آيات من القرآن الكريم

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ

وقوله: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)، وقوله: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ (٧٤) ينقض على المعتزلة قولهم بوجهين:
أحدهما: أنهم لا يرون لله أن يختص أحدًا -بشيء فيه صلاح- غيره صرفَهُ عن ذلك الغير، بل إن فعل ذلك كان محابيًا عندهم بخيلًا، بل في الابتداء لم يكن له ذلك؛ وإنما يعطى بالاستحقاق، وذلك حق يلزمه، وقد ذكر بحرف الامتنان.
وعندهم -أيضًا-: ليس له ألا يشاء أو لا يعطى؛ فلا معنى لذكره الذي ذكر مع ما صار ذلك، بيد غيره إذ يلزم ذلك، واللَّه أعلم.
والثاني: أن الذي يحق عليه - أن يبذل كُلا الأصلح في الدِّين، وأنه إن قَصَرَ أحدًا عن ذلك كان جائزًا، ثم الأفضل للعبد شيء مما أعطى حتى يعطيه فيما أمره؛ فيكون الفضل في الحقيقة في يد العبد: يؤتى نفسه إن شاء ويمنع إن شاء، واللَّه الموفق.
* * *
قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)
وقوله: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ):
والقنطار ما تقدم ذكره، (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ):
وصف - جلّ وعز - أهل الكتاب بعضهم بأداء الأمانة، وبعضهم بالخيانة، وليس المراد من الآية - واللَّه أعلم - القنطار نفسه أو الدِّينار، ولكن وصفهم بأن فيهم أمانة وخيانة، قلَّت الخيانة أو عظمت، وكذلك الأمانة؛ ألا ترى أنه يستحق الذم بدون القنطار والدِّينار إذا خان، وكذلك يستحق الحمد إذا أدى بدون ذلك؟! دلّ أنه لم يرد به التقدير، ولكن على التمثيل، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا

صفحة رقم 407

يَرَهُ)، ليس على إرادة الذرة؛ ولكن على التمثيل أن لعمل الخير والشر جزاء وإن قل؛ فكذلك الأول.
وفيه دلالة جواز العمل بالاجتهاد، ولما ذكرنا أنه لم يرد القدر الذي ذكره؛ ولكن لمعنى فيه: بالاجتهاد يعرف لا بالنصوص، وعن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن الدِّينار عنده مستكثر يحلف عليه مدعيه عند المنبر، واللَّه - تعالى - جعله مستقلا.
وفيه دلالة -أيضًا- جواز شهادة بعضهم لبعض وعلى بعض، إن كانت فيهم

صفحة رقم 408

نزلت، على ما قاله بعض أهل التأويل؛ لأنه وصف - عَزَّ وَجَلَّ - بعضهم بالأمانة في المال، وإن كانت الأمانة لهم في الذين والشهادة أمانة، واللَّه أعلم.
ويحتمل: أن تكون الآية فيمن أسلم منهم وصف بالأمانة، ومن لم يسلم وصفهم بالخيانة؛ على ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - مثله في آية أخرى: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ): وصف - عَزَّ وَجَلَّ - من آمن منهم بالعدالة والهدى، ووصف الكفار بالخيانة في غير آي من القرآن.
ويحتمل أن تكون الآية فيما ائتُمِنوا، أو فيما جرى بينهم وبين المسلمين من المداينة من غير رهن ولا كفالة؛ وهو كقوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ)

صفحة رقم 409

أمرهم بأداء الأمانة فيما ائتمنوا.
وقوله: (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا):
قيل: ملازمًا، مواظبًا، ملحًّا، دائمًا، متقاضيًا. ومن عامل من المسلمين الناس هذه المعاملة يُخافُ دخوله في هذا النهي والوعيد.
وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)
قالوا ذلك؛ لأنهم كانوا يستحلون أموال المسلمين ظلمًا، يقولون: لم يُجعل علينا في كتابنا لأموالهم حرمةُ أموالنا علينا؛ يقولون: نحن أبناء اللَّه وأحباؤه، وأرادوا بالأمّيين: العرب؛ إذ ليس لهم كتاب.
وقيل: ذلك الاستحلال بأن قالوا: ليس علينا لله فيهم سبيل، وأرادوا بالأميين: المسلمين؛ على ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " نَحْنُ أمَّة أُمَيَّة؛ لَا نَحْسُبُ وَلَا نَكْتُبُ ".
وقيل: قالوا: لا حرج علينا في حبس أموالهم في التوراة؛ فأكذبهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بقوله:

صفحة رقم 410
تأويلات أهل السنة
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي
تحقيق
مجدي محمد باسلوم
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان
سنة النشر
1426
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية