
المشرفة كالصديق والفاروق وأصله مشيحا بالعبرانية ومعناه المبارك عِيسَى بدل من المسيح معرب من ايشوع ابْنُ مَرْيَمَ صفة لعيسى وتوجه الخطاب الى مريم يقتضى ان يقال عيسى ابنك الا انه قيل عيسى ابن مريم تنبيها على ان الأبناء ينسبون الى الآباء لا الى الأمهات فاعلمت بنسبته إليها انه يولد من غير اب فلا ينسب الا الى امه وبذلك فضلت واصطفيت على نساء العالمين فان قلت لم قيل اسمه المسيح عيسى ابن مريم وهذه ثلاثة أشياء الاسم منها عيسى واما المسيح والابن فلقب وصفة. قلت الاسم للمسمى علامة يعرف بها ويتميز من غيره فكانه قيل الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة. وفى التيسر اللقب إذا عرف صار كالاسم وَجِيهاً حال من الكلمة وصح انتصاب الحال من النكرة لكونها موصوفة والوجيه ذو الجاه وهو القوة والمنعة والشرف فِي الدُّنْيا بالنبوة والتقدم على الناس وَالْآخِرَةِ بالشفاعة وعلو الدرجة فى الجنة وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ اى عند ربه بارتفاعه الى السماء وصحبة الملائكة فيها وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا اى يكلمهم حال كونه طفلا وكهلا كلام الأنبياء عليهم السلام من غير تفاوت يعنى ان تكلمه فى حالة الطفولية والكهولة على حد واحد وصفة واحدة من غير تفاوت بان يكون كلامه فى حال الطفولية مثل كلام الأنبياء والحكماء لا شك انه من أعظم المعجزات. قال مجاهد قالت مريم إذا خلوت انا وعيسى حدثنى وحدثته فاذا شغلنى عنه انسان يسبح فى بطني وانا اسمع وتكلمه معهم دليل على حدوثه لحدوث الأصوات والحروف- روى- انه لما بلغ عمره ثلاثين سنة أرسله الله الى بنى إسرائيل فمكث فى رسالته ثلاثين شهرا ثم رفع الى السماء او جاءه الوحى على رأس ثلاثين سنة فمكث فى نبوته ثلاث سنين وأشهرا ثم رفع. والكهل من تجاوز الثلاثين الى الأربعين وقارب الشيب من اكتهل النبت قارب اليبس فعلى هذا صح ان يقال انه بلغ سن الكهولة وكلم الناس فيه ثم رفع واما على قول من يقول ان أول سن الكهولة أربعون سنة فلا بد ان يقال انه رفع شابا ولا يكلم الناس كهلا الا بعد ان ينزل من السماء فى آخر الزمان فانه حينئذ يكلم الناس ويقتل الدجال وَمِنَ الصَّالِحِينَ هذه الاربعة احوال مقدرة من كلمة والمعنى يبشرك به موصوفا بهذه الصفات وذكر قوله ومن الصالحين بعد ذكر الأوصاف المتقدمة دليل على انه لا رتبة أعظم من كون المرء صالحا لانه لا يكون المرء كذلك الا بان يكون فى جميع الافعال والتروك مواظبا على النهج الأصلح والطريق الأكمل ومعلوم ان ذلك يتناول جميع المقامات فى الدين والدنيا فى افعال القلوب وفى افعال الجوارح قالَتْ مريم متضرعة الى ربها رَبِّ أَنَّى يَكُونُ اى كيف يكون او من أين يكون لِي وَلَدٌ على وجه الاستبعاد العادي والتعجب من استعظام قدرة الله فان البشرية تقتضى التعجب مما وقع على خلاف العادة إذ لم تجر عادة بان يولد ولد بلا اب وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ آدمي وسمى بشرا لظهوره وهو كناية عن الجماع اى والحال انى على حالة منافية للولد قالَ اى الله عز وجل او جبريل عليه السلام كَذلِكِ اشارة الى مصدر يخلق فى قوله عز وجل اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ان يخلقه اى الله يخلق ما يشاء ان يخلقه خلقا مثل ذلك الخلق العجيب والأحداث البديع الذي هو خلق الولد من غير اب فالكاف فى محل النصب على انها فى الأصل
صفحة رقم 35
نعت لمصدر محذوف إِذا قَضى أَمْراً اى أراد شيأ واصل القضاء الاحكام اطلق على الارادة الالهية القطعية المتعلقة بوجود الشيء لا يجابه إياه البتة فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ من غير ريث وهو تمثيل لكمال قدرته تعالى وسهولة تأتى المقدورات حسبما تقتضيه مشيئته وتصوير لسرعة حدوثها بما علم فيها من إطاعة المأمور المطيع للآمر القوى المطاع وبيان لانه تعالى كما يقدر على خلق الأشياء مدرجا بأسباب ومواد معتادة يقدر على خلقها دفعة من غير حاجة الى شىء من الأسباب والمواد. قال ابن عباس رضى الله عنهما ان مريم رضى الله عنها كانت فى غرفة قد ضربت دونها سترا إذا هى برجل عليه ثياب بيض وهو جبريل تمثل لها بشرا سويا اى تام الخلق فلما رأته قالت أعوذ بالرحمن منك ان كانت تقيا ثم نفخ فى جيب درعها
حتى وصلت النفخة الى الرحم فاشتملت. قال وهب وكان معها ذو قرابة يقال له يوسف النجار وكان يوسف هذا يستعظم ذلك فاذا أراد ان يتهمها ذكر صلاحها وإذا أراد ان يبرئها رأى ما ظهر عليها فكان أول ما كلمها ان قال لها قد دخل فى صدرى شىء أردت كتمانه فغلبنى ذلك فرأيت الكلام أشقى لصدرى قالت قل قال فحدثينى هل ينبت الزرع من غير بذر قالت نعم قال فهل ينبت شجر من غير اصل قالت نعم قال فهل يكون ولد من غير ذكر قالت نعم ألم تعلم ان الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر والبذر يومئذ انما صار من الزرع الذي أنبت الله من غير بذر ألم تعلم ان الله خلق آدم وحواء من غير أنثى ولا ذكر فلما قالت له ذلك وقع فى نفسه ان الذي بها شىء أكرمها الله به- روى- ان عيسى عليه السلام حفظ التوراة وهو فى بطن امه وكانت مريم تسمع عيسى وهو يدرس فى بطنها ثم لما شرف عالم الشهود أعطاه الله الزهادة فى الدنيا فانه كان يلبس الشعر ويتوسد الحجر ويستنير القمر وكان له قدح يشرب فيه الماء ويتوضأ فيه فرأى رجلا يشرب بيده فقال لنفسه يا عيسى هذا ازهد منك فرمى القدح وكسره واستظل يوما فى ظل خيمة عجوز فكان قد لحقه حر شديد فخرجت العجوز فطردته فقام وهو يضحك فقال يا امة الله ما أنت أقمتني وانما أقامني الذي لم يجعل لى نعيما فى الدنيا ولما رفع الى السماء وجد عنده ابرة كان يرقع بها ثوبه فاقتضت الحكمة الإلهية نزوله فى السماء الرابعة وفيه اشارة الى ان السالك لا بد وان ينقطع عن كل ما سوى الله ويتجرد عن العوائق حتى يسير مع الملأ الأعلى ويطير الى مقام قاب قوسين او ادنى- وروى- ان موسى عليه السلام ناجى ربه فقال اللهم أرني وليا من أوليائك فاوحى الله تعالى اليه ان اصعد الى جبل كذا وادخل زاوية كذا فى كهف كذا حتى ترى وليي ففعل فرأى فيه رجلا ميتا توسد بلبنه وفوق عورته خرقة وليس فيه شىء غيره فقال اللهم سألتك ان ترينى وليك فأريتنى هذا فقال هذا هو وليي فو عزتى وجلالى لا ادخله الجنة حتى أحاسبه باللبنة والخرقة من اين وجدهما فحال اولياء الله الافتخار بالفقر وترك الدنيا والصبر على ما قدره الله
صبر باشد مشتهاى زيركان | هست حلوا آرزوى كودكان |
هر كه صبر آورد كردون بر رود | هر كه حلوا خورد او پس تر رود |

عيسى عليه السلام يكفك فى هذا اعتبارا ومن الله التوفيق الى الاعراض عن حطام الدنيا وقطع التعلق من الدارين قطعا وَيُعَلِّمُهُ كلام مستأنف اى ويعلم الله عيسى الْكِتابَ اى الكتابة والخط بالقلم بالإلهام والوحى وكان احسن الناس خطا فى زمانه وَالْحِكْمَةَ اى العلوم العقلية والشرعية وتهذيب الأخلاق لان كمال الإنسان فى ان يعرف الحق لذاته والخير لاجل العمل به ومجموعهما هو المسمى بالحكمة وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ فيحفظهما عن ظهر القلب وهذا الكلام اعنى يعلمه إلخ سيق تطبيبا لقلب مريم وازاحة لما أهمها من خوف اللائمة لما علمت انها تلد من غير زوج وَيجعله رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ اى يكلمهم وقال بعض اليهود انه كان مبعوثا الى قوم مخصوصين وكان أول أنبياء بنى إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى عليهما السلام أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ معمول لرسول لما فيه من معنى النطق اى رسولا ناطقا بأنى قد جئتكم ملتبسا بِآيَةٍ عظيمة كائنة مِنْ رَبِّكُمْ وهى ما ذكر بعده من خلق الطير وغيره أَنِّي أَخْلُقُ بدل من انى قد جئتكم اى اقدر وأشكل لانه قد ثبت ان العبد لا يكون خالقا بمعنى التكوين والإبداع فوجب ان يكون بمعنى التقدير والتسوية لَكُمْ اى لا جلكم بمعنى التحصيل لايمانكم ورفع تكذيبكم إياي مِنَ الطِّينِ شيأ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ اى متل صورة الطير فَأَنْفُخُ فِيهِ الضمير للكاف اى فى ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير فَيَكُونُ طَيْراً حيا طيارا كسائر الطيور بِإِذْنِ اللَّهِ بامره تعالى أشار بذلك الى ان إحياءه من الله تعالى لا منه لان الله هو الذي خلق الموت والحياة فهو يخلق الحياة فى ذلك الجسم بقدرته عند نفخ عيسى عليه السلام فيه على سبيل اظهار المعجزات- روى- ان عيسى عليه السلام لما ادعى النبوة واظهر المعجزات طالبوه بخلق خفاش فاخذ طينا وصوره ثم نفخ فيه فاذا هو يطير بين السماء والأرض. قال وهب كان يطير ما دام الناس ينظرون اليه فاذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل الخلق من فعل الله قيل انما طلبوا خلق الخفاش لانه اعجب من سائر الخلق ومن عجائبه انه لحم ودم يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الحيوان من الطيور ويكون له الضرع ويخرج منه اللبن ولا يبصر فى ضوء النهار ولا فى ظلمة الليل وانما يرى فى ساعتين ساعة بعد غروب الشمس وساعة بعد طلوع الفجر قبل ان يسفر جدا ويضحك كما يضحك الإنسان وله أسنان ويحيض كما تحيض المرأة ولما دل القرآن على ان عيسى عليه السلام انما تولد من نفخ جبريل فى مريم وجبريل روح محض وروحانى محض فلا جرم كانت نفخة عيسى سببا للحياة والروح وَأُبْرِئُ اى أشفي وأصحح الْأَكْمَهَ اى الذي ولداعمى. قال الزمخشري لم يوجد فى هذه الامة اكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير وَالْأَبْرَصَ وهو الذي به برص اى بياض فى الجلد يتطير به وإذا استحكم فلا برء له ولا يزول بالعلاج ولم تكن العرب تنفر من شىء نفر تهامنه. وانما خصهما بالذكر للشفاء لانهما مما أعيى الأطباء فى تداويهما وكانوا فى غاية الحذاقة فى زمن عيسى عليه السلام وسألوا الأطباء عنهما. فقال جالينوس وأصحابه إذا ولد أعمى لا يبرأ بالعلاج وكذا الأبرص إذا كان بحال لوغرزت الابرة فيه لا يخرج منه الدم لا يقبل
صفحة رقم 37