آيات من القرآن الكريم

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨ

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٩ الى ٦٣]

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)
تفسير المفردات
المثل: الحال الغريبة والشأن البديع، والامتراء: الشكّ، والبهلة (بالضم والفتح) اللعنة والدعاء، يقال ماله بهله الله: أي لعنه، ثم شاع استعماله في مطلق الدعاء، يقال فلان يبتهل إلى الله في حاجته: أي يدعوه، والقصص: تتبع الأثر، ومنه قوله تعالى:
«وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ» أي تتبعى أثره ثم استعمل في الكلام والحديث، لأن القاصّ يتبع المعاني ليوردها، والعزيز: أي ذو العزة الذي لا يغالبه أحد، والحكيم: ذو الحكمة التي لا يساميه فيها أحد
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف قصص عيسى وأمه وما جاء به، وكفر بعض قومه به، ورميهم أمه بالزنا، وإيمان بعض آخر به.
أردف ذلك ذكر حال فريق ثالث لم يكفر به، ولم يؤمن به إيمانا صحيحا، بل افتتن به افتتانا، لكونه ولد من غير أب، فزعم أن معنى كونه (كلمة الله وروح الله) أن الله حل في أمه، وأن كلمة الله تجسدت فيه فصار إنسانا وإلها، فضرب مثلا ليردّ به على الفريقين الكافرين به من اليهود، والمفتونين به من النصارى.

صفحة رقم 172

فبين أن خلق آدم أعجب من خلق عيسى فهذا خلق من حيوان من نوعه، وذاك قد خلق من التراب فهو أولى بالمزية إن كانت، والإنكار إن صح الإنكار.
وأمر الخلقة غريب بالنسبة إلينا، لكنه ليس بالغريب بالنسبة إلى الصانع المبدع.
والقوانين المعروفة في الخلق قد استخرجت مما نعهد ونشاهد، وليست بالقوانين العقلية التي قامت البراهين على استحالة ما عداها وإنا لنشاهد كل يوم ما يخالفها كالحيوان التي توجد من غير جنسها، أو الحيوان ذوات الأعضاء الزائدة، ويعبرون عن ذلك بفلتات الطبيعة، ولعل لهذه الشواذ وتلك الفلتات سننا أخرى مطردة لم تظهر لنا.
وهكذا شأن خلق عيسى، فكونه على غير السنن المعروفة لا يقتضى تفضيله على غيره من الأنبياء بله أن يكون إلها.
وقد روى في سبب نزول الآية أن وفد نجران من النصارى قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك تشتم صاحبنا؟ قال وما أقول، قالوا تقول إنه عبد الله قال أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا هل رأيت إنسانا من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله الآية.
الإيضاح
(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) أي إن شأن عيسى وصفته في خلق الله إياه على غير مثال سابق كشأن آدم في ذلك، ثم فسر هذا المثل وفصل ما أجمله فقال:
(خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) أي قدّر أوضاعه وكوّن جسمه من تراب ميت أصابه الماء فكان طينا لازبا لزجا.
وفي هذا توضيح للتمثيل ببيان وجه الشبه بينهما وقطع لشبه الخصوم، فإن إنكار خلق عيسى عليه السلام بلا أب مع الاعتراف بخلق آدم من غير أب ولا أم- مما لا ينبغى أن يكون ولا يسلمه العقل.

صفحة رقم 173

(ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي ثم أنشأه بشرا بنفخ الروح فيه كما جاء في قوله:
«ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ».
ثم أكد صدق هذا القصص فقال:
(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي هذا الذي أنبأتك به من شأن عيسى ومريم هو الحق، لا ما اعتقده النصارى في المسيح من أنه إله، ولا ما زعمه اليهود من رمى مريم بيوسف النجار.
(فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي فلا تشكن في أمرهما بعد أن جاءك العلم اليقيني به.
وتوجيه هذا النهى للنبى ﷺ مع استحالة وقوع الامتراء منه ذو فائدة من وجهين:
(١) أنه إذا سمع ﷺ مثل هذا الخطاب ازداد رغبة في الثبات على اليقين واطمئنان النفس.
(٢) أنه إذا سمعه غيره ازدجر ونزع عما يورث الامتراء، إذ أنه ﷺ على جلالة قدره خوطب بمثل هذا فما بالك بغيره؟
وخلاصة ذلك- دم على يقينك وعلى ما أنت عليه من الاطمئنان إلى الحق، والتنزه عن الشك فيه.
(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي فمن جادلك في شأن عيسى عليه السلام من بعد أن قصصت عليك من خبره وجليّة أمره ما قصصت.
(فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ، وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) أي فقل لهم: أقبلوا وليدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه للمباهلة والدعاء.
وفي تقديم هؤلاء على النفس في المباهلة، مع أن الرجل يخاطر بنفسه لهم- إيذان بكمال أمنه ﷺ وتمام ثقته بأمره وقوة يقينه، بأنه لن يصيبهم في ذلك مكروه وهذه الآية تسمى آية المباهلة.
وقد ورد من طرق عدة أن النبي ﷺ دعا نصارى نجران للمباهلة فأبوا.

