
أوّلا حين تقبلك من أمك ورباك واختصك بالكرامة السنية وَطَهَّرَكِ مما يستقذر من الأفعال ومما قرفك به اليهود وَاصْطَفاكِ آخرا عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ بأن وهب لك عيسى من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء. أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيآت الصلاة وأركانها ثم قيل لها وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ بمعنى: ولتكن صلاتك مع المصلين أى في الجماعة أو انظمى نفسك في جملة المصلين وكوني معهم في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم. ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع وفيه من يركع، فأمرت بأن تركع مع الراكعين ولا تكون مع من لا يركع.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٤]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)
ذلِكَ إشارة إلى ما سبق من نبإ زكريا ويحيى ومريم وعيسى عليهم السلام، يعنى أن ذلك من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي. فإن قلت: لم نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم بغير شبهة؟
وترك نفى استماع الأنباء من حفاظها وهو موهوم؟ قلت: كان معلوما عندهم علما يقيناً أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحى، فلم يبق إلا المشاهدة وهي في غاية الاستبعاد والاستحالة، فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحى مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة. ونحوه (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ)، (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ)، (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) أَقْلامَهُمْ أزلامهم وهي قداحهم التي طرحوها في النهر مقترعين. وقيل: هي الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة، اختاروها للقرعة تبركا بها إِذْ يَخْتَصِمُونَ في شأنها تنافسا في التكفل بها.
فإن قلت: (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ) بم يتعلق؟ قلت: بمحذوف دلّ عليه يلقون أقلامهم، كأنه قيل: يلقونها ينظرون أيهم يكفل، أو ليعلموا، أو يقولون.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٥ الى ٥١]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩)
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)

الْمَسِيحُ لقب من الألقاب المشرفة، كالصدّيق والفاروق، وأصله مشيحا بالعبرانية، ومعناه المبارك، كقوله: (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) وكذلك (عيسى) معرب من أيشوع، ومشتقهما من المسح والعيس، كالراقم في الماء. فإن قلت: (إِذْ قالَتِ) بم يتعلق؟ قلت: هو بدل من (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) ويجوز أن يبدل من (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) على أن الاختصام والبشارة وقعا في زمان واسع، كما تقول: لقيته سنة كذا. فإن قلت: لم قيل: عيسى ابن مريم والخطاب لمريم «١» ؟
قلت: لأنّ الأبناء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات، فأعلمت بنسبته إليها أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه، وبذلك فضلت واصطفيت على نساء العالمين. فإن قلت: لم ذكر ضمير الكلمة؟ قلت لأن المسمى بها مذكر. فإن قلت: لم قيل اسمه المسيح عيسى ابن مريم «٢»، وهذه ثلاثة أشياء: الاسم منها عيسى، وأما المسيح والابن فلقب وصفة؟ قلت: الاسم للمسمى علامة يعرف بها ويتميز من غيره، فكأنه قيل: الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة
(٢). (عاد كلامه) قال: «فان قلت لم قيل اسمه المسيح عيسى ابن مريم... الخ» قال أحمد: وفي هذا التقرير خلاص من إشكال يوردونه فيقولون: المسيح في الآية إن أريد به التسمية وهو الظاهر فما موقع قوله عيسى ابن مريم؟
والتسمية لا توصف بالنبوة، وإن أريد بالمسيح المسمي بهذه التسمية لم يلتئم مع قوله اسمه؟ ويجاب عن الاشكال بأن المسيح خبر عن قوله اسمه، والمراد التسمية، وأما عيسى ابن مريم فخبر مبتدإ محذوف تقديره: هو عيسى ابن مريم، ويكون الضمير عائدا إلى المسمى بالتسمية المذكورة، منقطعاً عن قول المسيح. والذي قرره الزمخشري لا يرد عليه هذا الاشكال، وهو حسن جداً، واللَّه أعلم.

وَجِيهاً حال من (بِكَلِمَةٍ) وكذلك قوله: ومن المقربين، ويكلم، ومن الصالحين. أى يبشرك به موصوفا بهذه الصفات. وصح انتصاب الحال من النكرة لكونها موصوفة. والوجاهة في الدنيا: النبوّة والتقدم على الناس. وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة. وكونه مِنَ الْمُقَرَّبِينَ رفعه إلى السماء وصحبته للملائكة. والمهد: ما يمهد للصبي من مضجعه، سمى بالمصدر.
وفِي الْمَهْدِ في محل النصب على الحال وَكَهْلًا عطف عليه بمعنى: ويكلم الناس طفلا وكهلا.
ومعناه: يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء، من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء. ومن بدع التفاسير أن قولها رَبِّ نداء لجبريل عليه السلام بمعنى يا سيدي (ونعلمه) عطف على يبشرك، أو على وجيها أو على يخلق، أو هو كلام مبتدأ. وقرأ عاصم ونافع: ويعلمه، بالياء. فإن قلت: علام تحمل: ورسولا، ومصدّقا، من المنصوبات المتقدّمة، وقوله: (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) و (لِما بَيْنَ يَدَيَّ) يأبى حمله عليها؟ قلت:
هو من المضايق، وفيه وجهان: أحدهما أن يضمر له «وأرسلت» على إرادة القول تقديره: ونعلمه الكتاب والحكمة، ويقول أرسلت رسولا بأنى قد جئتكم. ومصدقا لما بين يدي. والثاني أن الرسول والمصدّق فيهما معنى النطق، فكأنه قيل: وناطقا بأنى قد جئتكم، وناطقا بأنى أصدق ما بين يدي وقرأ اليزيدي: ورسول: عطفاً على كلمة أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ أصله أرسلت بأنى قد جئتكم، فحذف الجار وانتصب بالفعل، وأَنِّي أَخْلُقُ نصب بدل من أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ أو جرّ بدل من آية، أو رفع على: هي أنى أخلق لكم، وقرئ: إنى، بالكسر على الاستئناف، أى أقدر لكم شيئا مثل صورة الطير فَأَنْفُخُ فِيهِ الضمير للكاف، أى في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير فَيَكُونُ طَيْراً فيصير طيراً كسائر الطيور حياً. وقرأ عبد اللَّه: فأنفخها. قال:
كَالْهَبْرَقِىِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الْفَحْمَا «١»
وقيل: لم يخلق غير الخفاش الْأَكْمَهَ الذي ولد أعمى، وقيل هو الممسوح العين. ويقال: لم يكن في هذه الأمّة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير. وروى أنه ربما اجتمع عليه خمسون ألفا من المرضى، من أطاق منهم أتاه، ومن لم يطق أتاه عيسى، وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده. وكرر بِإِذْنِ اللَّهِ دفعاً لوهم من توهم فيه اللاهوتية. وروى أنه أحيا
مولى الريح قرنيه وجبهته | كالهبرقى تنحى ينفخ الفحما |