على ما جاء في الآية الثانية هي أرض خيبر. وإن عبارة الآية بمثابة بشرى سابقة وهناك من أغرب فقال إنها مكة أو بلاد الروم وبلاد فارس «١». والذي يستلهم من روح الآية ومضمونها أنها أرض كان يملكها بنو قريظة بعيدة عن مساكنهم استولى عليها المسلمون في ظروف الوقعة في جملة ما استولوا عليه من أموالهم وأملاكهم.
هذا، والذي نرجحه أن الآيتين نزلتا مع الآيات السابقة في سياق واحد. وأن هذه وتلك قد نزلتا بعد الوقعتين بسبيل ما احتوته من تعقيب وتذكير وتنويه وتنديد ومنّ بفضل الله ونصره.
هذا، والآية [٢٦] وإن كانت حكت ما فعله النبي ﷺ والمسلمون في بني قريظة فإنها انطوت على إقرار رباني لما فعلوه جزاء الموقف الشديد الخطورة من الغدر والخيانة الذي وقفوه. ولقد كان نزولهم على حكم النبي بمثابة استسلام واستئسار. فبعدما فعله النبي ﷺ وأقرّه الله عليه من قتل بعضهم واسترقاق بعضهم تشريعا يقاس عليه في الظروف المتأتية والله تعالى أعلم.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢٨ الى ٣٤]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤).
(١) فاحشة: هنا بمعنى المعصية الكبيرة والنشوز وسوء الخلق على ما رواه المفسرون عن ابن عباس وغيره.
(٢) قرن: من القرار أي أسكنّ أو التزمن بيوتكن.
(٣) التبرّج: إظهار المرأة محاسنها للناس عن قصد.
(٤) الرجس: هنا بمعنى ما ليس فيه لله رضا من أعمال ومظاهر منكرة ومريبة وآثمة.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (٢٨) وما بعدها إلى آخر الآية [٣٤]
عبارة الآيات مفهومة. وقد روى المفسرون «١» روايات مختلفة في مناسبة نزولها. منها أنها نزلت في حادث غيرة غارتها عائشة. ومنها أنها نزلت في مناسبة مطالبة بعض نساء النبي بزيادة النفقة وأن هذا قد أزعجه وأحزنه حتى حلف أن يهجر نساءه شهرا. ومسألة الغيرة واليمين رويا في مناسبة الآيات الخمس الأولى من سورة التحريم. وفحوى آيات سورة التحريم يتسق مع ذلك أكثر. ولقد روي أن أبا بكر استأذن على رسول الله والناس على بابه جلوس فلم يأذن. ثم جاء عمر فاستأذن فلم يأذن. ثم أذن لهما فدخلا فوجداه جالسا ساكنا واجما ونساؤه حوله فقال عمر لأقولن شيئا أضحك به رسول الله فقال يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة- يعني زوجته- سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك رسول الله
وقال هن حولي كما ترى يسألنني النفقة. فقام أبو بكر إلى عائشة فوجأ عنقها. وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها وكلاهما يقول لابنته لا تسألي رسول الله شيئا «١».
وترتيب الآيات يلهم بقوة أن هذه الرواية كمناسبة لنزولها هي الأوجه.
فالآيات فصل مستأنف لا صلة موضوعية لها بالآيات السابقة. غير أن مجيئها بعدها مباشرة يورد على البال أن تكون مطالبة نساء النبي كانت بعد أن فتح الله على النبي والمسلمين من أموال بني قريظة. والآيتان الأوليان تلهمان أن النبي ﷺ كان يعيش في بيته عيشة شظف وزهد وهو ما أيّدته الروايات التي تبلغ حدّ اليقين كثرة وتواترا. فلما وسّع الله بما وسّع ظنّ نساء النبي أنه آن لهن أن ينعمن بالحياة وتتسع نفقاتهن فطالبن بما طالبن. ولهذا من المحتمل كثيرا أن تكون المطالبة وقعت عقب تقسيم أموال بني قريظة وأخذ النبي خمسها المخصص لله وللرسول ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل على ما نصّت عليه آية سورة الأنفال [٤١]. وأن تكون الآيات نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها للمناسبة الظرفية.
وأسلوب الآيات وبخاصة الأوليين وما ذكرته الروايات من انزعاج النبي من مطالبة نسائه بالتوسع في النفقة يلهم أن الفقر لم يكن هو الذي جعله يعيش عيشة الزهد والشظف وإنما كان ذلك بسبب استغراقه في الله ودعوته وصالح المسلمين استغراقا لم يبق معه محل للتفكير في نعيم الدنيا ومتاعها فلم يلبث الوحي أن نزل بهذا الفصل الرائع في أسلوبه وتلقينه ومداه: فواجبات النبوة أعظم من أن تتسع للحياة الدنيا وزينتها. وإيمان النبي بمهمته واستغراقه فيها يملان كل فراغ منه.
وسد الخلّة بالكفاف هو كل الكفاية بالنسبة للمظهر أو الاحتياج الإنساني المادي في النبي. وما دخل في حيازته فهو لصالح المسلمين بعد التصرف بما فيه الكفاف لعيشته. ونساء النبي جزء منه ليس لهن معدى من السير بسيرته إذا كنّ يفضلن البقاء في عصمته والاحتفاظ بشرف الصلة العظيم به. ولسن هن عند الله كسائر النساء
وبخاصة إذا اتقين. ومن أجل هذا فعذابهن على ما يقترفن من إثم ومعصية وثوابهن على ما يفعلن من صالح ويظهرن من الطاعة لله ولرسوله مضاعفان. وليس يليق بهن كثرة الخروج والتبرّج واللين في القول وإطماع مرضى القلوب بهن. وليذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة ففي ذلك من الاختصاص الرباني والفضل ما يغنيهن عن أي شيء. وليعلمن أن الله إنما يريد أن يذهب عنهن الرجس ويطهرهن تطهيرا. أما إذا أصررن على مطلبهن فلسن منه وليس منهن. فإن له من واجباته ومهمته ولذائذه الروحية ما يشغله عن ذلك كله. ولا يكون لهن عليه والحالة هذه إلّا أن يسرحهن بعد أن يعطيهن ما يحسن من تعويض يتمتعن به.
وهكذا تكون الآيات قد احتوت الإشارة إلى صفحة رائعة من حياة النبي الخصوصية فيها كل القوة وكل الصميمية. وفيها ردّ مفحم على من حاول أن يغمز النبي ويوهم أنه استغرق في ملاذ الدنيا وشهواتها ونعيمها حينما تيسرت أموره وكثرت الأموال بين يديه. أما مسألة تعدد زوجاته التي غمزوه بها أيضا فليست من هذا الباب وستكون موضوع بحث وشرح في مناسبة أخرى. وعلى ضوء هذا وعلى ضوء آيات أخرى منها آيات سورة الأعراف هذه قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ [٣٢] وآية سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨).
يمكن أن يقال إن الله أمر رسوله ﷺ بتخيير أزواجه بين الله ورسوله والدار الآخرة وبين الحياة الدنيا وزينتها هو أمر من خصوصيات النبي وأزواجه وليس في ذلك ما يمنع سائر المسلمين من أن يستمتعوا بطيبات ما أحلّ الله لهم وزينة الحياة الدنيا التي أخرج الله لعباده على أن يكون بدون إسراف ولا استغراق.
والروايات مجمعة على أن نساء النبي قد اخترن الله ورسوله وشرف الصلة بالنبي وانتهى الموقف بذلك راضية نفسه وراضية نفوسهن معا. ومما روي في
صدد ذلك «أن النبيّ ﷺ حينما نزلت عليه الآيات بدأ بعائشة رضي الله عنها فقال لها إني أذكر لك أمرا ما أحبّ أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت وما هو؟
فتلا عليها الآيات فقالت أفيك أستأمر أبويّ بل أختار الله ورسوله وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت فقال إن الله تعالى لم يبعثني معنتا ولكن بعثني معلما ميسرا لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلّا أخبرتها. ثم خيّر نساءه واحدة فواحدة فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة» «١».
ولقد روى الشيخان والترمذي هذا الحديث بخلاف يسير حيث رووا عن عائشة أنها قالت: «لما أمر رسول الله ﷺ بتخيير أزواجه بدأ بي فقال إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه ثم قال إن الله جلّ ثناؤه قال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إلى تمام الآيتين فقلت له ففي أي شيء أستأمر أبويّ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.
ثم فعل أزواج النبي مثل ما فعلت» «٢».
ومما ذكره المفسرون أنه كان يومئذ تحت رسول الله تسع زوجات هن عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة وصفية وزينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث وجويرية المصطلقية. مع أن بعض الروايات تذكر أن النبي تزوج صفية بعد وقعة خيبر التي كانت بعد صلح الحديبية أي بعد وقعة الخندق وبني قريظة بنحو سنة ونصف. وتزوج ميمونة أثناء زيارته للكعبة التي كانت بعد سنة من صلح الحديبية. وتزوج أم حبيبة بعد صلح الحديبية حيث كانت في الحبشة إلى هذا الوقت. وقد أرّخ الرواة وقعة بني قريظة بشهر ذي القعدة من السنة الهجرية الخامسة «٣». ولذلك فنحن نتوقف فيما رواه المفسرون من عدد زوجات النبي حين نزول الآيات إذا كان ما يلهمه السياق من أنها نزلت عقب وقعة بني قريظة صحيحا.
(٢) انظر التاج ج ٤ ص ١٨٤.
(٣) انظر كتب التفسير المذكورة وابن هشام ج ٣ ص ٢٥٤ و ٣٣٨ و ٣٨٨ و ٤١٧ و ٤٢٦.
ويأتي بعد في هذه السورة آيات فيها تشريع إقراري لما تزوجه النبي ﷺ من زوجات وتشريع يمنع تزوجه بزوجات أخرى بعد ذلك فنرجح أن العدد المروي هو في صدد ذلك. أما زوجات النبي في وقت التخيير إذا صحّ أنه عقب وقعة بني قريظة فهن عائشة وحفصة وأم سلمة وسودة وجويرية. ولعلّ اللتين طالبتا بالنفقة هما الأوليان. وقد يستلهم هذا مما روي من شدة أبي بكر وعمر لابنتيهما هاتين حينما قال لهما النبي ﷺ هن حولي كما ترى يسألنني النفقة على ما أوردناه قبل. والله تعالى أعلم.
هذا، وكلمة الرِّجْسَ في القرآن جاءت بمعنى النجاسة المادية كما هو ملموح في آية الأنعام قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [١٤٥] وجاءت بمعنى النجاسة المعنوية كما هو ملموح في آيات كثيرة منها آية سورة المائدة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ «١» [٩٠] وقد تكون في الآية [٣٤] من الآيات التي نحن في صددها شاملة للنوعين بحيث يكون معنى الجملة التي جاءت فيها أن الله إنما يريد بما وصّى به أزواج النبي ﷺ ونبههم إليه هو أن يجنبهم كل ما فيه نجاسة وقذارة وإثم وانحراف ويطهرهم من ذلك تطهيرا تاما. وفي هذا ما فيه من عظم الرعاية الربانية لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي تأويل جملة مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ روى المفسرون عن ابن عباس أنها عنت النشوز والمعصية وسوء الخلق. ولا بأس في هذا التأويل. وقد يتسق مع الآية التي تلي الجملة التي تنوّه بمن تطيع الله ورسوله وتعمل صالحا. مع القول إنها تتحمل أن يكون معناها (الزنا) أيضا وقد يكون في جملة يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ قرينة على ذلك والله أعلم.
وفي تأويل جملة فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ روى المفسرون أنها عنت عدم الليونة في الكلام وترقيقه بأسلوب يثير الشهوة في الفاسقين والمنافقين ويجعلهم يطمعن في نساء النبي ﷺ ونحن نستبعد ونستغرب هذا. ويتبادر لنا والله أعلم أن في العبارة تحذيرا لنساء النبي ﷺ بألّا يتجاوزن في أقوالهن وأفعالهن ما رسم رسوله حتى لا يظن مرضى القلوب أن ذلك التجاوز بترخيص من النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي تأويل النهي عن التبرّج روى المفسرون أنه في صدد النهي عن إظهار الزينة وإبراز المفاتن أمام غير المحارم. وهو تأويل وجيه. وتفيد جملة وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى
أن نساء العرب قبل البعثة كنّ يفعلن ذلك. ولقد نهى النساء عن إظهار مفاتنهنّ وزينتهنّ أمام غير المحارم في إحدى آيات سورة النور، وهذا مما يلهم ذاك، وبسبيل توكيد نهيه لنساء المسلمين عامة.
وهناك من أوّل جملة وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ بمعنى (الزمن الوقار والسكينة في بيوتكن). وهناك من أوّلها بمعنى (المكوث في البيوت وعدم الخروج). وقد يكون التأويل الثاني هو الأوجه مع التنبيه على أن الأمر لم يكن يعني عدم خروجهن بالمرة، وإنما يعني عدم الإكثار من الخروج على غير ضرورة. وروح العبارة يلهم هذا فيما نعتقد. فهناك حاجات وضرورات ملزمة للخروج. والروايات متواترة على أن نساء النبي كن يخرجن في حاجاتهن وضروراتهن في حياة النبي وبعده... ولقد روى الشيخان عن عائشة حديثا جاء فيه: «خرجت سودة لحاجتها بعد أن نزل الحجاب وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر فقال يا سودة أما والله لا تخفين علينا فانظري كيف تخرجين. فانكفأت راجعة ورسول الله في بيتي يتعشّى وبيده عرق فدخلت فقالت يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن» «١». وننبه على كل حال أن الآيات صريحة بأنها
موجهة إلى نساء النبي بخاصة وقد احتوت تعليلا حكيما لما فيها من أوامر وتنبيهات.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الجملة حديثا رواه البزار عن أنس جاء فيه:
«جئن النساء إلى رسول الله فقلن يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين فقال من قعدت في بيتها منكن فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله». وحديثا ثانيا رواه البزار أيضا جاء فيه: «قال النبيّ ﷺ إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون بروحة ربّها وهي في قعر بيتها». والحديثان ليسا من الصحاح. والآية [١٩٥] من آل عمران تجمع الرجال والنساء معا في الهجرة والقتال في سبيل الله على ما شرحناه في تفسيرها. وهناك آيات في سورة النور تلهم جواز خروج النساء وقضاء حاجاتهن المتنوعة في نطاق الاحتشام والبعد عن أسباب الفتنة على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسيرها. وهناك أحاديث عديدة صحيحة تذكر أن المؤمنات كنّ يخرجن مع رسول الله وغيره للجهاد. من ذلك حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أنس قال: «كان النبيّ ﷺ يغزو بأمّ سليم ونسوة من الأنصار معه فيسقين الماء ويداوين الجرحى» «١». وحديث رواه الشيخان عن أنس قال: «لمّا كان يوم أحد انهزم الناس عن النبيّ، وقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأمّ سليم مشمّرتين أرى خدم سوقهما تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانها في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم» «٢». وحديث رواه البخاري جاء فيه: «قالت الربيع بنت معوّذ كنّا نغزو مع النبيّ فنسقي القوم ونخدمهم ونردّ الجرحى والقتلى إلى المدينة» «٣». وحديث رواه مسلم جاء فيه: «قالت أمّ عطية غزوت مع النبيّ سبع غزوات أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى» «٤». يضاف إلى هذا التواتر الذي لم ينقطع في تردد
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه. [.....]
(٤) المصدر نفسه.
النساء كلما شئن على المساجد واشتراكهن بصلاة الجماعة مع الرجال. وهناك حديث رواه الشيخان وأبو داود عن ابن عمر عن النبيّ ﷺ قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» «١». وليس هناك أي حديث صحيح فيما اطلعنا عليه يمنع خروج المرأة للجهاد والصلاة والحاجات الأخرى التي تقتضيها طبائع الحياة وما وهب الله المرأة من مواهب. وما أقرها القرآن والسنة لها من حقوق سياسية واجتماعية واقتصادية مما مرت منه صور وأمثلة ومؤيدات في السور التي سبق تفسيرها ومما سوف يمرّ منه من صور وأمثلة ومؤيدات في السور التي يجيء تفسيرها بعد، بحيث يسوغ التوقف إزاء الحديثين أو حملهما على محمل التحذير والتنبيه بسبيل اتقاء الفتنة ودواعيها إذا صحّا. والله تعالى أعلم.
هذا، ومع أن مقام النبوة في عظمة أخلاق النبي وإيمانه وروحه واستغراقه في الله ودعوته لا يمكن أن يدانى. ومع أن الآيات متعلقة بخصوصيات النبي وزوجاته موضوعا وظرفا فإن هذا لا يمنع أن تكون منبع إلهام فياض ومدد تلقين جليل لكلّ من يتصدّر للزعامة السياسية والإصلاحية والجهادية استلهاما من الآية [٢١] من آيات السورة التي تحثّ المؤمنين على اتخاذ رسول الله لهم أسوة حسنة.
ولقد حمّلت الآيات نساء النبي واجبات مهمة في تقدير مركزهن بالنسبة لخطورة مركز النبي. وفي هذا المعنى تلقين جليل لنساء زعماء المسلمين وقوادهم بل وعامتهم كما هو المتبادر...
تعليق على تعبير الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى
كتبنا تعليقا على تعبير (الجاهلية) في تفسير سورة آل عمران. وقد رجحنا أن إطلاق هذا التعبير على دور ما قبل الإسلام هو إطلاق قرآني. ولقد أورد المفسرون في سياق تعبير الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى في الآيات التي نحن في صددها أقوالا معزوة
إلى ابن عباس وغيره مفادها أن دور الجاهلية الذي سبق البعثة دوران الأول هو الذي كان ما بين زمن نوح وإدريس أو قبل عيسى عليهم السلام والثاني هو ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام.
ويبدو لنا أن هذا التقسيم غير مستقيم مع الواقع. من حيث إن بروز النساء العربيات وإظهار محاسنهن للرجال كان معروفا ممارسا في عصر النبي ﷺ قبل البعثة وقد نهى نساء النبي عن ذلك الذي وصف بتبرّج الجاهلية الأولى. وهو ما لا يدخل في نطاق الدور المسمى في التقسيم بالجاهلية الأولى. وعلى كل حال فالجملة القرآنية أسلوبية فيما يتبادر لنا هدفت إلى النهي عن التبرّج الذي كان السابقون يعرفونه ويمارسونه قبل البعثة. لأن ذلك لا ينبغي للمؤمنات وبخاصة لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على ما روي من أحاديث في صدد تعبير أَهْلَ الْبَيْتِ
ومع أن دلالة الآيات صريحة كل الصراحة في كون تعبير أَهْلَ الْبَيْتِ في الآية [٣٣] هو كناية عن نساء النبي ﷺ اللائي هن موضوع الخطاب فيها وراجع إليهن فقد رويت بعض أحاديث تدخل في شمولها غير نساء النبي بل ويخرج بعضها نساء النبي من شمولها. منها حديث رواه مسلم والترمذي عن أم سلمة أم المؤمنين جاء فيه: «نزلت الآية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) في بيتي فدعا النبي ﷺ فاطمة وحسنا وحسينا فجلّلهم بكساء وعليّ خلف ظهره ثم قال اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا فقلت: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: أنت على مكانك وأنت إلى خير» «١». ومنها حديث عن عائشة أم المؤمنين رواه مسلم والترمذي جاء فيه: «خرج النبي غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود فجاء الحسن بن عليّ فأدخله ثمّ جاء الحسين
فأدخله ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ثمّ جاء عليّ فأدخله ثمّ قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) » «١». ومنها حديث رواه مسلم عن الحصين عن زيد بن أرقم جاء فيه فيما جاء: «أنّ النبيّ قال: أذكّركم في أهل بيتي أذكّركم في أهل بيتي أذكّركم في أهل بيتي. فسأل الحصين زيدا: ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه؟ قال: نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم من الصدقة بعده وهم آل عليّ وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس. وفي رواية قال الحصين من أهل بيته، نساؤه؟ قال زيد: لا وأيم الله إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا من الصدقة بعده» «٢». وإلى هذا فهناك أحاديث أخرى عن النبي رواها المفسرون في سياق تفسير الآية لم ترد في الكتب الخمسة، منها حديث أخرجه الإمام أحمد عن أنس بن مالك جاء فيه: «أن النبيّ كان يمرّ بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول الصلاة يا أهل البيت إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا» «٣». ومنها حديث عن عائشة جوابا على سؤال سألتها أم مجمع عن أحبّ الناس إلى رسول الله فقالت: «لقد رأيت رسول الله جمع عليا وفاطمة وحسنا وحسينا بثوب ثمّ قال اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا. فقلت: يا رسول الله أنا من أهلك؟ قال: تنحي فإنك إلى خير» «٤». ومنها حديث عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: «نزلت هذه الآية فيّ وفي علي وحسن وحسين وفاطمة» «٥». ومنها حديث عن سعد قال:
«إن رسول الله ﷺ حين نزول الوحي عليه بالآية أخذ عليا وابنيه وفاطمة وأدخلهم
(٢) المصدر نفسه.
(٣) انظر تفسير الطبرسي وابن كثير والطبري والبغوي.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
في ثوبه ثم قال: ربّ هؤلاء أهلي وأهل بيتي» «١».
ونقف أمام هذه الأحاديث- وبخاصة أمام ما يخرج نساء النبي ﷺ من مدلول تعبير أهل البيت ومنها والذي يتمسك به الشيعة تمسكا شديدا- موقف الحيرة بل التحفظ والتوقف إزاء دلالة الآيات الصريحة وسياقها. ولا سيما إن الآية التي جاءت بعد الجملة هي استمرار للخطاب الموجه إلى نساء النبي بحيث لا يمكن أن يصرف التعبير في هذا المقام إلى غيرهن. هذا فضلا عن أن تعبير أهل البيت قد ورد في آيات أخرى كناية عن الزوجة. منها آيات سورة هود هذه في سياق قصة إبراهيم: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ
(٧٣) وآية سورة النمل هذه:
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) «٢»، بل لقد روى الشيخان والترمذي حديثا في سياق الآية [٥٢] من هذه السورة سوف نورده بعد، جاء فيه أن النبيّ ﷺ كان يمرّ على حجرات زوجاته فيقول السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله «٣». ولقد روى ابن كثير عن عكرمة أحد كبار علماء التابعين أنه كان يقول إن هذه الجملة قد نزلت في نساء النبي خاصة ومن شاء باهلته بذلك. ولقد قال ابن كثير معلقا على الجملة إنها نصّ في دخول أزواج النبي ﷺ في أهل البيت هاهنا لأنهن سبب نزولها وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا، إما وحده على قول عكرمة أو مع غيره على الصحيح. ولقد
(٢) ومثل هذه الآية آيتان في سورة طه وهي [١٠] وفي سورة القصص وهي [٢٩].
(٣) انظر التاج فصل التفسير ج ٤ ص ١٨٧. وفي هذا الحديث انسجام نبوي مع الخطاب القرآني الذي يصف نساء النبيّ بأنهن أهل البيت ويمكن أن يقال والحالة هذه إذا صحت الأحاديث السابقة فيكون قصد النبي توكيد اللحمة العصبية الدنيوية بينه وبين أولاده وأحفاده ويكون في الحديث توفيق بين موقفي النبي ﷺ والله أعلم.