آيات من القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا
ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ

١٧- أمر الله بالجهاد ليجزي الصادقين في الآخرة بصدقهم، ويعذب في الآخرة المنافقين، وذلك بمشيئة الله، فإن شاء أن يعذبهم لم يوفقهم للتوبة وإن لم يشأ أن يعذبهم تاب عليهم قبل الموت.
١٨- كانت الهزيمة الساحقة في غزوة الخندق لجيوش الأحزاب، إذ ردّ الله أولئك الكفار إلى ديارهم، فرجع أبو سفيان إلى تهامة، ورجع عيينة بن بدر إلى نجد، ونصر الله جيش الإيمان بغير قتال كبير، بأن أرسل على الأحزاب ريحا وجنودا، حتى رجعوا، ورجعت بنو قريظة إلى حصونهم أو قلاعهم، فكفى أمر قريظة بالرعب، وكان الله قويا أمره، عزيزا لا يغلب.
١٩- وهزم بنو قريظة هزيمة نكراء بعد أن عاونوا الأحزاب: قريشا وغطفان، وأنزلوا من حصونهم، وشاع الذعر والهلع في صفوفهم، وكان مصيرهم قتل رجالهم، وأسر نسائهم وأطفالهم، وتوريث المسلمين أراضيهم وبساتينهم ومنازلهم وأموالهم المدخرة.
وبشر الله المؤمنين بأنهم سيرثون بلاد فارس والروم، وكل أرض تفتح إلى يوم القيامة، والله على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقرى قدير، وعلى ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير، لا ترد قدرته، ولا يجوز عليه العجز بحال.
تخيير زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم بين الدنيا والآخرة ومقدار ثوابهن وعقابهن
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠)

صفحة رقم 287

الإعراب:
فَتَعالَيْنَ أصله من العلو، إلا أنه كثر استعماله في معنى «انزل» فيقال للمتعالي: تعال، أي انزل.
البلاغة:
إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ بينهما ما يسمى بالمقابلة أي الطباق بين جملتين.
المفردات اللغوية:
لِأَزْواجِكَ هن تسع، وطلبن منه من زينة الدنيا ما ليس عنده. الْحَياةَ الدُّنْيا السعة والتنعم فيها. وَزِينَتَها زخارفها. أُمَتِّعْكُنَّ أعطكن المتعة وهي متعة الطلاق وهي مال يعطى للمطلقة. وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أطلقكن من غير ضرار وبدعة، والتسريح: الطلاق، روي أنهن سألنه ثياب الزينة وزيادة النفقة، فنزلت، فبدأ بعائشة، فخيرها، فاختارت الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ثم اختارت الباقيات اختيارها، فشكر لهن الله ذلك، فأنزل لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ [الأحزاب ٣٣/ ٥٢].
وتعليق التسريح بإرادتهن الدنيا يدل على أن المخيّرة إذا اختارت زوجها لم تطلق، خلافا لرواية عن علي، ويؤيده
قول عائشة: «خيرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاخترناه، فلم يعدّ طلاقا»
فإذا اختارت نفسها فإنه طلقة رجعية عند الشافعية، وبائنة عند الحنفية. وتقديم التمتيع على التسريح:
من الكرم وحسن الخلق.
وَالدَّارَ الْآخِرَةَ الجنة. فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ بإرادة الآخرة. أَجْراً عَظِيماً الجنة، يستحقر دونه الدنيا، ومن في قوله مِنْكُنَّ للتبيين لأنهن كلهن كن محسنات.
بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ كبيرة ظاهرة القبح كالنشوز. يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ أي مثلي عذاب غيرهن لأن الذنب منهن أقبح، كما أن ثوابهن مرتان، كما قال تعالى: نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ [الأحزاب ٣٣/ ٣١]. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لا يمنعه عن التضعيف كونهن نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم.

صفحة رقم 288

سبب النزول: نزول الآية (٢٨) :
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ:
روى أحمد ومسلم والنسائي عن جابر رضي الله عنه قال: «أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر، فاستأذن، فلم يؤذن له، ثم أذن لهما، فدخلا، والنبي صلّى الله عليه وسلّم جالس، وحوله نساؤه، وهو ساكت، فقال عمر: لأكلمنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله، لو رأيت ابنة زيد- امرأة عمر- سألتني النفقة آنفا، فوجأت عنقها، فضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى بدا ناجذه، وقال: هن حولي يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقول: تسألان النبي صلّى الله عليه وسلّم ما ليس عنده، وأنزل الله الخيار، فبدأ بعائشة، فقال: إني ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه، حتى تستأمري أبويك، قالت: ما هو؟ فتلا عليها: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الآية.
قالت: أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن الله تعالى لم يبعثني معنّفا، ولكن بعثني معلّما ميسرا، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها»
.
المناسبة:
لما نصر الله نبيه، وفرق عنه الأحزاب، وفتح عليه قريظة والنضير، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله، وقلن:
«يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل، والإماء والخول (الخدم) ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق».
وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملهن بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم، فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن.

صفحة رقم 289

وأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ ذاك تسع: هن خمسة من قريش وهن عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أمية، وأربعة من غير قريش: ميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة، وصفيّة بنت حييّ بن أخطب الخيبرية. فلما خيرهن رسول الله اخترن كلهن الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. هذا وجه تعلق الآيات بما قبلها. أما مناسبة هذه الآيات للسورة فهي أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين: التعظيم لأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله تعالى، وإلى هذا أشار صلّى الله عليه وسلّم
بقوله فيما رواه البزار عن أبي رافع: «الصلاة وما ملكت أيمانكم».
فلما أرشد الله سبحانه نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب ٣٣/ ١] ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة، وبدأ بالزوجات، فإنهن أولى الناس بالشفقة، ولهذا قدمهن بالنفقة.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ: إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها، فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا يأمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بتخيير نسائه بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة، والمعنى: يا أيها الرسول قل لأزواجك:
اخترن لأنفسكن إحدى حالين: إما المفارقة إن أحببتن وكان عظيم همكن التعمق في لذات الحياة الدنيا وزينتها ومتاعها ونعيمها، وحينئذ أعطيكن متعة الطلاق المستحقة وهي مال يهدى للزوجة المطلقة تطييبا لخاطرها، وأطلقكن طلاقا لا ضرر فيه ولا بدعة، وإما الصبر على ما عندي من ضيق الحال، وهو المذكور في الآية التالية.
أما متعة الطلاق: فهي كسوة أو هدية أو مال بحسب حال الزوج يسارا وإعسارا، كما قال تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ، عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ،

صفحة رقم 290

مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ، حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ
[البقرة ٢/ ٢٣٦] وأما الطلاق الذي لا ضرر فيه ولا بدعة: فهو ما يكون في حال الطهر مع استقبال العدة أي الابتداء بها، لا في الحيض لقوله تعالى: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق ٦٥/ ١].
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً أي وإن أردتن رضا الله ورسوله وثواب الآخرة وهو الجنة، فإن الله أعدّ للمحسنة منكن ثوابا عظيما، تستحقر زينة الدنيا دونه. وهذا دليل على أن من أراد الله ورسوله والدار الآخرة كان محسنا صالحا. وقوله: تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فيه معنى الإيمان.
ولما خيرهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الدنيا والآخرة، اخترن جميعا الآخرة، فسرّ بذلك، وشكرهن الله على حسن اختيارهن، وكرّمهن، فقال: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ [الأحزاب ٣٣/ ٥٢] وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً [الأحزاب ٣٣/ ٥٣].
وزوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم اثنتا عشرة، وهن أمهات المؤمنين، ولم يتزوج إلا بكرا واحدة هي السيدة عائشة، وكان زواجه بالأخريات تأليفا للقلوب، ومن أجل نشر الدعوة الإسلامية، وبناء الدولة، ووحدة الكلمة، وهن «١» :
١- خديجة بنت خويلد: أول زوجاته، تزوجها بمكة، وعاشت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد النبوة سبع سنين، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت، وسنّه ٥٤ عاما، وهي أول من آمن من النساء. وجميع أولاده منها غير إبراهيم.
٢- سودة بنت زمعة بنت عبد شمس العامرية، دخل بها بمكة، وتوفيت بالمدينة.

(١) تفسير القرطبي: ١٤/ ١٦٤ وما بعدها.

صفحة رقم 291

٣- عائشة بنت أبي بكر الصديق، الصديقة بنت الصديق، العالمة الفقيهة راوية الحديث الكثير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، بنى بها بالمدينة وهي بنت تسع، وبقيت عنده تسع سنين، ومات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهي بنت ثمان عشرة، ولم يتزوج بكرا غيرها.
٤-
حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية العدوية، تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم طلّقها، فقال له جبريل: «إن الله يأمرك أن تراجع حفصة، فإنها صوّامة قوّامة» فراجعها.
٥- أم سلمة: تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ابنها سلمة على الصحيح، واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية.
٦- أم حبيبة، رملة بنت أبي سفيان، تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة سبع من الهجرة ودخل بها بعد الهجرة بسبع سنين وكان وكيله في زواجها عمرو بن أمية الضّمري، وقد أصدقها النجاشي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربع مائة دينار، لما مات زوجها.
٧- زينب بنت جحش: تزوجها بأمر الله بعد طلاقها من زوجها أسامة بن زيد، لإبطال التبني وآثاره. وكان اسمها برّة، فسماها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب.
٨- زينب بنت خزيمة بن الحارث: تزوجها النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم ماتت بعد ثمانية أشهر، كانت تسمى في الجاهلية أمّ المساكين لإطعامها إياهم.
٩- صفية بنت حييّ بن أخطب الهارونية: تزوجها النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن أعتقها، وكانت من سبايا خيبر، اشتراها الرسول صلّى الله عليه وسلّم من دحية الكلبي بسبعة أرؤس.
١٠- ريحانة بنت زيد: تزوجها الرسول صلّى الله عليه وسلّم سنة ست، وماتت إثر حجة

صفحة رقم 292

الوداع، وكان زوجها قد قتل في الحرب، فتزوجها إكراما له ولأولاده.
١١- جويرية بنت الحارث بنت أبي ضرار المصطلقيّة الخزاعية، من سبايا بني المصطلق، تزوجها في شعبان سنة ست، وكان اسمها برّة، فسماها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جويرية.
١٢- ميمونة بنت الحارث الهلالية آخر امرأة تزوجها.
هؤلاء المشهورات من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهن اللاتي دخل بهن، رضي الله عنهن.
وله نساء تزوجهن ولم يدخل بهن، منهن الكلابية واسمها فاطمة أو عمرة وهي المستعيذة، وأسماء بنت النعمان بن الجون، وقتيلة بنت قيس أخت الأشعث بن قيس، وعددهن عشر، وكان له من السراري سرّيّتان: مارية القبطية وريحانة، وأما من خطبهن فلم يتم نكاحه معهن ومن وهبت له نفسها فعددهن تسع، كأم هانئ بنت أبي طالب.
وبعد أن خيرهن واخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وعظهن وهددهن بمضاعفة العذاب على المعصية فقال:
يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي يا نساء النبي وأمهات المؤمنين من يرتكب منكن معصية كبيرة ظاهرة القبح كالنشوز وعقوق الزوج وسوء الخلق، يكون عقابها مضاعفا، لشرف منزلتكن، وفضل درجتكن، وتقدمكن على سائر النساء، فأنتن أهل بيت النبوة، وكان تضعيف العذاب لهن يسيرا هينا على الله الذي لا يحابي أحدا لأجل أحد.
قال أبو حيان: ولا يتوهم أن الفاحشة: الزنى لعصمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من

صفحة رقم 293

ذلك، ولأنه تعالى وصف الفاحشة بالتبيين، والزنى مما يتستر به، وينبغي حمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته. ولما كان مكانهن مهبط الوحي من الأوامر والنواهي، لزمهن بسبب ذلك، وكونهن تحت الرسول صلّى الله عليه وسلّم أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب.
فقه الحياة أو الأحكام:
١- الآيات حث واضح على منع إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم أو مضايقته، ولو من أقرب الناس إليه، وفيها أدب عال لبيت النبوة الطاهر، وتسأم لمستوى الأنبياء، وترفع عن حطام الدنيا، وتربية لنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم على الزهد والعفة والخلق السامي، وإعظام الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
قال العلماء: هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ.. متصلة بما تقدم من المنع من إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كان قد تأذى ببعض الزوجات.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إن من ملك زوجة فليس عليه تخييرها.
أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يخيّر نساءه فاخترنه. وجملة ذلك أن الله سبحانه خيّر النبي صلّى الله عليه وسلّم بين أن يكون نبيا ملكا، وعرض عليه مفاتح خزائن الدنيا، وبين أن يكون نبيا مسكينا، فشاور جبريل، فأشار عليه بالمسكنة فاختارها فلما اختارها- وهي أعلى المنزلتين- أمره الله عز وجل أن يخير زوجاته، فربما كان فيهن من يكره المقام معه على الشدة تنزيها له.
٢- القول الأصح في كيفية تخيير النبي صلّى الله عليه وسلّم أزواجه أنه خيّرهن بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية، أو الطلاق، فاخترن البقاء لقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن الرجل يخير امرأته، فقالت: قد خيّرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاخترناه، فلم يعدّه طلاقا، ولم يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق.

صفحة رقم 294

وقيل: إنما خيّرهن بين الدنيا فيفارقهنّ، وبين الآخرة فيمسكهن، لتكون لهن المنزلة العليا كما كانت لزوجهن، ولم يخيرهن في الطلاق.
٣- اختلف العلماء في المخيّرة إذا اختارت زوجها، فقال جمهور العلماء: إنه لا يلزمه طلاق، لا واحدة ولا أكثر لقول عائشة فيما أخرجه الصحيحان:
خيّرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاخترناه، فلم يعده علينا طلاقا.
وروي عن علي أنها إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية.
وهذا غريب.
وفي رواية أخرى عن علي، وهو قول الحنفية: أنها إذا اختارت نفسها أنها واحدة بائنة
لأن قوله: اختاري، كناية عن إيقاع الطلاق، فإذا أضافه إليها وقعت طلقة، كقوله: أنت بائن.
وروي عن زيد بن ثابت: أنها إذا اختارت نفسها أنها ثلاث.
وذهب جماعة من المدنيين وغيرهم إلى أن التمليك والتخيير سواء، والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما، وذلك أن التمليك عند مالك هو قول الرجل لامرأته: قد ملّكتك أي قد ملّكتك ما جعل الله لي من الطلاق، واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، فلما جاز أن يملّكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك، كان القول قوله مع يمينه. أما المخيّرة إذا اختارت نفسها، وهي مدخول بها، فهو الطلاق كله، ولا عبرة بإنكار الزوج لأن معنى التخيير: التسريح، والتسريح: البتات قال الله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة ٢/ ٢٢٩] وقال تعالى في آية التخيير: فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا والتسريح بإحسان: هو الطلقة الثالثة، ومعنى التخيير التسريح. وعلى هذا يكون طلاق المخيرة ثلاثا عند الإمام مالك.
وأكثر الفقهاء في تحديد زمن الخيار على أن لها الخيار: ما دامت في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض، فإن لم تختر ولم تقض شيئا حتى افترقا

صفحة رقم 295

من مجلسهما، بطل ما كان من ذلك إليها، ويرى آخرون أن ما ملكته يبقى في يدها كبقائه في يد زوجها، وهذا عند المالكية هو الصحيح
لقوله صلّى الله عليه وسلّم لعائشة فيما رواه البخاري والترمذي: «إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك»
فهذا دليل على استمرار التخيير، حيث جعل لعائشة التخيير إلى أن تستأمر أبويها، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجا من الأمر.
والظاهر أن من اختارت الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم كان يحرم على النبي صلّى الله عليه وسلّم طلاقها، أي لا يباشره أصلا، عملا بعلو منصبه، وسمو خلقه.
٤- جعل الله ثواب طاعة أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وعقاب معصيتهن أكثر مما لغيرهن، بنص الآية هنا: يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ والآية التي بعدها:
نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ فأخبر الله تعالى أن من جاء من نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم بفاحشة- والله عاصم رسوله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك، كما مرّ في حديث الإفك- يضاعف لها العذاب ضعفين لشرف منزلتهن، وفضل درجتهن، وتقدمهن على سائر النساء أجمع. وبينت الشريعة في مواضع كثيرة أنه كلما تضاعفت الحرمات، فهتكت تضاعفت العقوبات، ولذلك ضوعف حد الحر على العبد، والثيب على البكر.
ولما كان أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم في مهبط الوحي، وفي منزل أوامر الله ونواهيه، قوي الأمر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب.
وضعف الشيء مثله، فمعنى الضعفين: معنى المثلين أو المرتين، فلو فرض وقوع ما يوجب الحدّ منهن- وقد أعاذهن الله من ذلك- حدّت الواحدة حدّين لعظم قدرها، كما يزاد حد الحرة على الأمة، والعذاب بمعنى الحدّ، قال الله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور ٢٤/ ٢]. ويدل على هذا نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ.
انتهى الجزء الحادي والعشرون ولله الحمد

صفحة رقم 296
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية