
الْعَطْفِ عَنْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ [الْحَشْرِ: ٢٤] إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ هَاهُنَا وَاوَ الْعَطْفِ وَأَظُنُّ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ دَخَلَ تَحْتَ الْمَدْحِ الْعَظِيمِ وَاسْتَوْجَبَ هذا الثواب الجزيل والله أعلم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ والملائكة وأولوا العلم] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا [آل عمران: ١٦] أَرْدَفَهُ بِأَنْ بَيَّنَ/ أَنَّ دَلَائِلَ الْإِيمَانِ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ، فَقَالَ: شَهِدَ اللَّهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَوَقَّفُ الْعِلْمُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ أَمَّا مَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ، وَفِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ، وَفِي حَقِّ أُولِي الْعِلْمِ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدًا فَلَا جَرَمَ يَجُوزُ إِثْبَاتُ كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدًا بِمُجَرَّدِ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْ أُولِي الْعِلْمِ بِمَعْنًى واحد والثاني: أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَيُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَجْعَلَ الشَّهَادَةَ عِبَارَةً عَنِ الْإِخْبَارِ الْمَقْرُونِ بِالْعِلْمِ، فَهَذَا الْمَعْنَى مَفْهُومٌ وَاحِدٌ وَهُوَ حَاصِلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ، وَفِي حَقِّ أُولِي الْعِلْمِ، أَمَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ أَخْبَرَ فِي الْقُرْآنِ عَنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا لَا إليه مَعَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالدَّلَالَةِ السَّمْعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جَائِزٌ، وَأَمَّا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ فَكُلُّهُمْ أَخْبَرُوا أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَثَبَتَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الشَّهَادَةِ مَعْنًى وَاحِدٌ فِي حَقِّ اللَّهِ، وَفِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ، وَفِي حَقِّ أُولِي الْعِلْمِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَجْعَلَ الشَّهَادَةَ عِبَارَةً عَنِ الْإِظْهَارِ وَالْبَيَانِ، ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَظْهَرَ ذَلِكَ وَبَيَّنَهُ بِأَنْ خَلَقَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا الْمَلَائِكَةُ وأولوا الْعِلْمِ فَقَدْ أَظْهَرُوا ذَلِكَ، وَبَيَّنُوهُ بِتَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ، أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَقَدْ بَيَّنُوا ذَلِكَ لِلرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالرُّسُلُ لِلْعُلَمَاءِ، وَالْعُلَمَاءُ لِعَامَّةِ الْخَلْقِ، فَالتَّفَاوُتُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي بِهِ حَصَلَ الْإِظْهَارُ وَالْبَيَانُ، فَالْمَفْهُومُ الْإِظْهَارُ وَالْبَيَانُ فَهُوَ مَفْهُومٌ وَاحِدٌ فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَفِي حَقِّ أُولِي الْعِلْمِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الشَّهَادَةِ وَاحِدٌ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ كَأَنَّهُ يَقُولُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرٌ قَدْ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَشَهَادَةِ جَمِيعِ الْمُعْتَبَرِينَ مِنْ خَلْقِهِ، وَمِثْلُ هَذَا الدِّينِ الْمَتِينِ وَالْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ، لَا يَضْعُفُ بِخِلَافِ بَعْضِ الْجُهَّالِ مِنَ النَّصَارَى وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَاثْبُتْ أَنْتَ وَقَوْمُكَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ هُوَ الْإِسْلَامُ وَالدِّينُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: شَهَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى تَوْحِيدِهِ، عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّهُ خَلَقَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ عِبَارَةٌ عَنْ إِقْرَارِهِمْ بِذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ يُسَمَّى شَهَادَةً، لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْكُلِّ فِي اللَّفْظِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً
[الْأَحْزَابِ: ٥٦] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّهِ غَيْرُ الصَّلَاةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ غَيْرُ الصَّلَاةِ مِنَ النَّاسِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ جَمَعَهُمْ فِي اللَّفْظِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُدَّعِي لِلْوَحْدَانِيَّةِ هُوَ اللَّهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُدَّعِي شَاهِدًا؟
الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الشَّاهِدَ الْحَقِيقِيَّ لَيْسَ إِلَّا اللَّهَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْأَشْيَاءَ وَجَعَلَهَا دَلَائِلَ عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَلَوْلَا تِلْكَ الدَّلَائِلُ لَمَا صَحَّتِ الشَّهَادَةُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَصْبُ تِلْكَ الدَّلَائِلِ هُوَ الَّذِي وَفَّقَ الْعُلَمَاءَ لِمَعْرِفَةِ تِلْكَ الدَّلَائِلِ، وَلَوْلَا تِلْكَ الدَّلَائِلُ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَهَدَى إِلَيْهَا لَعَجَزُوا عَنِ التَّوَصُّلِ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ الشَّاهِدُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الْأَنْعَامِ: ١٩].
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ هُوَ الْمَوْجُودُ أَزَلًا وَأَبَدًا، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقَدْ كَانَ فِي الْأَزَلِ عَدَمًا صِرْفًا، وَنَفْيًا مَحْضًا، وَالْعَدَمُ يُشْبِهُ الْغَائِبَ، وَالْمَوْجُودُ يُشْبِهُ الْحَاضِرَ، فَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقَدْ كَانَ غَائِبًا، وَبِشَهَادَةِ الْحَقِّ صَارَ شَاهِدًا، فَكَانَ الحق شاهدا عل الْكُلِّ، فَلِهَذَا قَالَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الشَّهَادَةِ، إِلَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْإِقْرَارِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ سِوَاهُ، كَانَ الْكُلُّ عَبِيدًا لَهُ، وَالْمَوْلَى الْكَرِيمُ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ لَا يُخِلَّ بِمَصَالِحِ الْعَبِيدِ، فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ جَارِيًا مَجْرَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ يَجِبُ وُجُوبَ الْكَرِيمِ عَلَيْهِ أَنْ يُصْلِحَ جِهَاتِ جَمِيعِ الْخَلْقِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي الْجَوَابِ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ بِكَسْرِ (إِنَّهُ) ثُمَّ قَرَأَ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩] بِفَتْحِ (أَنَّ) فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَيَكُونُ قَوْلُهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ اعْتِرَاضًا في الكلام، واعلم أن الجواب لا يعتمد عليه، أن هَذِهِ الْقِرَاءَةَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَبِتَقْدِيرِ (أَنْ) تَكُونَ مَقْبُولَةً لَكِنَّ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، فَالْإِشْكَالُ الْوَارِدُ عَلَيْهَا لَا يَنْدَفِعُ بِسَبَبِ القراءة الأخرى.
المسألة الثانية: المراد من أولي الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّذِينَ عَرَفُوا وَحْدَانِيَّتَهُ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مَقْبُولَةً، إِذَا كَانَ الْإِخْبَارُ مَقْرُونًا بِالْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ»
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الدرجة العالية والمرتبة الشريفة ليست إلا العلماء الْأُصُولِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قائِماً بِالْقِسْطِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قائِماً بِالْقِسْطِ مُنْتَصِبٌ، وَفِيهِ وُجُوهٌ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: التَّقْدِيرُ: شَهِدَ اللَّهُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ هُوَ تَقْدِيرُهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ، وَيُسَمَّى هَذَا حَالًا مُؤَكِّدَةً كَقَوْلِكَ: أَتَانَا عَبْدُ اللَّهِ شُجَاعًا، وَكَقَوْلِكَ: لَا رَجُلَ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ شُجَاعًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ صِفَةَ الْمَنْفِيِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا إِلَهَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ إِلَّا هُوَ، وَهَذَا غَيْرُ بَعِيدٍ لِأَنَّهُمْ يَفْصِلُونَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ مِنْ حَقِّ الْمَدْحِ أَنْ يَكُونَ مَعْرِفَةً، كَقَوْلِكَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الْحَمِيدِ.
قُلْنَا: وَقَدْ جَاءَ نَكِرَةً أَيْضًا، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
وَيَأْوِي إِلَى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ | وَشُعْثًا مَرَاضِعَ مِثْلَ السَّعَالِي |
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى كَوْنِهِ قائِماً بِالْقِسْطِ قَائِمًا بِالْعَدْلِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ قَائِمٌ بِالتَّدْبِيرِ، أَيْ يُجْرِيهِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْعَدْلَ مِنْهُ مَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِبَابِ الدُّنْيَا، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِبَابِ الدِّينِ، أَمَّا الْمُتَّصِلُ بِالدِّينِ، فَانْظُرْ أَوَّلًا فِي كَيْفِيَّةِ خِلْقَةِ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ، حَتَّى تَعْرِفَ عَدْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْخَلْقِ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، وطول العمر وقصره واللذة والآلام واقطع أن كُلَّ ذَلِكَ عَدْلٌ مِنَ اللَّهِ وَحِكْمَةٌ وَصَوَابٌ ثُمَّ انْظُرْ فِي كَيْفِيَّةِ خَلْقِهِ الْعَنَاصِرَ وَأَجْرَامَ الْأَفْلَاكِ، وَتَقْدِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ وَخَاصِّيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَاقْطَعْ بِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ، أَمَّا مَا يَتَّصِلُ بِأَمْرِ الدِّينِ، فَانْظُرْ إِلَى اخْتِلَافِ الْخَلْقِ فِي الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، وَالْفَطَانَةِ وَالْبَلَادَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالْغَوَايَةِ، وَاقْطَعْ بِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَدْلٌ وَقِسْطٌ، وَلَقَدْ خَاضَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» هَاهُنَا فِي التَّعَصُّبِ لِلِاعْتِزَالِ وَزَعَمَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْعَدْلُ وَالتَّوْحِيدُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمِسْكِينُ بَعِيدًا عَنْ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إلا أنه فضولي كثيرا الْخَوْضِ فِيمَا لَا يَعْرِفُ، وَزَعَمَ أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنْ أَجَازَ الرُّؤْيَةَ، أَوْ ذَهَبَ إِلَى الْجَبْرِ لَمْ يَكُنْ عَلَى دِينِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ، وَالْعَجَبُ أَنَّ أَكَابِرَ الْمُعْتَزِلَةِ وَعُظَمَاءَهُمْ أَفْنَوْا أَعْمَارَهُمْ فِي طَلَبِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَرْئِيًّا لَكَانَ جِسْمًا، وَمَا وَجَدُوا فِيهِ سِوَى الرُّجُوعِ إِلَى الشَّاهِدِ مِنْ غَيْرِ جَامِعٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ، فَهَذَا الْمِسْكِينُ الَّذِي مَا شَمَّ رَائِحَةَ الْعِلْمِ مِنْ أَيْنَ وَجَدَ ذَلِكَ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْجَبْرِ فَالْخَوْضُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْمِسْكِينِ خَوْضٌ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتَرَفَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَاعْتَرَفَ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْلِبَ عِلْمَ اللَّهِ جَهْلًا، فَقَدِ اعْتَرَفَ بِهَذَا الْجَبْرِ، فَمِنْ أَيْنَ هُوَ وَالْخَوْضُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْفَائِدَةُ فِي إِعَادَتِهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَإِذَا شَهِدَ بِذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الدَّلِيلُ دَلَّ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ الْقَوْلُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ شَهِدَ أَنَّهُ لا إله إلا هو وشهدت الملائكة وأولوا الْعِلْمِ بِذَلِكَ صَارَ التَّقْدِيرُ، كَأَنَّهُ قَالَ: / يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ فَقُولُوا أَنْتُمْ عَلَى وَفْقِ شَهَادَةِ اللَّهِ وَشَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَكَانَ الْغَرَضُ مِنَ الْإِعَادَةِ الْأَمْرَ بِذِكْرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى وَفْقِ تِلْكَ الشَّهَادَاتِ الثَّالِثُ: فَائِدَةُ هَذَا التَّكْرِيرِ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَبَدًا فِي تَكْرِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ أَشْرَفَ كَلِمَةٍ يَذْكُرُهَا الْإِنْسَانُ هِيَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ، فَإِذَا كَانَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِهَا وَبِتَكْرِيرِهَا كَانَ مُشْتَغِلًا بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ صفحة رقم 170