
فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعونّ إلى المال، فلا يقبله أحد».
وأما تطهيره من الذين كفروا: فهو إنجاؤه مما كانوا يرمونه به، أو يرومونه منه، ويريدونه به من الشر.
وأما قوله وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ففيه رأيان: قال الضحاك ومحمد بن أبان: المراد الحواريون. وقال آخرون:
الخطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، والفوقية: بالحجة وإقامة البرهان، وقيل: بالعز والغلبة.
والتفوق بالحجة على صحة دين الإسلام بالمعنى العام الذي يتفق عليه جميع الأنبياء وأتباع عيسى وموسى وغيرهم من أتباع محمد صلوات الله وسلامه عليهم: هو الأولى، مثل آية: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.. [النور ٢٤/ ٥٥].
وجزاء الكافرين: النار في الآخرة، والقتل والصلب والسبي والإذلال في الدنيا. وجزاء المؤمنين الذين عملوا الصالحات: السعادة والاطمئنان في الدنيا، والجنة في الآخرة، فهي سعادة في الدارين.
الرّدّ على من زعم ألوهية عيسى والمباهلة
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٩ الى ٦٣]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)

الإعراب:
خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جملة مفسّرة للمثل، وهي موضع رفع خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل:
ما المثل؟ فقال: خلقه من تراب، أي المثل خلقه من تراب. ولا يجوز أن يكون وصفا لآدم لأن آدم معرفة، والجملة لا تكون إلا نكرة، والمعرفة لا توصف بالنكرة. ولا يجوز أيضا أن يكون حالا لأن خَلَقَهُ فعل ماض، والفعل الماضي لا يكون حالا.
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الحق: خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا الحقّ من ربّك، أو هو الحقّ، أي أمر عيسى.
وَما مِنْ إِلهٍ من: زائدة للتوكيد.
البلاغة:
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أتى بوصف الربوبية وأضافه إلى الرّسول عليه الصلاة والسلام لتشريفه.
فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ هذا من باب الإثارة والإلهاب، لزيادة التّثبيت.
المفردات اللغوية:
إِنَّ مَثَلَ عِيسى المثل: الشأن الغريب والحال المدهشة. عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ أي كشأنه في خلقه من غير أم ولا أب، وهو من تشبيه الغريب بالأغرب، ليكون أوقع في النفس وأقطع لقول الخصم.
والمراد أنّ شبه عيسى وصفته في خلق الله إياه على غير مثال سبق، كشأن آدم في ذلك، ثم فسّر هذا المثل بقوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ أي خلق قالبه وقدر أوضاعه وكون جسمه من تراب ميّت أصابه الماء، فكان طينا لازبا لزجا. ثم قال له: كن بشرا، فكان، وكذلك عيسى قال له:
كن من غير أب فكان.
فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين فيه، الامتراء: الشّك. فَمَنْ حَاجَّكَ جادلك من النصارى. ثُمَّ نَبْتَهِلْ نتضرّع في الدّعاء، وابتهل القوم: تلاعنوا، والبهلة: اللعنة. فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ بأن نقول: اللهمّ العن الكاذب في شأن عيسى.
وقد دعا صلّى الله عليه وسلّم وفد نجران لذلك، لما حاجوه به، فقالوا: حتى ننظر في أمرنا، ثم نأتيك، فقال ذو رأيهم- مستشارهم، واسمه «العاقب» :«لقد عرفتم نبوّته، وأنه ما باهل قوم نبيّا إلا هلكوا»، فودّعوا الرجل وانصرفوا، فأتوا الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وقد خرج، ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي، وقال لهم: إذا دعوت، فأمّنوا، فأبوا أن يلاعنوا وصالحوه على الجزية. رواه نعيم.

الْقَصَصُ الخبر. الْحَقُّ الذي لا شكّ فيه. الْعَزِيزُ أي ذو العزّة الذي لا يغالبه أحد في ملكه. الْحَكِيمُ ذو الحكمة الذي لا يساميه أحد في صنعه.
سبب النزول:
قال المفسّرون: إن وفد نجران قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مالك تشتم صاحبنا؟ قال: وما أقول؟ قالوا: تقول: إنه عبد، قال: أجل، إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية «١».
المناسبة:
ذكر الله تعالى سابقا قصة عيسى وأمه، وإيمان بعض قومه به، وكفر بعض آخر، وهنا ذكر حال فريق ثالث لم يكفر به، ولم يؤمن به إيمانا صحيحا، بل افتتن به افتتانا، لكونه ولد من غير أب، فزعم أن معنى كونه «كلمة الله وروح الله» : أنّ الله حلّ في أمه، وأن كلمة الله تجسّدت فيه، فصار إنسانا وإلها ذا طبيعة مزدوجة، فردّ الله عليهم بأن خلق آدم أعجب من خلق عيسى.
التفسير والبيان:
إن صفة عيسى في قدرة الله حيث خلقه من غير أب كمثل آدم حيث خلقه من غير أب ولا أم، بل خلقه من تراب، وقدره جسدا من طين، ثم قال له:
كن فيكون أي أنشأه بشرا بنفخ الروح فيه. شبّه الغريب بالأغرب منه، والتشبيه واقع على أن عيسى خلق من غير أب كآدم، لا على أنه خلق من تراب، والشيء قد يشبّه بالشيء لاتّفاقهما في وصف واحد، وإن اختلفا في أمور أخرى.
فالذي خلق آدم من غير أب قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى،

وإن جاز ادّعاء النبوّة في عيسى، لكونه مخلوقا من غير أب، فجواز ادعائها في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالاتّفاق أن ذلك باطل، فدعوى النبوّة في عيسى أشدّ بطلانا.
ولكن الله تعالى أراد أن يظهر قدرته للناس حين خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية البشر من ذكر وأنثى. ولهذا قال تعالى في سورة مريم: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [٢١]، وقال هنا: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.
هذا الذي أخبرتك به من شأن عيسى ومريم هو القول الحق، لا ما اعتقده النصاري في المسيح من أنه إله، ولا ما زعمه اليهود من رمي مريم بيوسف النّجار.
فلا تشكنّ في أمرهما بعد أن جاءك العلم اليقيني به. وهذا النهي يثير في النّبي وأمّته ضرورة الاعتصام باليقين واطمئنان النفس إلى الخبر الإلهي. أي واظب على يقينك وطمأنينة نفسك إلى الحقّ والبعد عن الشّك فيه، أو أن الخطاب للنّبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمته، لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن شاكّا في أمر عيسى عليه السّلام.
فمن جادلك في شأن عيسى عليه السّلام بعد معرفة الحقّ واليقين فادعهم إلى المباهلة أي الملاعنة: بأن نتباهل وندعو الله أن يلعن الكاذب ويطرده من رحمته. وهذه الآية تسمى آية المباهلة.
وقد ثبت أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم دعا نصارى نجران للمباهلة، فأبوا.
جاء في سيرة ابن إسحاق: أنه قدم سنة تسع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد نصارى نجران ستون راكبا: فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم، منهم: «العاقب» واسمه عبد المسيح، وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه. ومنهم السيّد وهو الأيهم، وكان عالمهم، ومنهم أبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، وكان أسقفهم. فدخلوا بعد العصر

مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فصلوا صلاتهم إلى المشرق، ثمّ كلّموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا عن عيسى: هو الله، هو ولد الله، هو ثالث ثلاثة، فنزل القرآن للرّدّ عليهم.
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه: أنه جاء العاقب والسيّد صاحب نجران إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد أن يلاعناه، فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبيّا، فلاعناه، لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. فقال: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا، فقال: لأبعثنّ معكم رجلا أمينا حق أمين، قم يا أبا عبيدة بن الجرّاح، فلما قام قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا أمين هذه الأمّة.
وروي أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم اختار للمباهلة عليّا وفاطمة وولديهما: الحسن والحسين، وخرج بهم وقال: إن أنا دعوت، فأمّنوا أنتم.
وبعد أن رفضوا المباهلة صالحوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم على الجزية: وهي دفع ألف حلّة في صفر، وألف في رجب ودراهم.
وهذا يدلّ على قوة اليقين والثّقة بما يقول، وعلى أن امتناعهم عن المباهلة فيه تقرير للخطر وكونهم على غير بيّنة فيما يعلنون، فما أمكنهم الإقدام على المباهلة.
إن هذا الذي قصصته عليك في شأن عيسى هو القصص الحق الذي لا مرية فيه ولا جدال، لا ما يدّعيه النصارى من كونه إلها أو ابن الله، ولا ما يدّعيه اليهود من كونه ابن زنا. وسمّيت قصصا لأن المعاني تتابع فيها.
وليس هناك إله إلا الله العزيز الذي لا يغلبه أحد، الحكيم: ذو الحكمة الذي يضع كل شيء في موضعه الصحيح المناسب له.
فإن أعرضوا بعد هذا عن اتّباعك وتصديقك، ولم يعلنوا وحدانية الله، ولم يجيبوا

إلى المباهلة، فإن الله عليم (واسع العلم) بحال المفسدين، وسيجازيهم على أعمالهم شرّ الجزاء. وكلّ من عدل عن الحقّ إلى الباطل فهو المفسد، والله قادر عليه لا يفوته شيء.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن عجائب الخلق وخلق الكائنات وأمر الخليقة تدلّ على وجود الخالق وهو الله تعالى، كما قال: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَيَوْمَ يَقُولُ: كُنْ فَيَكُونُ، قَوْلُهُ الْحَقُّ [الأنعام ٦/ ٧٣]. ومن خلقه تعالى: خلق الناس على وفق قوانين عادية، أو على غير العادة، مثل خلق آدم، وحواء، وعيسى. وعقد الشّبه بين آدم وعيسى هو في أنهما خلقا من غير أب، وذلك للرّدّ على وفد نجران الذين أنكروا على النّبي صلّى الله عليه وسلّم قوله: إن عيسى عبد الله وكلمته، فقالوا: أرنا عبدا خلق من غير أب؟!
فقال لهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم: آدم، من كان أبوه؟ أعجبتم من عيسى ليس له أب؟ فآدم عليه السّلام ليس له أب ولا أم.
وآية المباهلة حدّ فاصل في الجدال لأن اللعنة محقّقة فيها على الكاذب.
وهذه الآية من أعلام نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه دعاهم إلى المباهلة، فأبوا ورضوا بالجزية، بعد أن أعلمهم كبيرهم: العاقب أنهم إن باهلوه اضطرم عليهم الوادي نارا، فإن محمدا نبيّ مرسل، ولقد تعلمون أنه جاءكم بالفصل في أمر عيسى فتركوا المباهلة، وانصرفوا إلى بلادهم على أن يؤدوا في كل عام ألف حلّة في صفر، وألف حلّة في رجب، فصالحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ذلك بدلا من الإسلام.
ودلّ قوله تعالى: نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحسن: «إنّ ابني هذا سيّد» «١»
على خصوصية تسمية الحسن والحسين: ابني النّبي صلّى الله عليه وسلّم دون غيرهما،
لقوله عليه الصلاة والسلام: «كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي» «٢».
(٢) رواه الطبراني والحاكم والبيهقي عن عمر.