آيات من القرآن الكريم

قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ۗ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ

[الجزء الرابع]

[تتمة سورة آل عمران]
الرّد على اليهود في تحريم بعض الأطعمة
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٣ الى ٩٥]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)
البلاغة:
قُلْ: فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ الأمر للتوبيخ واللوم.
المفردات اللغوية:
الطَّعامِ المراد به هنا المطعومات كلها، ويكثر استعماله في البرّ وفي الخبز. حِلًّا حلالا. إِسْرائِيلَ لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ومعناه: الأمير المجاهد مع الله، ثم أطلق على جميع ذريته، فالمراد الآن شعب إسرائيل لا يعقوب نفسه. مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ على موسى، وذلك بعد إبراهيم، ولم تكن المطعومات على عهده حراما كما زعموا. افْتَرى
اختلق الكذب. مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
أي بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب، لا من عهد إبراهيم. الظَّالِمُونَ
المتجاوزون الحق إلى الباطل. حَنِيفاً مائلا عن الباطل إلى الحق.
المناسبة:
اشتملت سورة آل عمران من أولها إلى هنا على إقامة الدلائل على إثبات وحدانية الله، ونبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومحاجّة أهل الكتاب وإبطال مزاعمهم وبدعهم وتقاليدهم. وجاءت هذه الآيات وما بعدها إلى الآية (٩٧) حول البيت الحرام للرّد على شبهتين لليهود:
الأولى- قولهم للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك تدّعي أنك على ملّة إبراهيم وذريته، فكيف تستحلّ ما كان محرّما عندهم من الطعام كلحم الإبل؟ فنزلت الآية:

صفحة رقم 5

كُلُّ الطَّعامِ ردّا عليهم.
قال أبو روق والكلبي: نزلت حين قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنه على ملّة إبراهيم، فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «كان ذلك حلالا لإبراهيم، فنحن نحلّه»، فقالت اليهود: كلّ شيء أصبحنا اليوم نحرّمه، فإنّه كان على نوح وإبراهيم، حتى انتهى إلينا، فأنزل الله عزّ وجلّ تكذيبا لهم: كُلُّ الطَّعامِ...
الثانية- قولهم أيضا: كيف تدّعي أنك على ملّة إبراهيم وأنك أولى الناس به؟ وإبراهيم وإسحاق وذريته من الأنبياء كان يعظمون بيت المقدس ويصلّون إليه، فلو كنت على منهجهم لعظّمته، ولما تحوّلت عنه إلى الكعبة، فنزلت آية:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ... للرّد عليهم. قال مجاهد: تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة، لأنه مهاجر الأنبياء، وفي الأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».
التفسير والبيان:
كلّ الطعام بأنواعه الطّيبة المباحة كان حلالا لبني إسرائيل ولإبراهيم من قبله إلا ما حرّم إسرائيل أو شعب إسرائيل على نفسه، وهو لحوم الإبل وألبانها، وذلك قبل أن تنزل التوراة على موسى، والذي حرّم الله تعالى على شعب إسرائيل في التوراة هو بعض الطّيبات عقوبة لهم وتأديبا، كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: ٤/ ١٦٠]، وقال:
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا، أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ [الأنعام ٦/ ١٤٦]. والمراد في رأي بعضهم من

(١) أسباب النزول للواحدي النيسابوري: ص ٦٥- ٦٦

صفحة رقم 6

إِسْرائِيلَ هنا ليس يعقوب عليه السّلام الذي ذكرت بعض الرّوايات «أنه لما حصل له عرق النّسا، فنذر إن شفي لا يأكل الإبل» لأنه كان بينه وبين نزول التوراة زمن طويل، وإنما المراد شعب إسرائيل كما هو مستعمل عند اليهود، والمعنى في تحريمهم أشياء على أنفسهم: أنهم كانوا سبب التحريم لارتكابهم الظلم واجتراح السيئات. هذا ما رجحه صاحب (تفسير المنار) «١».
أما الذي سار عليه جمهور المفسرين: فهو أن المراد بإسرائيل يعقوب عليه السّلام،
روى التّرمذي عن ابن عباس: أنّ اليهود قالوا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم:
أخبرنا، ما حرّم إسرائيل على نفسه؟ قال: «كان يسكن البدو، فاشتكى عرق النّساء، فلم يجد شيئا يلائمه إلا لحوم الإبل وألبانها، فلذلك حرّمها» قالوا:
صدقت، وذكر الحديث «٢».
وجاء في رواية الإمام أحمد أن اليهود سألوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن أشياء، فقالوا:
أخبرنا أي الطعام حرّم إسرائيل على نفسه؟ فقال: «أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا، وطال سقمه، فنذر لله نذرا: لئن شفاه الله من سقمه ليحرّمنّ أحبّ الطّعام والشّراب إليه، وكان أحبّ الطّعام إليه لحم الإبل، وأحبّ الشّراب إليه ألبانها».
وخلاصة الجواب: كلّ أنواع المطعومات كانت حلالا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه قبل نزول التوراة، وإلا ما حرّمه الله في التّوراة على شعب إسرائيل من مطعومات تأديبا وزجرا لهم بسبب جرائم ومخالفات ارتكبوها، والنّبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته لم يرتكبوا هذه السّيئات والمخالفات، فلا تحرم عليهم هذه الطّيبات، وإبراهيم لم يكن محرّما عليه شيء من هذا لأن التّحريم حصل بعد نزول التّوراة، وكان كلّ طعام حلالا له.

(١) تفسير المنار: ٤/ ٤
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ١٣٤، تفسير الكشاف: ١/ ٣٣٥، تفسير ابن كثير: ١/ ٣٨١

صفحة رقم 7

ثم أمر الله نبيّه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالاحتكام إلى التوراة كتاب اليهود لتكذيب دعواهم، وقال لهم: فأتوا بالتوراة كتابكم فاتلوها إن كنتم صادقين في دعواكم، لا تخافون تكذيبها لكم، ولو جئتم بها لوجدتم أن تحريم شيء على بني إسرائيل ما كان إلا عقوبة تأديبية زاجرة، فيظل غير الجاني على أصل الحلّ لأن الأصل في الأطعمة الحلّ والإباحة.
فمن اخترع الكذب على الله، وزعم أن التّحريم كان على الأنبياء السابقين وأممهم قبل نزول التّوراة، وادّعى ما لم ينزله الله في كتابه، فأولئك هم الظالمون أنفسهم بطمس معالم الحق وإظهار الكذب على الله.
روي أنهم لم يتجاسروا على الإتيان بالتوراة، فبهتوا، وفي ذلك دليل واضح على صحّة نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأنه يعلم بوحي من الله ما في التوراة، وهو لم يقرأها لأمّيته المعروفة، وأنها مؤيّدة لما في القرآن.
وإذ ظهر الحقّ واندحر الباطل، قل لهم يا محمد: صدق الله فيما أخبرني به أن سائر الأطعمة كانت حلالا لبني إسرائيل، وأنه لم يحرّم الله شيئا على إسرائيل قبل التوراة، وأن ما حرّم الله على اليهود كان جزاء وتأديبا وعقوبة لهم بسبب أفعالهم القبيحة.
وإذ استبان الحق، وظهرت الحجّة عليكم، فعليكم اتّباع ملّة إبراهيم التي أدعوكم إليها، والتي تبيح أكل لحوم الإبل وألبانها، وهي الملّة الحنيفيّة السمحاء الوسط التي لا إفراط فيها ولا تفريط، وهي التي شرعها الله في القرآن، وكان إبراهيم حنيفيّا مائلا عن الأديان الأخرى الباطلة إلى الدّين الحقّ الذي يقوم على مبدأ التوحيد وإباحة الطّيبات، وما كان مشركا يدعو مع الله إلها آخر، أو يعبد سواه، كما يفعل عبدة الأوثان، ويدعيه اليهود أن عزيرا ابن الله، ويعتقده النصارى أن المسيح ابن الله.

صفحة رقم 8

فملّة إبراهيم القائمة على التوحيد: هي شرعة القرآن التي دعا إليها محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهي الحقّ الذي لا مرية فيه، كما قال تعالى: قُلْ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام ٦/ ١٦١]، وهو الذي أمره الله به صراحة، كما جاء في آية أخرى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل ١٦/ ١٢٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
إن شريعة القرآن واضحة لا لبس فيها ولا غموض، وهي التي تلتقي مع الشرائع السابقة في أصول الحلال والحرام، فلذا اتّفقت مع ملّة إبراهيم ومع ما كان مقررا من إباحة أنواع المطعومات كلها على بني إسرائيل، إلا أمرين:
الأول- ما حرّمه يعقوب (إسرائيل) على نفسه باجتهاد منه، لا بإذن من الله تعالى، على الصحيح لأن الله تعالى أضاف التّحريم إليه بقوله تعالى:
.. إِلَّا ما حَرَّمَ.. ، وأنّ النّبي إذا أدّاه اجتهاده إلى شيء، كان دينا يلزمنا اتّباعه، لتقرير الله سبحانه إياه على ذلك. وقد حرّم نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم العسل على نفسه- على الرواية الصحيحة، أو خادمه «١» مارية، فلم يقرّ الله تحريمه، ونزل في القرآن: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم ٦٦/ ١]، وهل عليه الكفارة بتحريم المباح؟ رأيان لعلمائنا: أو حنيفة أجراه مجرى اليمين وجعله أصلا في تحريم كلّ مباح، والشافعي: لم يوجب فيه الكفارة، وجعله مخصوصا بموضع النّص.
وأما سبب تحريم يعقوب لحوم الإبل فهو كما قال ابن عباس: «لما أصاب يعقوب عليه السلام عرق النّسا، وصف الأطباء له أن يجتنب لحوم الإبل، فحرّمها على نفسه، فقالت اليهود: إنما نحرّم على أنفسنا لحوم الإبل لأن يعقوب حرّمها، وأنزل الله تحريمها في التّوراة فأنزل الله هذه الآية:

(١) الخادم: الغلام أو الجارية.

صفحة رقم 9
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية