
الْكِتابِ
[المائدة ٥/ ١٥] والآية الأخرى في المائدة: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [المائدة ٥/ ١٣] وآيات الإسراء: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ إلى قوله: وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً [الإسراء ١٧/ ٤- ٧] وآية إبراهيم: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ... فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [إبراهيم ١٤/ ٩] وآية الأنعام: قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ، تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها، وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الأنعام ٦/ ٩١].
فقه الحياة أو الأحكام:
أثبتت الآية صفتين شنيعتين لليهود والنصارى وهما تحريف التوراة والإنجيل، وتأويلهما، ووضع كتب يكتبونها من عند أنفسهم، والكذب والافتراء على الله. وهاتان الصفتان يصدر عنهما عادة أسوأ الأفعال وأخس المؤامرات، وأخطر أنواع التضليل والتدليس والخداع الذي يمارسونه في حق البشرية.
افتراء أهل الكتاب على الأنبياء
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)

الإعراب:
وَلا يَأْمُرَكُمْ على قراءة النصب معطوف على أَنْ يُؤْتِيَهُ أو على ثُمَّ يَقُولَ وضميره وهو «كم» للبشر. وعلى قراءة الرفع على الاستئناف والاقتطاع مما قبله، وتكون لا بمعنى «ليس» والضمير المرفوع في يَأْمُرَكُمْ لله تعالى.
البلاغة:
يوجد طباق بين لفظ بِالْكُفْرِ ومُسْلِمُونَ.
لا يَأْمُرَكُمْ الهمزة للاستفهام الإنكاري أي لا ينبغي له.
المفردات اللغوية:
لِبَشَرٍ إنسان ذكرا أو أنثى، واحدا أو جمعا. وَالْحُكْمَ الحكمة وهي فقه الشريعة وفهم القرآن، وذلك يوجب العمل به. عِباداً مفرده عبد بمعنى عابد. رَبَّانِيِّينَ واحده رباني:
منسوب إلى الرب لأنه عالم به مواظب على طاعته، مثل: رجل إلهي. فالمراد بالربانيين: هم العلماء الفقهاء العاملون المنسوبون إلى الرب. قال محمد بن الحنفية حين مات ابن عباس: «اليوم مات ربانيّ هذه الأمة». تَدْرُسُونَ تقرؤون الكتاب.
سبب النزول:
أخرج ابن إسحاق والبيهقي عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله، ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى؟ قال: معاذ الله، فأنزل الله في ذلك: ما كانَ لِبَشَرٍ إلى قوله: بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
وأخرج عبد الرزاق في تفسيره عن الحسن البصري قال: بلغني أن رجلا قال: يا رسول الله، نسلّم عليك، كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟
قال: لا، ولكن أكرموا نبيكم، واعرفوا الحق لأهله، فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، فأنزل الله: ما كانَ لِبَشَرٍ إلى قوله: بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.

والغرض من الآية تكذيب أهل الكتاب الذين يعظمون عيسى والعزير تعظيم عبادة.
التفسير والبيان:
لا ينبغي لبشر ينزل الله عليه الكتاب، ويعلمه الحكمة: فقه الدين ومعرفة أسرار الشرع، ويؤتيه النبوة والرسالة، ثم يقول بعد هذا للناس: اعبدوني من دون الله أي متجاوزين ما يجب من إفراد العبادة لله تعالى، فهذا هو الشرك بعينه، وإنما يجب إخلاص العبادة لله وحده، كما قال: قُلِ: اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي [الزمر ٣٩/ ١٤].
وروى مسلم وغيره حديثا قدسيا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري، تركته وشركه»
وفي رواية: «فأنا منه بريء، هو للذي عمله».
وروى أحمد عنه صلّى الله عليه وسلّم: «إذا جمع الله الناس يوم القيامة نادى مناد: من أشرك في عمل عمله لله أحدا، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك».
ولكن يقول الرسول للناس: كونوا ربانيين أي علماء فقهاء عاملين بما أمر الله، مطيعين له طاعة تامة لأن العلم الصحيح هو الذي يبعث على العمل، وإن تعلم الكتاب الإلهي ودراسته يوجب الطاعة، ويحقق وصف الرباني. ولا يعقل أن يأمر الرسول باتخاذ إله أو رب غير الله، أو بعبادة أحد غير الله، لا نبي مرسل ولا ملك مقرّب. وقد كان مشركو العرب يعبدون الملائكة، وحكى القرآن: وَقالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقالَتِ النَّصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة ٩/ ٣٠]. وهذا كله مخالف لرسالات الأنبياء التي تأمر بعبادة الله وحده.
أيأمركم هذا النبي بالكفر بعد الإسلام، وهذه شهادة لهم بأنهم مسلمون، أي لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله، ومن دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا

إلى الكفر، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء ٢١/ ٢٥] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦] وقال: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف ٤٣/ ٤٥] وقال إخبارا عن الملائكة: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ: إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ، فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ، كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء ٢١/ ٢٩].
فقه الحياة أو الأحكام:
من المستبعد أن يأتمن الله تعالى رسولا أو نبيا على وحيه، ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه، فإن الأمين يقوم عادة بما كلفه به المؤتمن له. وإنما تكون دعوة الأنبياء موجّهة نحو عبادة الله وحده لا شريك له، والعبادة تتطلب الإخلاص، قال تعالى: قُلِ: اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي [الزمر ٣٩/ ١٤] وقال:
وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ [البينة ٩٨/ ٥].
ودلّت الآية على أن العلم الصحيح والفقه وفهم أسرار الشريعة يستدعي العمل والطاعة والتزام التكاليف الشرعية لأن من عرف الله هابه، ومن هابه امتثل أمره، ومن آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة يكون أعلم الناس بالله.
فمن تعلم علوم الشريعة وترك العمل بها فهو ساقط الاعتبار أمام الله، وكان علمه وبالا عليه، وحجة على ضلاله وهلاكه وفساده.
والتقرب إلى الله لا يكون إلا بالعمل بالعلم، والعلم الذي لا يبعث على العمل لا يعدّ علما صحيحا. والكفر يتنافى مع الإسلام، والإسلام دين الفطرة، وهو في عرف القرآن: دين جميع الأنبياء.