آيات من القرآن الكريم

۞ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ
ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ

قالُوا لِإِخْوانِهِمْ»
المنافقين في المدينة «وَقَعَدُوا» عن الجهاد بقصد خذلان الرسول، ثم بين ما قالوه لإخوانهم بقوله «لَوْ أَطاعُونا» أولئك المؤمنون الذين خرجوا مع الرسول وقعدوا معنا «ما قُتِلُوا» في واقعة أحد فرد الله عليهم بقوله «قُلْ» يا سيد الرسل «فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (١٦٨) أن قعودكم يمنعكم منه لأن المقتول ميت بعمره، وإذا كان الموت لا بد منه فليمت العاقل في سبيل الله، راجع الآية ١٥٨ المارة.
وتفيد هذه الآية أن المنافق شر من الكافر، وأن الحذر لا يغني عن القدر، وأن الموت في سبيل الله أشرف من الموت على الفراش وهو كذلك.
مطلب في حياة الشهداء، وخلق الجنة والنار، وقصة أهل بنو معونة، وما قاله معبد الخزاعي:
قال تعالى «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً» كغيرهم ينقطع ذكرهم بالدنيا كلا «بَلْ أَحْياءٌ» يخلد ذكرهم فيها بما نالوه بسببه من الشهادة في الذب عن دينهم وعرضهم وبلادهم وكيانهم، لذلك يبقى ذكرهم الحسن شائع في الدنيا وفي الآخرة «عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» (١٦٩) رزقا كريما لا نعرفه كما أن حياتهم حياة لا نعقلها، إذ اختصهم الله بها، لا نطلع على كنهها بالحس، ولا ندركها بالبصر، لأنها من أحوال البرزخ، ولا طريق للعلم بها إلا الاعتقاد الجازم بما ذكره الله، فلو رأيتهم أيها الرائي هناك «فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» من الكرامة والإحسان والنعيمه يفرحون «وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ» من إخوانهم الأحياء بأنهم إذا نالتهم الشهادة ولحقوهم إلى دار العزة يكونون مثلهم، وإذا رأيتهم تيقنت «أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» من أحوال الآخرة «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (١٧٠) على ما فاتهم من الدنيا لأن الخير الذي رأوه أنساهم إياها
«يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ» والتنوين في هاتين النكرتين يدل على التكثير فيكون المعنى نعمة كبيرة وفضل عظيم بما رزقوا من خير مقيم، كما أنهم يستبشرون لإخوانهم المار ذكرهم. ولا تكرار هنا لأن الأول لغيرهم والثاني لهم «وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ» (١٧١)

صفحة رقم 425

الآخرين الذين جاهدوا ولم يتوفقوا للشهادة لأنهم سعداء مدّ الله في آجالهم ليكثر ثوابهم، فلهؤلاء ما ذكر الله، أما الذين لم يخرجوا للجهاد لعذر أقعدهم أو أمر من الرسول بالبقاء للمحافظة على المدن ومن فيها من العاجزين والأطفال والنساء والقيام بشئونهم فإن الله تعالى يثيبهم على حسب نياتهم وإخلاصهم. روى البخاري ومسلم عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن عمر عن هذه الآية (وَلا تَحْسَبَنَّ) إلخ فقال أما انا قد سألنا عن ذلك (يدلّ على أن هذا الحديث مرفوع) فقال (يعني محمد صلّى الله عليه وسلم) أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطّلاعة فقال هل تشتهون شيئا؟
قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاثا، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا، قالوا يا رب نريد أن ترد علينا أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى (وهو راء) أن ليس لهم حاجة تركوا. هذا إخبار الله ورسوله عن المقتول في سبيل الله بأنه حي، وعليه فلا يجوز الدخول في هذا وأمثاله بالعقل، فإن العقل لمثله عقال يفسد ولا يصلح، بل يجب الدخول على هذا وأمثاله بالإيمان الصرف الذي من ورائه الإيقان الذي من ورائه العيان، فالعقل هذا كالملح المفسد لبعض، المصلح لآخر، تأمل وتروّ وتأنّ، ولا تقل هنا بالتأني تضيع الفرص والله يرشدك للصواب، راجع ما قدمناه في نظير هذه الآية الآية، ١٥١ من سورة البقرة المارة. واعلم أن في هذا الحديث دلالة على وجود الجنة وأنها مخلوقة خلافا لمن قال بخلافه، ودليل أيضا على عدم فناء الروح، وعلى أن المحسن ينعم في الآخرة وفي البرزخ، والمسيء يعذب فيهما، وهذا هو المذهب الحق، وإن ما جاء في هذا الحديث ليس بمستحيل على الله لأنه قادر على أن يصوّر أرواحهم على هيئة الطير. أما القول بحياة الجسد فهو وإن لم يكن بعيدا على من يحيي العظام وهي رميم ويخلق البشر من النطفة وآدم من الطين وحواء من اللحم وعيسى من غير أب، وكون هذا الكون علويه وسفليه بلفظ كن، إلا أنه لم تجر عادة الله جلت قدرته بذلك، وليس فيه مزيد فضل أو عظيم منّة، ولا إليه حاجة، بل فيه ما فيه من إيقاع الشكوك والأوهام،

صفحة رقم 426

وتكليف ضعفة المؤمنين بالإيمان به دون جدوى. وما حكي عن مشاهدة بعض الشهداء الأقدمين كاملي الأجساد وأن قروحهم تشخب دما عند رفع أيديهم عنها أو نقلهم من محلهم فلعله مبالغة أو حديث خرافة عند بعض الناس الذين يعدون ناقله أو قائله في هذا الزمن من سفهة الأحلام وسخفاء العقول، راجع الآية ٤٣ من سورة الزمر في ج ٢ وما تشير إليه من المواضع التي لها علاقة لما في هذا البحث وإلى هنا انتهت الآيات النازلة في حادثة أحد. وما قيل إن هذه الآية الأخيرة نزلت في شهداء بدر لا يصح، لأن الذي نزل فيهم هي آية ١٥٤ من سورة البقرة المارة. وقال بعض المفسرين إنها نزلت في أهل بئر معونة، ويستدل بما رواه البخاري ومسلم قال: بعث رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقواما من بني سليم إلى بني عامر، وفي رواية: بعث خالي أخا لأم سليم واسمه خزام، في سبعين راكبا، فلما قدموا قال لهم خالي أتقدمكم فإن آمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله وإلا كنتم مني قريبا، فتقدم، فأمنوه، فبينما هو يحدثهم عن رسول الله إذ أومئوا إلى رجل منهم فطعنه، فأنقذه، فقال الله أكبر فزت ورب الكعبة، ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجلا منهم أعرج صعد الجبل، قال همام وأراه آخر معه، فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلّى الله عليه وسلم أنهم قد لقوا ربهم، فرضي عنهم وأرضاهم، قال فكنا نقرأ (أن بلغوا عنا قومنا أن لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا) وهذا إن صح فهو من كلام جبريل لحضرة الرسول وليس من القرآن، إذ لو كان منه لأثبت فيه، وقد ذكرنا أن كل ما هو من هذا القبيل ليس من القرآن، يدل على هذا قوله) ثم نسخ بعد (أي أنهم نهوا عن قراءة تلك الجملة) فدعا عليهم رسول الله أربعين صباحا على رعل وذكوان وبني عصبة الذين عصوا الله ورسوله. وفي رواية. رعلا وذكوان وبني لحيان استمدوا لرسول الله بسبعين رجلا من الأنصار كنا نسيهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببئر معونة (أرض ببني عامر وحرة بني سليم) قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقنت عليهم شهرا يدعو في الصبح على أحياء من العرب على رعل وذكوان وعصيه وبني لحيان، قال أنس فقرأنا فيهم قرآنا ثم رفع (أي ما ذكر أعلاه) وليس

صفحة رقم 427

بشيء إذ ليس كل ما يخبر به جبريل حضرة الرسول يكون قرآنا، أما قوله فكنا نقرأ فهو عبارة عن تكرار ما قاله جبريل عليه السلام لحضرة الرسول عليه الصلاة والسلام بشأنهم، وقراءته حكايته، إذ لو كان قرآنا لدون في
الصحف كغيره فيما كان يكتب عليه التي كانت في بيت عائشة ثم حفصة التي نقلها القراء في زمن عثمان إلى المصاحف، وحفظت كغيرها من قبل الكتبة، لذلك فلا معنى لقوله ثم نسخ، يدل عليه عدم بيان ما نسخ به، إذ لكل منسوخ ناسخ بما يدل على أن ذلك ليس من القرآن، ومن هنا شرع القنوت عند نزول كل حادثة بالمسلمين في الصلوات. وفي رواية لمسلم: جاء أناس إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فسألوه أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار وذكر نحو ما تقدم، وذلك في شهر صفر السنة الرابعة من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد، وهذا الخبر على فرض صحته كما جاء ليس نصا في سبب النزول، إذ قيل إن الذي نزل فيهم هو قوله تعالى (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) الآية المارة، وكذلك لا يكاد يصح لأن السبب في نزولها قد ذكرناه في الآية ١٢٧ المارة، وقد بينا غير مرّة أن لا مانع من تعدد الأسباب، وأن آية واحدة قد تكون لعدة حوادث، والله أعلم. قال تعالى «الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا» وسارعوا بالإجابة «مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ» (١٧٢) عند الله لانقيادهم لأمر رسولهم. نزلت هذه الآية في غزوة حمراء الأسد بعد الانصراف من غزوة أحد، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية قالت لعروة يا ابن أختي كان أبوك منهم والزبير وأبو بكر لما أصاب نبي الله ما أصاب يوم أحد وانصرف المشركون خاف أن يرجعوا فقال من يذهب في أثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلا كان فيهم أبو بكر والزبير، قال فمر برسول الله صلّى الله عليه وسلم معبد الخزاعي بحمراء الأسد وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك، فقال يا محمد والله لقد عزّ علينا ما أصابك، ولوددنا أن الله أعفاك فيهم، ثم خرج معبد من عند رسول الله حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا

صفحة رقم 428

على الرجعة إلى رسول الله وقالوا قد أصبنا جل أصحابه وقادتهم لنكرّن على بقيتهم ولنفرغنّ منهم، فلما رأى أبو سفيان معبدا قال ما وراءك يا معبد؟ قال محمد قد خرج عليكم بطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا، وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم، وفيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط، قال أبو سفيان ما تقول؟ قال والله ما أراك ترحل حتى ترى نواصي الخيل، قال فو الله لقد أجمعنا على الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، فقال والله إني أنهاك عن ذلك، فو الله لقد حملني ما رأيت على أن قلت أبياتا قال وما قلت، قال قلت:

كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
توري بأيد كرام لا تبابلة عند اللقاء ولا ميل معاذيل
فقلت ويل ابن حرب من لقائكم إذا تغطغطت البطحاء بالخيل
أتى نذير لأهل السيل ضاحية لكل ذي اربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وحش تقابله وليس يوصف ما أنذرت بالفيل
قالوا فثنى ذلك أبو سفيان ومن معه. ومن هنا يعلم أن الكذب لمصلحة جائز كما بينته في الآية ٢٦ من سورة الأحزاب الآتية، وبأثناء هذا مر ركب من عبد القيس فقال أين تريدون؟ قالوا المدينة لأجل الميرة، قال فهل أنتم مبلغون عنا محمدا رسالة وأحمل لكم آبالكم زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا نعم، قال إذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم، وانصرف أبو سفيان إلى مكة.
مطلب غزوة حمراء الأسد، وبدر الصغرى، وأحاديث في فضل الجهاد والرباط:
ومرّ ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال صلّى الله عليه وسلم وأصحابه حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم انصرف رسول الله راجعا إلى المدينة بعد ثالثة، فنزل قوله تعالى «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ» أي ركب عبد القيس المار ذكره «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» يعني أبا سفيان وقومه «فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ» هذا القول «إِيماناً» على إيمانهم وفي هذه

صفحة رقم 429

الجملة دلالة على أن الإيمان يزيد وينقص كما بيناه في الآية الثانية من سورة الأنفال المارة «وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» (١٧٣) قال عكرمة نزلت هذه الآية في بدر الصغرى، لأن أبا سفيان يوم أحد حين أراد أن ينصرف قال يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر الصغرى نقابل إن شئت، فقال صلّى الله عليه وسلم بيننا وبينك ذلك إن شاء الله، فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل بمجنة من ناحية مرّ الظهران، فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع، وفي خلف وعده هذا قال عبد الله بن رواحة:

وعدنا أبا سفيان وعدا فلم نجد لميعاده صدقا وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا لأبت ذميما وافتقدت المواليا
تركنا به أوصال عتبة وابنه وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا
عصيتم رسول الله أف لدينكم وأمركم الشيء الذي كان غاويا
وأني وإن عنفتموني لقائل فدّى لرسول الله أهلي وماليا
أطعناه لم نعدله فينا بغيره شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا
فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا، فقال له أبو سفيان يا نعيم إني وأعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي يوم بدر الصغرى، وهذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب اللبن وبدا لي أن لا أخرج إليها وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا، فيزيدهم ذلك جرأة، ولأن يكون الخلف من قبلهم أحب إلي من أن يكون من قبلي، فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أنا في جمع كثير لا طاقة لهم بنا، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يد سهل ابن عمرو وهو يضمنها لك وبعد أن استدعاه وتعهد له بذلك أتى المدينة فوجد الناس متجهزين لميعاد أبي سفيان، فقال لهم لو عدلتم عن خروجكم لكان خيرا لكم، إني والله قد رأيتهم وما أعدوه لكم، والله لإن أتوكم في دياركم وقراركم لم يفلت منكم إلّا الشريد، أفتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم ما ليس لكم بطاقة لمقابلته، وو الله إن أخذوا بكم لا يفلت منكم أحد. فكره أصحاب الرسول الخروج، فقال صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لأخرجنّ لهم ولو وحدي، فرجع الجبان وتأهب

صفحة رقم 430

الشجاع، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فخرج في أصحابه حتى وافوا بدرا، وأقاموا فيها، ولما قضي الموسم ولم يحضر أبو سفيان وأصحابه وكان معهم تجارات ونفقات فباعوها وربحوا بالدرهم اثنين وكان مدة سوق بدر ثمانية أيام، وسيأتي لهذه الغزوة بحث في الآية ٤٧ من سورة النساء الآتية إن شاء الله، وعليه فإن سياق الآية يفيد الارتباط بما قبلها، وإنها قصة واحدة، وقد يجوز الوجه الآخر، والله أعلم. روى البخاري عن ابن عباس قال في قوله تعالى (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا) أي الفقرة الأخيرة فيها وهي (حَسْبُنَا اللَّهُ) إلخ قالها إبراهيم حين ألقي بالنار، وقالها محمد حين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم، ويؤيد الحادثتين قوله تعالى «فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ» (١٧٤) وعلى اعتبار نزولها في بدر الصغرى يكون المراد بالناس أبا نعيم هذا إذ يجوز في لسانهم إطلاق الناس على الواحد باعتبار أنه إذا قال قولا ورضي به غيره، حسن إضافة ذلك القول إليهم كلهم، وعليه يكون قوله تعالى «إِنَّما ذلِكُمُ» الذي خوفكم بجمع أبي سفيان هو «الشَّيْطانُ» أبو نعيم الذي رشاه أبو سفيان بعشرة من الإبل على أن يفتري تلك الفرية ولم يفز ببغيته، وقد خسر الدنيا والآخرة، وعلى المعنى الأول ركب عبد القيس الذي مرت الإشارة إليه في الآية ١٧٢ وهي المعبر عنه بالشيطان الذي «يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ» المنافقين إخوان المشركين «فَلا تَخافُوهُمْ» أيها المؤمنون لأنهم ضعفاء لا يستنصرون بالله ولا يعتمدون عليه، وكذلك المنافقون الّذين يأخذون بقوله، جبناء، لا يثقون بالله ويشكون في وعده ودعوة نبيه، فانبذوهم «وَخافُونِ» أنا وحدي الجبار القاهر عظيم البطش «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (١٧٥) بي وبرسولي، ثم التفت يخاطب سيد المخاطبين بقوله «وَلا يَحْزُنْكَ» يا حبيبي «الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ» من المنافقين والمشركين فإنهم لا يضرونك والله معك «إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً» بمسارعتهم لقتالك الذي هو نفسه كفر، وإنما يضرون أنفسهم «يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ» ويكلهم إلى الدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» (١٧٦) لا تطيقه قواهم لأنه من إله عظيم.

صفحة رقم 431

هذا، وعلى القول الأول تكون هذه الآية آخر قصة أحد لأنها متعلقة بما قبلها، وغزوة حمراء الأسد تبع لها وعلى الثاني يكون آخرها قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) ومن قوله تعالى (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) الآيات إلى هنا تعتبر نازلة في واقعة بدر الصغرى، والله أعلم. روى البخاري ومسلم عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها.
ورويا عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها.
ورويا عن أبي سعد قال: أتى رجل رسول الله ﷺ فقال أي الناس أفضل؟
قال مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، قال ثم من؟ قال رجل في شعب من الشعاب يعبد الله تعالى، وفي رواية يتقي الله ويدع الناس شره. ورويا عن أنس بن مالك قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ما بأحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما في الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة. وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدين. راجع ما يتعلق في بحث الدين في الآية ٢٨٠ من البقرة المارة. وأخرج أبو داود عن أبي الدرداء قال: قال صلّى الله عليه وسلم يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته. وأخرج الترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما يجد الشهيد مس القتل إلا كما يجد أحدكم من ألم القرحة. وروى البخاري عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من احتبس فرسا في سبيل الله، الحديث تقدم في الآية ٦٠ من سورة الأنفال المارة ومعه أحاديث كثيرة في هذا البحث. وأخرج الترمذي وأبو داود عن فضالة بن عبد الله قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل، فإنه ينمّي له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر. ورويا عن سهل بن سعد المذكور من الحديث الثاني في هذه الأحاديث المارة بزيادة: والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما فيها. وروى مسلم عن سلمان قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن

صفحة رقم 432

مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ» أي المنافقين لأنهم كفروا بعد إيمانهم فغبنوا وخابوا وخسروا أنفسهم لأنهم ببيعتهم الخاسرة «لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً» بل خسروا أنفسهم وحدها في الدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (١٧٧) في الآخرة، ولا تكرار في جملة (لن يضروا الله) وفي جملة (ولهم عذاب أليم) لأنها في الآية الأولى في جميع الكفار وهذه في المنافقين المتخلفين فقط وتلك مختومة بلفظ عظيم وهذه بلفظ أليم. قال تعالى «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» بتاء الخطاب لحضرة الرسول وبالياء على الغيبة لعموم الكفار، ولا يخصصها قول من قال إنها نزلت بالمشركين وبعض يهود بني قريظة والنضير الذين سبق ذكرهم وسبق في علم الله عدم إيمانهم «أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ» نمهلهم ونؤخرهم ليعتقدوا أن ذلك «خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ» كلا لا يظنوا ذلك بل هو شر لهم بدليل قوله عز قوله «إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً» فتكثر أوزارهم في الدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (١٧٨) في الآخرة ينسون بكبير هوانه عز الدنيا وما فيها لو كانت كلها لهم.
روى البغوي بسنده عن عبد الرحمن عن أبيه قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي الناس خير قال من طال عمره وحسن عمله، قيل فأي الناس شر؟ قال من طال عمره وساء عمله. وقال ابن الأنباري: قال صلّى الله عليه وسلم إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج من الله لخلقه، ثم تلا هذه الآية. قال تعالى «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» بحيث لم يعرف المخلص من غيره «حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» وذلك أن المؤمنين سألوا رسول الله آية يعرفون بها المخلص من المنافق، فأنزل الله هذه الآية أي لم يترككم على هذا الاختلاط والالتباس بل لا بد وأن يبين المؤمن الموقن والكافر المصر. وهذا بعد واقعة أحد، لأن المؤمن ثبت على إيمانه وازداد إخلاصا، والمنافق جاهر في نفاقه وازداد كفرا فظهر للناس حال الطرفين «وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ» أيها المؤمنين توا لتميزوا بين الطرفين لأن هذا من الغيب وهو من خصائص الله. واعلم أن فعل يذر لا ماضي له، راجع الآية ٢٧٨ من البقرة المارة، ت (٢٨)

صفحة رقم 433

ولا تنوهموا أن رسولكم يعلم شيئا دون تعليمنا إياه لأن شأنه في الغيب شأن غيره «وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ» فيطلعه على ما يشاء من غيبه دلالة على نبوته لخلقه لئلا يبطنوا له خلاف ما يظهرونه «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» كلهم محمد فمن قبله «وَإِنْ تُؤْمِنُوا» بالرسل كلهم «وَتَتَّقُوا» جميع ما نهيتم عنه «فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ» (١٧٩) من الرب العظيم الذي يعطي العظيم «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» زيادة على كفايتهم «هُوَ خَيْراً لَهُمْ» كلا أيها الإنسان الكامل «بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ» بالدنيا بالذم وبالآخرة سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ» على رءوس الأشهاد «يَوْمَ الْقِيامَةِ» فيراهم أهل الموقف، لأنهم لم ينفقوا ما أعطيناهم في طرق الخير ثم تركوه لغيرهم وتحملوا عقابه «وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» لأن أهلهما يموتون وهو الباقي الوارث لهم «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (١٨٠).
مطلب في الزكاة وعقاب تاركها، وتحذير العلماء من عدم قيامهم بعلمهم، وحقيقة النفس:
نزلت هذه الآية في مانعي الزكاة بدليل تشديد الوعد فيها، لأن منع صدقة الشرع لا تستلزم هذا التهديد، يؤيد هذا ما جاء في تخريج البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته مثل له يوم القيامة شجاع أقرع (حية عظيمة) له زبيبتان (شعرتان في لسانه) بطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهمزتيه (شدقه) ثم يقول أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية. وهذا الحديث مفسر لقوله تعالى (سيطوقون ما بخلوا به) وروى البخاري عن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال هم الأخسرون ورب الكعبة، قال فجئت حتى جلست فلم أتقار أن قمت (وهذا من كمال أدبه رضي الله عنه إذ لم يرد أن يتجاسر على سؤال حضرة الرسول وهو قاعد) ومن هنا ين التمسك بالأدب مع العلماء لمن يسألهم عن أمر دينه أكثر من غيرهم، فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم؟ قال الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم، ما من

صفحة رقم 434
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية