
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن قصة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وقد ذكر تعالى في الآيات السابقة بشارة مريم بالسيد المسيح، ثم أعقبها بذكر معجزاته وكلها براهين ساطعة تدل على نبوته عليه السلام، ومع كل البراهين والمعجزات التي أيده الله بها فإِنَّ الكثيرين من بني إِسرائيل لم يؤمنوا به وقد عزم أعداء الله «اليهود» على قتله فنجّاه الله من شرهم ورفعه إِلى السماء.
اللغَة: ﴿أَحَسَّ﴾ عرف وتحقق وأصله من الإِحساس وهو الإِدراك ببعض الحواس الخمس ﴿الحواريون﴾ جمع حواري وهو صفوة الرجل وخاصته ومنه قيل للحضريات حواريات لخلوص ألوانهن وبياضهن قال الشاعر:
فقل للحورايات يَبْكينَ غيرنا | ولا تَبْكنا إِلا الكلابُ النوابحُ |
سَبَبُ النّزول: لما قدم وقد نصارى نجران، وجادلوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أمر عيسى، قالوا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مالك تشتِم صاحبنا؟ قال: وما أقول؟ قالوا: تقول إِنه عبد قال: أجل إِنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إِلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إِنساناً قط من غير أب؟ فإِن كنت صادقاً فأرنا مثله فأنزل الله ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ﴾ الآية وروي أنه عليه السلام لما دعاهم إِلى الإِسلام قالوا: قد كنا مسلمين قبلك، فقال: كذبتم يمنعكم من الإِسلام ثلاث: قولكم اتخذ الله ولداً، وأكلكم الخنزير، وسجودكم للصليب فقالوا: فمن أبوه فأنزل الله ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى.. إلى قوله ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين﴾ فدعاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِِلى المباهلة، فقال بعضهم لبعض: إِن فعلتم اضطرم الوادي عليكم ناراً فقالوا أما تعر علينا سوى هذا؟ فقال: الإِسلام أو صفحة رقم 186

الجزية أو الحرب فأقروا بالجزية.
التفسِير: ﴿فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر﴾ أي استشعر من اليهود التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال وإِرادتهم قتله ﴿قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ أي من أنصاري في الدعوة إِلى الله قال مجاهد: أي من يتبعني إِلى الله ﴿قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله﴾ أي قال المؤمنون الأصفياء من أَتباعه نحن أنصار دين الله ﴿آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي صدقنا بالله وبما جئتنا به واشهد بأننا منقادون لرسالتك مخلصون في نصرتك ﴿رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ واتبعنا الرسول فاكتبنا مَعَ الشاهدين﴾ أي آمنا بآياتك واتبعنا رسولك عيسى فاكتبنا مع من شهد لك بالوحدانية ولرسولك بالصدق، ثم أخبر تعالى عن اليهود المتآمرين الذين أرادوا قتل عيسى فقال ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله﴾ أي أرادوا قتله فنجّاه الله من شرهم ورفعه إِلى السماء دون أن يمسَّ بأذى وألقى شبهه على ذلك الخائن «يهوذا» وسمّي مكراً من باب المشاكلة ولهذا قال ﴿والله خَيْرُ الماكرين﴾ أي أقواهم مكراً بحيث جعل تدميرهم في تدبيرهم وفي الحديث
«اللهم امكرْ لي ولا تمكر عليَّ» ﴿إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ أي إِني رافعك إِلى السماء ثم مميتك بعد استيفائك كامل أجلك والمقصود بشارته بنجاته من اليهود ورفعه إِلى السماء سالماً دون أذى قال قتادة: هذا من المقدم والمؤخر تقديره إِني رافعك إِليَّ ثم متوفيك بعد ذلك، وقد ذكره الطبري فقال: وقال آخرون معنى ذلك: إِذ قال الله يا عيسى إِني رافعك إِليَّ ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إِنزالي إِيّاك إِلى الدنيا ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ﴾ أي مخلصك من شر الأشرار أرادوا قتلك قال الحسن: طهّره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه ﴿وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة﴾ أي جاعل أتباعك الذين آمنوا بك فوق الذين جحدوا نبوتك ظاهرين على من ناوأهم إِلى يوم القيامة وقال في تفسير الجلالين: ﴿الذين اتبعوك﴾ أي صدقوا بنبوتك من المسلمين والنصارى ﴿فَوْقَ الذين كَفَرُواْ﴾ وهم اليهود يعلونهم بالحجة والسيف ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ أي ثم مصيركم إِلى الله فأقضي بين جميعكم بالحق فيما كنتم تختلفون فيه من أمر عيسى ﴿فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والآخرة﴾ أي أما الكافرون بنبوتك المخالفون لملتك فإِني معذبهم عذاباً شديداً في الدنيا بالقتل والسبي، وبالآخرة بنار جهنم ﴿وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾ أي ليس لهم ناصر يمنع عنهم عذاب الله ﴿وَأَمَّا الذين آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ أي وأما المؤمنون فيعطيهم جزاء أعمالهم الصالحة كاملةً غير منقوصة ﴿والله لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾ أي لا يحب من كان ظالماً فكيف يظلم عباده؟ ﴿ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾ أي هذه الأنباء التي نقصها عليك يا محمد ﴿مِنَ الآيَاتِ والذكر الحكيم﴾ أي من آيات القرآن الكريم المحكم، الذي لا

يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ﴾ أي إِن شأن عيسى إِذ خلقه بلا أب - وهو في بابه غريب - كشأن آدم ﴿خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ أي خلق آدم من غير أب ولا أم ثم قال له كن فكان، فليس أمر عيسى بأعجب من أمر آدم ﴿الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين﴾ أي هذا هو القول الحق في عيسى فلا تكن من الشاكين ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم﴾ أي من جادلك في أمر عيسى بعدما وضح لك الحق واستبان ﴿فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ﴾ أي هلمّوا نجتمع ويدعو كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إِلى المباهلة وفي صحيح مسلم لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاطمة وحسناً وحسيناً فقال: اللهم هؤلاء أهلي ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين﴾ أي نتضرع إلى الله فنقول: اللهم العن الكاذب منا في شأن عيسى، فلما دعاهم إِلى المباهلة امتنعوا وقبلوا بالجزية عن ابن عباس أنه قال «لو خرج الذين يباهلون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً» قال أبو حيان: «وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بصدقه شاهد عظيم على صحة نبوته» ثم قال تعالى ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق﴾ أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا شك فيه ﴿وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله﴾ أي لا يوجد إله غير الله، وفيه ردٌّ على النصارى في قولهم بالتثليث ﴿وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز الحكيم﴾ أي هو جل شأنه العزيز في ملكه الحكيم في صنعه ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين﴾ أي إِن أعرضوا عن الإِقرار بالتوحيد فإِنهم مفسدون والله عليم بهم وسيجازيهم على ذلك شر الجزاء.
البَلاَغَة: ١ - ﴿فَلَمَّآ أَحَسَّ﴾ قال أبو حيان: فيها استعارة إِذ الكفر ليس بمحسوس وإِنما يُعلم ويفطن به فإِطلاق الحسّ عليه من نوع الاستعارة.
٢ - ﴿والله خَيْرُ الماكرين﴾ بين لفظ مكرواً والماكرين جناس الاشتقاق وهو من باب المشاكلة.
٣ - ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ فيه التفات من ضمير التكلم إِلى ضمير الغيبة للتنوع في الفصاحة.
٤ - ﴿الحق مِن رَّبِّكَ﴾ التعرض لعنوان الربوبية مع الإِضافة إِلى الرسول لتشريفه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
٥ - ﴿فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين﴾ هو من باب الإِلهاب والتهييج لزيادة التثبيت أفاده أبو السعود.
لطيفَة: قال صاحب البحر المحيط: سأل رجل الجيد فقال: كيف رضي الله سبحانه لنفسه المكر وقد عاب به غيره، فقال: لا أدري ما تقول ولكن أنشدني فلان الظهراني:
ويقبح من سواك الفعل عندي | فتفعله فيحسن منك ذاكا |