم للدعوة وأهدافها ومبادئها، وهي مستمرة المدى والتلقين بنفس القوة والنفوذ.
وقد تكرر مثلها تبعا لتكرر المواقف والمناسبات.
ولقد أورد البغوي عن ابن مسعود قال «إذا حدثتكم حديثا أنبأتكم بمصداقه من كتاب الله عز وجل. ما من عبد مسلم يقول خمس كلمات: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله» إلا أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ثم صعد بهن فلا يمرّ بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بها وجه ربّ العالمين. ومصداق ذلك من كتاب الله عز وجل قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ... [١٠] ».
وهذا الحديث لم يرد في الصحاح. ومع ذلك فالمتبادر أن الصحابي الجليل لم يقصد بقوله إذا صح عنه أن هذه الكلمات كل الكلم الطيب الذي يصعد إلى الله. وأن هذا التعبير شامل لكل كلم طيب فيه تسبيح وفيه إصلاح وفيه دعوة إلى الخير وفيه أمر بالمعروف وفيه نهي عن المنكر.
ولقد عقب البغوي على الحديث فقال إن من ذكر الله بلسانه ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله. وإن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأفعال وهذا غاية السداد.
تعليق على جملة وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ
ولقد توقف المفسرون عند هذه الجملة فرووا عن أهل التأويل تأويلات متعددة حسب تلقي حرف (الهاء) في (عمره)، حيث تلقاه بعضهم للإنسان مطلقا سواء أكان طويل العمر أو قصيره، فقال إن أعمار الناس من قصر وطول مقدرة