
أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ
(١٦٧) أي يعلم من تفاصيل تلك الأحوال ما لا يعلمه غيره الَّذِينَ قالُوا أي الذين نافقوا، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه لِإِخْوانِهِمْ أي لأجل إخوانهم وهم من قتل يوم أحد من جنسهم أو أقاربهم وَقد قَعَدُوا عن القتال بالانخذال: لَوْ أَطاعُونا أي فيما أمرناهم به ووافقونا في ذلك ما قُتِلُوا كما لا نقتل قُلْ للمنافقين فَادْرَؤُا أي ادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) في أن القعود ينجي منه.
وروي أنه أنزل الله بهم الموت، فمات منهم يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقا من غير قتال ومن غير خروج لإظهار كذبهم وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً نزلت هذه الآية في حق قتلى أحد وكانوا سبعين رجلا: أربعة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير، وشماس بن عثمان، وعبد الله بن جحش، وباقيهم من الأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وأما شهداء بدر فنزلت فيهم آية البقرة ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله الآية بَلْ هم أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) التحف من الجنة.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال في صفة الشهداء إن أرواحهم في أجواف طير خضر وأنها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتسرح حيث شاءت وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أبشرك أن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله». ثم قال: «ما تريد يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك؟» فقال: يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك مرة أخرى.
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وهو شرف الشهادة والقرب من الله والتمتع بالنعيم المخلد عاجلا وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) أي أن الشهداء يقول بعضهم لبعض تركنا إخواننا فلانا وفلانا في صف المقاتلة مع الكفار فيقتلون إن شاء الله، فيصيبون من الرزق والكرامة ما أصبنا.
أي يفرحون بحسن حال إخوانهم الذين تركوهم في الدنيا بدوام انتفاء الخوف والحزن وبلحوقهم بهم لأن الله بشرهم بذلك
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي بثواب أعمالهم من الله وَفَضْلٍ أي زيادة عظيمة من الكرامة وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) من الشهداء وغيرهم الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ في أحد. منهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والزبير وسعد وطلحة وابن عوف وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح وجابر بن عبد الله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ في طاعة الرسول في ذلك الوقت وَاتَّقَوْا في التخلف عن الرسول أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢).
روي أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وقالوا: إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فلم تركناهم! بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم. فهموا

بالرجوع، فبلغ ذلك الرسول صلّى الله عليه وسلّم فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة.
فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان وقال: «لا أريد أن يخرج الآن معي إلا من كان معي في القتال بالأمس» فخرج الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع قوم من أصحابه قيل: كانوا سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال على يسار الطريق لمن أراد ذا الحليفة، وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، فألقى الله تعالى الرعب في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت هذه الآية:
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ وهو أعرابي من خزاعة أو جماعة راكبون من عبد القيس أو نعيم بن مسعود الأشجعي إِنَّ النَّاسَ أي أبا سفيان وأصحابه قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ في اللطيمة وهي سوق في قرب مكة فَاخْشَوْهُمْ بالخروج إليهم.
روي أن أبا سفيان لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مكة نادى: يا محمد موعدنا موسم بدر إن شئت. فقال صلّى الله عليه وسلّم لعمر: «قل بيننا وبينك ذلك إن شاء الله تعالى». فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران، فألقى الله الرعب في قلبه وبدا له أن يرجع، فمر به ركب من بني عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم حمل بعير من زبيب إن ثبطوا المسلمين، وقيل: لقي نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال: يا نعيم إني واعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر وإن هذا عام جدب وقد بدا لي أن أرجع، ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاد بذلك جراءة فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل فخرج نعيم حتى أتى المدينة فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبي سفيان، فقال لهم: أين تريدون؟ فقالوا: واعدنا أبا سفيان بموسم بدر أن نقتتل فيها، فقال لهم: ما هذا بالرأي! أتوكم في دياركم وقتلوا أكثركم، فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد. فوقع هذا الكلام في قلوب بعضهم فكره الخروج. فلما عرف الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذلك قال: «والذي نفس محمد بيده لأخرجن إليهم ولو لم يخرج معي أحد». فخرج في سبعين راكبا، وباقي الجماعة يمشون وفيهم ابن مسعود فذهبوا وكلهم يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل. إلى أن وصلوا إلى بدر وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببدر ينتظر أبا سفيان ثمان ليال ولم يلق أحدا من المشركين، ووافقوا السوق وباعوا ما كان معهم من التجارات واشتروا أدما وزبيبا بحوافي الدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين كما قال تعالى
: فَزادَهُمْ إِيماناً أي زادهم هذا الكلام المخوف جراءة بالخروج إليهم وعزما متأكدا على محاربة الكفار وعلى طاعة الرسول وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي كافينا الله وثقتنا به وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) أي الكفيل بالنصرة والكافي فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي فخرجوا إلى بدر فرجعوا من بدر ملتبسين بسلامة وثواب من الله وَفَضْلٍ أي ربح في التجارة لَمْ يَمْسَسْهُمْ أي لم يصبهم في الذهاب والمجيء سُوءٌ أي قتل ولا جراح وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ في طاعة رسوله وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) يدفع العدو عنهم ويعطيهم ثواب الغزو ويرضى عنهم إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ.

قرأ ابن عباس وابن مسعود «يخوفكم أولياءه». وقرأ أبي بن كعب «يخوفكم بأوليائه»، أي ذلكم المثبط الشيطان يحوفكم أيها المؤمنون المشركين أبا سفيان وأصحابه.
وقال الحسن والسدي: معنى هذه الآية الشيطان يخوف أولياءه الذين يطيعونه ويختارون أمره- وهم المنافقون- ليقعدوا عن قتال المشركين. فأما أولياءه الله فإنهم لا يخافون الكفار إذا خوّفهم الشيطان ولا ينقادون لأمره فَلا تَخافُوهُمْ أي أولياء الشيطان بالخروج إليهم وَخافُونِ في مخالفة أمري بالجلوس إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) فإن الإيمان يقتضي تقديم خوف الله على خوف الناس ويستلزم عدم الخوف من شر الشيطان وأوليائه وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ.
قرأ نافع «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي في جميع ما في القرآن إلا قوله تعالى لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الآية: ١٠٣] في سورة الأنبياء فإنه فتح الياء وضم الزاي كباقي القراء في جميع ما في القرآن إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً. اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية فقيل: إنها نزلت في شأن كفار قريش والله تعالى جعل رسوله آمنا من شرهم. والمعنى لا يحزنك من يسارع في الكفر بنصرته بأن يقصد جمع العساكر بمحاربتك وإبطال هذا الدين وإزالة هذه الشريعة. وهذا المقصود لا يحصل لهم بل يضمحل أمرهم وتزول شوكتهم ويعظم أمرك ويعلو شأنك فإنهم لن يضروا الله شيئا بهذا الصنيع وإنما يضرون أنفسهم. وقيل: نزلت في شأن المنافقين إنهم كانوا يخوفون المؤمنين بسبب وقعة أحد ويؤيسونهم من النصر والظفر. وقيل: نزلت في شأن رؤساء اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه الذين كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم لمتاع الدنيا يُرِيدُ اللَّهُ بذلك أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا من الثواب فِي الْآخِرَةِ أي الجنة وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) في النار إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) قال ابن عباس: هم المنافقون اختاروا الكفر على الإيمان فإنهم متى كانوا مع المؤمنين أظهروا الإيمان، فإذا خلوا إلى شيطانهم كفروا وتركوا الإيمان فكان ذلك كأنهم اشتروا الكفر بالإيمان. ويمكن حمل هذه الآية على اليهود، ومعنى اشتراء الكفر بالإيمان منهم أنهم كانوا يعرفون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويؤمنون به قبل مبعثه، ويستنصرون به على أعدائهم فلما بعث كفروا به وتركوا ما كانوا عليه فكأنهم أعطوا الإيمان وأخذوا الكفر بدلا عنه كما يفعل المشتري من إعطاء شيء وأخذ غيره بدلا عنه وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ أي نمهل لهم بتطويل الأعمار خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً أي ذنبا
في الدنيا ودركات في الآخرة وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) يهانون به يوما فيوما وساعة بعد ساعة.
قال الفخر الرازي: بيّن الله تعالى في هذه الآية أن بقاء هؤلاء المتخلفين عن القتال ليس

خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا في أحد لأن هذا البقاء صار وسيلة إلى الخزي في الدنيا والعقاب الدائم في القيامة. وقتل أولئك الذين قتلوا في أحد صار وسيلة إلى الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة فترغيب أولئك المثبطين في مثل هذه الحياة وتنفيرهم عن مثل ذلك القتل لا يقبله إلا جاهل.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو في الأربعة: «ولا تحسبن الذين كفروا»، ولا تحسبن الذين يبخلون، لا تحسبن الذين يفرحون ف «لا تحسبنهم» بالتاء وضم الباء في قوله تعالى:
«تحسبنهم».
وقرأ نافع وابن عامر بالياء إلا قوله: «فلا تحسبنهم» فإنه بالتاء. وقراءة حمزة كلها بالتاء.
وقيل: نزلت الآية من قوله: وَلا يَحْزُنْكَ إلى هاهنا في حق مشركي أهل مكة يوم أحد. ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليترك المخلصين عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أيها الناس من اختلاط المنافقين بالمخلصين وإظهارهم أنهم من أهل الإيمان حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ أي المنافق مِنَ الطَّيِّبِ أي المؤمن بإلقاء المحن والمصائب والقتل والهزيمة، فمن كان مؤمنا ثبت على إيمانه وتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومن كان منافقا ظهر نفاقه وكفره أو بالقرائن فإن المسلمين كانوا يفرحون بنصرة الإسلام وقوته والمنافقين كانوا يغتمون بذلك وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ أي إن عادة الله جارية بأنه لا يطلع عوام الناس على غيبه بل لا سبيل لكم إلى معرفة ذلك الامتياز إلا بالامتحانات من التكاليف الشاقة كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله فأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاع على الغيب فهو من خواص الأنبياء فلهذا قال تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فخصّهم بإعلامهم أن هذا مؤمن وهذا منافق، أو المعنى فيمتحن خلقه بالشرائع على أيديهم حتى يتميز الفريقان بالامتحان. أو المعنى وما كان الله ليجعلكم كلكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عن الرسول بل الله يخص من يشاء من عباده بالرسالة، ثم يكلف الباقين طاعة هؤلاء الرسل فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي لما طعن المنافقون في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بوقوع الحوادث المكروهة في أحد بين الله تعالى أنه كان فيها مصالح منها تمييز الخبيث من الطيب، ولم يبق بعد جواب هذه الشبهة إلا أن تؤمنوا بالله ورسله وَإِنْ تُؤْمِنُوا حق الإيمان وَتَتَّقُوا أي الكفر والنفاق فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) أي ثواب وافر في الجنة وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ أي لا يتوهمن هؤلاء البخلاء ببذل المال في الجهاد أن بخلهم هو خير لهم بل هو شرّ لهم لأنه يبقى عقاب بخلهم عليهم سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي سيجعل ذلك المال طوقا من النار في عنقهم. وقيل: إن المراد البخل بالعلم وذلك لأن اليهود كانوا يكتمون نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم فكان ذلك الكتمان بخلا فحينئذ كان معنى سيطوقون أن