آيات من القرآن الكريم

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ
ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ

ميثاق الأنبياء بتصديق بعضهم بعضا وأمرهم بالإيمان
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨١ الى ٨٣]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)
الإعراب:
لَما: من قرأ بكسر اللام علقها بأخذ، وما بمعنى الذي. ومن فتح اللام جعلها لام الابتداء، وهي جواب لما دل عليه الكلام من معنى القسم لأن أخذ الميثاق إنما يكون بالأيمان والعهود، ويجوز حينئذ أن تكون «ما» بمعنى الذي أو شرطيه، فإذا كانت بمعنى «الذي» كانت مرفوعة مبتدأ، وآتَيْتُكُمْ: صلته، والعائد محذوف تقديره: آتيتكموه، وخبر المبتدأ: مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ومِنْ: زائدة، وقوله: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ معطوف على الصلة، وعائده محذوف تقديره: ثم جاءكم رسول به.
وإذا كانت شرطية فهي في موضع نصب بآتيتكم، وآتَيْتُكُمْ في موضع جزم بما، وكذا ثُمَّ جاءَكُمْ. وقوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ جواب قسم مقدر ينوب عن جواب الشرط، وحينئذ لا تحتاج الجملة إلى عائد، ولهذا كان هذا الوجه أوجه عند كثير من المحققين، لعدم العائد في الجملة المعطوفة إذا كانت شرطية.
طَوْعاً وَكَرْهاً منصوبان على المصدر في موضع الحال، أي طائعين ومكرهين.
البلاغة:
لَما آتَيْتُكُمْ التفات من الغيبة في قوله: النَّبِيِّينَ إلى الحاضر.

صفحة رقم 277

ويوجد جناس اشتقاق بين لفظ فَاشْهَدُوا والشَّاهِدِينَ.
ويوجد طباق بين طَوْعاً وكَرْهاً.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ اذكر حين قبل الله مِيثاقَ الميثاق: العهد المؤكد الموثّق: وهو أن يلتزم المعاهد شيئا ويؤكد ذلك بيمين أو بمؤكدات أخرى من ألفاظ العهود. أَأَقْرَرْتُمْ أقرّ بالشيء: أخبر بما يلزمه أو بما يدل على ثبوته، مأخوذ من: قرّ الشيء: إذا ثبت في مكانه.
وَأَخَذْتُمْ قبلتم. إِصْرِي عهدي، الإصر: العهد المؤكد الذي يحمل صاحبه على الوفاء بما التزمه.
تَوَلَّى أعرض. بَعْدَ ذلِكَ الميثاق. الْفاسِقُونَ الخارجون عن الطاعة وحدود الله.
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ الهمزة للإنكار أي: أيتولون غير دين الله؟ وقدم المفعول الذي هو فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ على فعله لأنه أهم من حيث إن الإنكار متجه إلى المعبود بالباطل. وَلَهُ أَسْلَمَ انقاد. طَوْعاً اختيارا بلا إباء. وَكَرْهاً بالسيف بمعاينة ما يلجئ إليه.
المناسبة:
الآيات السابقة من أول السورة إلى هنا، وعلى التخصيص المتضمنة خيانة أهل الكتاب بتحريفهم كلام الله، وتغييرهم أوصاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الموجودة في كتبهم، قصد بها حملهم على الإيمان برسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وإثبات نبوته، وتؤكد هذه الآية القصد المذكور من طريق إقامة الحجة عليهم: وهو أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع الأنبياء من لدن آدم إلى عيسى عليهم السلام أن يؤمن كل واحد بمن يأتي بعده، ويصدق برسالته، وينصره في مهمته، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع المبعوث بعده ونصرته.
فإذا كان هذا هو ميثاق الأنبياء، فالواجب على أتباعهم الإيمان بكل المرسلين والتصديق بما معهم لأن رسالتهم واحدة، وهي رسالة الإسلام بالمعنى العام وبالمعنى الخاص الذي هو رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم: وهو الخضوع والانقياد لأوامر الله،

صفحة رقم 278

وإعلان مبدأ التوحيد، والتمسك بأصول الفضائل والأخلاق، وهو الدين الحق الذي لا يقبل الله سواه.
التفسير والبيان:
اذكر يا محمد لهم وقت أن قبل الله الميثاق المأخوذ على جميع الأنبياء أنهم مهما آتيناهم من كتاب وحكم ونبوة، ثم جاءهم رسول مصدق وموافق لما معهم، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين: محمد صلّى الله عليه وسلّم، لتؤمنن به ولتنصرنه لأن رسالات الأنبياء يكمل بعضها بعضا، والقصد من إرسالهم واحد، فهم متفقون في الأصول، وأما اختلافهم في الفروع فهو لخير الإنسان ومصلحته، ولمناسبته مع تقدم وتطور الحياة الإنسانية.
فإن تعاصر نبيان مثلا في أمة واحدة مثل موسى وهرون عليهما السلام، كانا متفقين في كل شيء وإن اختلفت أقوامهما فالمتأخر يؤمن بدعوة المتقدم وبالعكس، كما آمن لوط بما جاء به إبراهيم عليهما السلام وأيده في دعوته، وإن تعاقبا مثل موسى وعيسى عليهما السلام صدق كل منهما بدعوة الآخر. وهكذا بعثة خاتم النبيين يجب على أتباع الأنبياء السابقين الإيمان بها وتأييدها. فليس الدين مصدر شقاق واختلاف، وسبب عداوة وبغضاء، كما فعل أهل الكتاب حين عادوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإنما هو سبب تجمع واتحاد، وسبيل حب ووداد، وطريق إنقاذ وإسعاد.
ثم قال الله تعالى لمن أخذ عليهم الميثاق من النبيين: أأقررتم وقبلتم ذلك الإيمان والعهد بالرسول المصدق لما معكم، ونصرته وتأييده، أقبلتم عهدي وميثاقي المؤكد؟! قالوا: أقررنا واعترفنا بذلك، فقال تعالى: فليشهد بعضكم على بعض، وأنا معكم شاهد عليكم وعلى إقراركم، أعلم بكل شيء عنكم، لا يفوتني شيء.
روى

صفحة رقم 279

الشيخان عن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به؟ قال:
فيقول: نعم، فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك»
.
هذه المحاورة على طريق التمثيل توكيد عليهم وتحذير من الرجوع عن الإقرار إذا عملوا بشهادة الله، وشهادة بعضهم على بعض.
فمن تولى بعد ذلك الميثاق والتوكيد، واتخذ الدين أداة للتفريق والعداء، ولم يؤمن بالنبي المبعوث في آخر الزمان، المصدّق لمن تقدمه، المهيمن على الرسالات والكتب السابقة، كما حصل من أهل الكتاب المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فأولئك هم المتمردون من الكفار، الخارجون عن عهد الله وميثاقه، الناقضون العهد.
وإذا كان الدين واحدا، وأن الرسل متفقون في الأصول العامة لوحدة الدين الحق، كما بيّن تعالى، فلماذا ينكر أهل الكتاب نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم؟! أيتولون غير دين الله، وغير الحق بعد ما تبين، ويريدون غير الإسلام دينا؟ وقد أسلم وخضع لله تعالى وانقاد لحكمه ومراده أهل السموات والأرض، إما طوعا واختيارا من أنفسهم بالإنصاف والنظر في الأدلة، أو كرها بالسيف أو بمعاينة ما يلجئ إلى الإسلام كنتق الجبل على بني إسرائيل، وإدراك الغرق فرعون والإشراف على الموت، فلما رأوا بأس الله وتصرفه بالكون والتكوين والإيجاد قالوا: آمنا بالله وحده، وإلى الله المرجع والمآب يوم المعاد، يرجع إليه سائر الخلق، فيجازي كلّا بعمله، سواء من أسلم وخضع وانقاد لله، ومن اتخذ غير الإسلام دينا من اليهود والنصارى، وهذا تهديد ووعيد لهم.

صفحة رقم 280

فقه الحياة أو الأحكام:
أخذ الله تعالى ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضا، ويأمر بعضهم بعضا، فذلك معنى النصرة بالتصديق، ومن بنود الميثاق: أن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام وينصروه إن أدركوه، وأمرهم أن يأخذوا بذلك الميثاق على أممهم.
ثم جاءهم الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، فما عليهم إلا أن يؤمنوا برسالته ويؤيدوا دعوته، تنفيذا للميثاق العظيم على الأنبياء، إن كانوا من أتباعهم، ووفاء بالعهد المؤكد، ولأنه مصدّق لرسالات الأنبياء السابقين لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف، وهم قد شهدوا على بعضهم بموجب الميثاق وشهد الله عليهم جميعا به.
ومن لم يؤت الكتاب فهو في حكم من أوتي الكتاب.
ومن أعرض عن اتباع رسالة الإسلام التي جاء بها محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتولى من أمم الأنبياء أو من غير أممهم عن الإيمان بوحدانية الله وبصدق رسالة خاتم الأنبياء، بعد أخذ الميثاق، فأولئك هم الخارجون عن دائرة الإيمان، المصنّفون مع الكفار المتمردين عن طاعة الله.
أهم يطلبون غير دين الله؟! وقد خضع لحكمه أهل السموات والأرض، وكل مخلوق هو منقاد مستسلم لأنه مجبول على ما لا يقدر أن يخرج عنه.
قال الكلبي: إن كعب بن الأشرف وأصحابه اختصموا مع النصارى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: أيّنا أحق بدين إبراهيم؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كلا الفريقين بريء من دينه» فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فنزل: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ يعني: يطلبون.

صفحة رقم 281

وهذه الآية نظير قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف ٤٣/ ٨٧] وقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان ٣١/ ٢٥].
عن مجاهد عن ابن عباس قال: إذا استصعبت دابّة أحدكم أو كانت شموسا «١»، فليقرأ في أذنها هذه الآية: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ.
والخلاصة: إن الدين الحق هو الانقياد لله والإخلاص له، وإن دين الله واحد، وإن رسالات الأنبياء ومللهم واحدة في أصولها العامة، وإن الأنبياء يكمل بعضهم بعضا وينصر بعضهم بعضا ويؤيد دعوته، وهم جميعا عبيد لله مؤمنون بوحدانيته، مذعنون لوجهه الكريم، مخلصون له الدين حنفاء، وقد أدّوا رسالتهم على الوجه الأكمل، وما على البشرية إلا التزام منهجهم، والسير على سنتهم، دون اختلاف ولا نزاع ولا معاداة، ولا تمسك بالموروثات، وبما عندهم من كتاب وحكمة، فقد انصبّت كل الأديان في الإسلام في صورته الأخيرة، وانصهرت كل الأحكام في حكم رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وكان القرآن مصدّقا لما بين يديه وما تقدمه من الكتب السماوية ومهيمنا عليها، ودين الله الواحد: هو عبادة الله وحده لا شريك له الذي أسلم له من في السموات والأرض، أي استسلم له من فيهما طائعين أو كارهين، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [الرعد ١٣/ ١٥] وقال: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ، عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ، سُجَّداً لِلَّهِ، وَهُمْ داخِرُونَ، وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ، وَالْمَلائِكَةُ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ، يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النحل ١٦/ ٤٨- ٥٠] فالمؤمن مستسلم بقلبه

(١) الشموس: الدابة النفور التي لا تخضع لأمر صاحبها.

صفحة رقم 282
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية