
والْمُقَنْطَرَةِ مبنية من لفظ القنطار للتوكيد كقولهم: ألف مؤلفة، وبدرة مبدرة. والْمُسَوَّمَةِ المعلمة، من السومة وهي العلامة. أو المطهمة أو المرعية «١» من أسام الدابة وسوّمها وَالْأَنْعامِ الأزواج الثمانية ذلِكَ المذكور مَتاعُ الْحَياةِ.
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ كلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من ذلكم، كما تقول: هل أدلك على رجل عالم؟ عندي رجل من صفته كيت وكيت. ويجوز أن يتعلق اللام بخير. واختص المتقين، لأنهم هم المنتفعون به. وترتفع (جَنَّاتٌ) على: هو جنات. وتنصره قراءة من قرأ (جنات) بالجرّ على البدل من خير وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ يثيب ويعاقب على الاستحقاق، أو بصير بالذين اتقوا وبأحوالهم، فلذلك أعدّ لهم الجنات الَّذِينَ يَقُولُونَ نصب على المدح، أو رفع. ويجوز الجرّ صفة للمتقين أو للعباد. والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كما لهم في كل واحدة منها. وقد مرّ الكلام في ذلك. وخص الأسحار لأنهم كانوا يقدّمون قيام الليل فيحسن طلب الحاجة بعده (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)
وعن الحسن: كانوا يصلون في أوّل الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار، هذا نهارهم، وهذا ليلهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨ الى ١٩]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩)
شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد كسورة الإخلاص وآية الكرسي وغيرهما بشهادة الشاهد في البيان والكشف، وكذلك إقرار الملائكة وأولى العلم بذلك واحتجاجهم عليه قائِماً بِالْقِسْطِ مقيما للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال، ويثيب ويعاقب، وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم. وانتصابه على أنه حال مؤكدة منه كقوله: (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً). فإن قلت:
لم جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه؟ ولو قلت جاءني زيد وعمرو راكباً لم يجز؟ قلت:
إنما جاز هذا لعدم الإلباس كما جاز في قوله: (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) أن انتصب نافلة حالا
المطهمة المرأة الجميلة المرتبة اه. (ع)

عن يعقوب. ولو قلت: جاءني زيد وهند راكباً جاز لتميزه بالذكورة، أو على المدح. فإن قلت: أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة كقولك: الحمد للَّه الحميد. «إنا معشر الأنبياء لا نورث» «١». إنا بنى نهشل لا ندعى لأب؟ قلت: قد جاء نكرة كما جاء معرفة. وأنشد سيبويه فيما جاء منه نكرة قول الهذلي:
وَيَأْوِى إلَى نِسْوَةٍ عُطْلٍ | وَشُعْثاً مَرَاضِيعَ مِثْلَ السَّعَالِى «٢» |
وقرأ عبد اللَّه: القائم بالقسط، على أنه بدل من هو، أو خبر مبتدإ محذوف. وقرأ أبو حنيفة:
قيما بالقسط الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان مقرّرّتان لما وصف به ذاته من الوحدانية والعدل، يعنى أنه العزيز الذي لا يغالبه إله آخر، الحكيم الذي لا يعدل عن العدل في أفعاله. فإن قلت: ما المراد بأولى العلم الذين عظمهم هذا التعظيم حيث جمعهم معه ومع الملائكة في الشهادة على وحدانيته وعدله؟ قلت: هم الذين يثبتون وحدانيته وعدله بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة وهم علماء العدل «٣» والتوحيد. وقرئ (أنه) بالفتح، و (إِنَّ الدِّينَ) بالكسر على أنّ الفعل واقع على أنه
(٢). للهذلى يصف رجلا يصيد ويرجع إلى زوجته وبناته عطل عاريات من الحلي والثياب. وشعثا نصب على الذم، أى وأذم شعثا أى مغبرات الوجوه من الجوع. والعطل: جمع عاطلة. والشعث. جمع شعثاء، كسود وسوداء.
ومراضيع: جمع مرضاع قياسا، أو مرضع سماعا، أى ترضع أولادها مثل السعالى جمع سعلاة وهي أنثى الشياطين، أى كريهات المنظر مثل الأغوال. وهي أقبح شيء عند العرب.
(٣). قوله «والبراهين القاطعة وهم علماء العدل» تلميح بالمعتزلة حيث سموا أنفسهم أهل العدل والتوحيد، لكن الانصاف التعميم حتى يشمل أهل السنة والجماعة. (ع)

بمعنى شهد اللَّه على أنه، أو بأنه. وقوله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ جملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى. فإن قلت: ما فائدة هذا التوكيد؟ قلت: فائدته أن قوله: (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) توحيد، وقوله: (قائِماً بِالْقِسْطِ) تعديل، فإذا أردفه قوله: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ) فقد آذن أن الإسلام هو العدل «١» والتوحيد، وهو الدين عند اللَّه، وما عداه فليس عنده في شيء من الدين. وفيه أن من ذهب إلى تشبيه أو ما يؤدّى إليه كإجازة الرؤية أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور، لم يكن على دين اللَّه الذي هو الإسلام، وهذا بين جلى كما ترى. وقرئا مفتوحين، على أن الثاني «٢» بدل من الأوّل، كأنه قيل: شهد اللَّه أن الدين عند اللَّه الإسلام، والبدل هو المبدل منه في المعنى، فكان بيانا صريحاً، لأن دين اللَّه هو التوحيد والعدل. وقرئ الأوّل بالكسر والثاني بالفتح، على أن الفعل واقع على إنّ «٣»، وما بينهما اعتراض مؤكد. وهذا أيضا شاهد على أن دين الإسلام هو العدل والتوحيد، فترى القراءات كلها متعاضدة على ذلك. وقرأ عبد اللَّه: أن لا إله إلا هو. وقرأ أبىّ: إن الدين عند اللَّه للإسلام، وهي مقوية لقراءة من فتح الأولى وكسر الثانية. وقرئ: شهداء للَّه، بالنصب على أنه حال من المذكورين قبله، وبالرفع على هم شهداء اللَّه. فإن قلت: فعلام عطف على هذه القراءة (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) ؟
قلت: على الضمير في شهداء، وجاز لوقوع الفاصل بينهما. فإن قلت: لم كرر قوله: (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ؟ «٤» قلت: ذكره أوّلا للدلالة على اختصاصه بالوحدانية، وأنه لا إله إلا تلك الذات
(٢). قوله «وقرئا مفتوحتين على أن الثاني» الضمير عائد إلى قوله تعالى: (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وقوله: (إِنَّ الدِّينَ) اه. (ع) [.....]
(٣). قوله «واقع على إن» أى على إن الدين... الخ. (ع)
(٤). قال محمود رحمه اللَّه: «إن قلت ما فائدة تكرار لا إله إلا هو... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: وهذا التكرار لما قدمته في نظيره مما صدر الكلام به إذا طال عهده. وذلك أن الكلام مصدر بالتوحيد، ثم أعقب التوحيد تعداد الشاهدين به، ثم قوله: (قائِماً بِالْقِسْطِ) وهو التنزيه، فطال الكلام بذلك، فجدد التوحيد تلو التنزيه ليلي قوله: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ) ولولا هذا التجديد لكان التوحيد المتقدم كالمنقطع في الفهم مما أريد إيصاله به واللَّه أعلم. قال: «وفيه أن من ذهب إلى تشبيه... الخ». قال أحمد: هذا تعريض بخروج أهل السنة من ربقة الإسلام بل تصريح، وما ينقم منهم إلا أن صدقوا وعد اللَّه عباده المكرمين على لسان نبيهم الكريم صلى اللَّه تعالى عليه وعلى آله وسلم بأنهم يرون ربهم كالقمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، ولأنهم وحدوا اللَّه حق توحيده فشهدوا أن لا اله إلا هو ولا خالق لهم ولأفعالهم إلا هو، واقتصروا على أن نسبوا لأنفسهم قدرة تقارن فعلهم لا خلق لها ولا تأثير غير التمييز بين أفعالهم الاختيارية والاضطرارية، وتلك المعبر عنها شرعا بالكسب في مثل قوله تعالى: (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) هذا إيمان القوم وتوحيدهم، لا كقوم يغيرون في وجه النصوص فيجحدون الرؤية التي يظهر أن جحدهم لها سبب في حرمانهم إياها. ويجعلون أنفسهم الخسيسة شريكة للَّه في مخلوقاته، فيزعمون أنهم يخلقون لأنفسهم ما شاءوا من الأفعال على خلاف مشيئة ربهم محادة ومعاندة للَّه في ملكه، ثم بعد ذلك يتسترون بتسمية أنفسهم أهل العدل والتوحيد، واللَّه أعلم بمن اتقى. ولجبر خير من إشراك، إن كان أهل السنة مجبرة فأنا أول المجبرين. ولو نظرت أيها الزمخشري بعين الانصاف إلى جهالة القدرية وضلالها، لانبعثت إلى حدائق السنة وظلالها، ولخرجت عن مزالق البدع ومزالها، ولكن كره اللَّه انبعاثهم، ولعلمت أى الفريقين أحق بالأمن وأولى بالدخول في أولى العلم المقرونين في التوحيد بالملائكة المشرفين بعطفهم على اسم اللَّه عز وجل. اللهم ألهمنا على اقتفاء السنة شكرك. ولا تؤمنا مكرك إنه لا يأمن من مكر اللَّه إلا القوم الخاسرون، فليس ينجى من الخوف إلا الخوف. واللَّه ولى التوفيق.