صفحة رقم 174

أخرج البخاري ومسلم أن العاقب والسيد أتيا رسول الله ﷺ فأراد أن يلاعنهما، فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه، فو الله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا، ولا عقّبنا من بعدنا أبدا، فقالا له نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلا أمينا، فقال قم يا أبا عبيدة، فلما قام قال: هذا أمين هذه الأمة.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس «أن ثمانية من نصارى نجران قدموا على رسول الله ﷺ منهم العاقب والسيد فأنزل الله (قل تعالوا) الآية فقالوا أخرنا ثلاثة أيام، فذهبوا إلى قريظة والنضير وبنى قينقاع من اليهود فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه، وقالوا هو النبي الذي نجده في التوراة، فصالحوه على ألف حلة فى صفر وألف في رجب ودراهم».
وروى أن النبي ﷺ اختار للمباهلة عليّا وفاطمة وولديهما عليهم الرضوان وخرج بهم وقال: إن أنا دعوت فأمّنوا أنتم.
وأخرج ابن عساكر عن جعفر عن أبيه أنه لما نزلت هذه الآية جاء بأبى بكر وولده وبعمر وولده، وبعثمان وولده. ولا شك أن الذي يفهم من الآية: أن النبي ﷺ أمر أن يدعو المحاجين والمجادلين في شأن عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونساء وأطفالا، ويجمع هو المؤمنين رجالا ونساء وأطفالا ويبتهلوا إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى.
وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب من نصارى نجران وسواهم على امترائهم في حجاجهم، وكونهم على غير بينة فيما يعتقدون.
وفي الآية عبرة لمن ادّكر، لأنه طلب فيها مشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمفاضلة الدينية وفي هذا دليل على أن المرأة كالرجل حتى في الأمور العامة إلا في بعض مسائل ككونها لا تباشر الحرب بنفسها، بل تشتغل بخدمة المحاربين ومداواة الجرحى، ولا تتولى القضاء في الجنايات ونحوها.

صفحة رقم 175

وأين هذا من حال نساء المسلمين اليوم في جهلهنّ بأمور الدين، وعدم مشاركتهنّ للرجال في عمل من الأعمال الدينية أو الشئون الاجتماعية، ولا همّ لنساء الأغنياء في المدن إلا الزينة والتنوق في المطاعم والمشارب والملابس كما لا عمل لنساء الفقراء في القرى والدساكر إلا الخدمة في الحقول والمنازل، فهن كالاتن الحاملة والبقر العاملة، وكان من جراء هذا أن صغرت نفوسهن، وضعفت آدابهن، وصرن كالدواجن في البيوت، أو السوائم في الصحراء، وساءت تربية البنين والبنات، وسرى الفساد من الأفراد إلى الجماعات، وعم الأسر والعشائر، والشعوب والقبائل.
وقد قام في العهد الأخير جماعات من العقلاء في كثير من البلاد الإسلامية يطالبون بتحرير المرأة ومشاركتها الرجل في العلم والأدب وشئون الحياة، وصادفت هذه الدعوة آذانا صاغية، فبدأ المسلمون يعلمون بناتهم ولكن يحسن أن بصحب هذا التعليم شىء كثير من التربية الدينية والإصلاح في الأخلاق والعادات.
وقد كان هذا عاملا من عوامل الانقلاب الاجتماعى الذي لا ندرى ما تكون عاقبته في إصلاح الأسر الإسلامية ولا ما سيتمخص عنه من نفع للإسلام والمسلمين.
(إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) أي إن هذا الذي قصصته عليك في شأن عيسى هو الحق لا ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو ابن الله، ولا ما يدعيه اليهود من كونه ابن زنا.
(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ) الذي خلق كل شىء وليس كمثله شىء.
وفي هذا رد على النصارى الذين يقولون إن الله ثالث ثلاثة.
(وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وإنه تعالى ذو العزة الذي لا يغالبه أحد، وذو الحكمة التي لا يساويه فيها أحد حتى يكون شريكا له في ألوهيته، أو ندّا له فى ربوبيته، وما الولد إلا نسخة من الوالد، فهو يساويه في جنسه ونوعه، وهو سبحانه فوق الأجناس والأنواع.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) أي فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك، ولم يقبلوا عقيدة التوحيد التي جئت بها، ولم يجيبوك إلى المباهلة، فإن الله عليم بحال

صفحة رقم 176
تفسير المراغي
عرض الكتاب
المؤلف
أحمد بن مصطفى المراغي
الناشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
الطبعة
الأولى، 1365 ه - 1946 م
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية