
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ (١).
فيه تحريضٌ على العمل بطاعته؛ لأن ثوابه لا يضيع؛ إذا عَمِلَه (٢) مَنْ يعمل له، وتحذيرٌ مِنَ العملِ بمعصيته؛ لأن جزاءه لا يفوتُ إذا كان عالِمًا به. فهو تهديد ووعيدٌ للكافرين، وتبشيرٌ ووَعْدٌ للمؤمنين.
١٦٤ - قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ الآية.
لـ (المَنِّ) (٣) -في كلام العرب- مَعَانٍ:
أحدها: الذي يسقط من السماء، وقد مرّ ذكره في قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ [البقرة: ٥٧]. والمَنُّ: الاعتداد بالصنَّيعَةِ (٤)، وهو: أنْ تَمُنَّ بما أعطيت، وذلك في قوله: ﴿لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ﴾ [البقرة: ٢٦٤].
والمَنُّ: القَطْعُ. ومنه قوله: ﴿أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [فصلت: ٨]؛ أي: غيرُ مَقْطُوع (٥).
وانظر روايات أخرى بألفاظ أخرى في: "فتح الباري" ٧/ ١٩٣ - ١٩٤، و"الفائق" للزمخشري ٢/ ٣٣٢.
(١) في (أ)، (ب)، (ج): تعملون. والمثبت من رسم المصحف.
(٢) في (ج): (علمه).
(٣) في (ج): (المن) بدلا من: (للمن).
(٤) الصَّنِيعة: العَطِيَّة، والكرامة، والإحسان. والجمع: صَنائِع. انظر: (صنع) في: "اللسان" ٤/ ٢٥١٠، و"القاموس" ٧٣٩.
(٥) وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وغيرهم. وحكى السُدِّي عن بعضهم، =

والمَنُّ: الإعطاء والإنعام، والإحسان إلى مَنْ لا تَسْتَثِيبه. منه قوله تعالى: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ﴾ [ص: ٣٩]، وقوله: ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ [المدثر: ٦] (١). و (المَنَّانُ) -في صفة الله- تعالى-؛ معناه: المُعْطِي ابتداءً (٢).
فمعنى قوله: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: أنعَمَ عليهم، وأحسَنَ
(١) معنى الآية -على هذا الوجه-: لا تُعْطِ العطيَّةَ تلتمس أكثر منها. وهذا قول ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وأبي الأحوص، وإبراهيم النخعي، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم، واستظهره ابن كثير. ويرى الضحاك أن هذا خاص بالنبي - ﷺ -، مباح للناس عامة.
وقيل: لا تعط عطاءً وتستكثره؛ لأن الكريم يستقل ما يعطي، وإن كان كثيرًا. ذكره ابن جُزي.
وهناك أقوال أخرى في الآية، هي:
- لا تمنن بعملك على ربك تستكثره وهو قول الحسن، والربيع، واختيار الطبري.
- وقيل: لا تضعف أن تستكثر من الخير؛ على أنَّ (تَمْنُنْ) -في كلام العرب-: تضعف. وهي رواية خصيف عن مجاهد. أو لا تضعف عن تبليغ الرسالة، وتستكثر ما حملناك من ذلك. ذكره ابن جُزَي.
- وقيل: لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس، تستكثرهم به، تأخذ عليه عوضًا من الدنيا. وهو قول ابن زيد.
انظر: "تفسير الطبري" ٢٩/ ١٤٨ - ١٥٠، "وتفسير ابن جزي" ٨٠٦، و"تفسير ابن كثير" ٤/ ٤٦٦.
(٢) انظر هذه المعاني لـ (المن) في: "الزاهر" ٢/ ٣٥٥ - ٣٥٧، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٥٩ - ٣٤٦٠، و"مفردات ألفاظ القرآن" ٧٧٧، و"قاموس القرآن" للدامغاني ٤٤٤، و"بصائر ذوي التمييز" ٤/ ٥٢٧ - ٥٢٨.

إليهم، إذ بَعَثَ فيهم رَسُولًا.
واختلفوا في المراد بـ (المؤمنين) في قوله: ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾.
فقال بعضهم (١): هذا خاصٌّ في العرب، لأن النبي - ﷺ -، كانَ مِنَ العَرَبِ، ولم يكُنْ حَيٌّ مِن أحياء العرب، إلّا [و] (٢) قد وَلَدَهُ، وله فيهم نَسَبٌ، غير بني تَغْلِب؛ لأنهم كانوا نَصَارَى (٣)، فطَهَّرَهُ (٤) اللهُ منهم؛ لأنهم ثَبَتوا على النصرانية (٥). وعلى هذا دلّ كلام ابن عباس -في رواية عطاء- (٦)، فإنه قال: يعنى المهاجرين والأنصار.
وعلى هذا التفسير، معنى قوله: ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: مِنْ نَسَبِهم. قال ابن عباس (٧): يريد: نَسَبه نَسَبهم، هو مِن وَلَدِ إسماعيل. وبه قال الكلبيُّ (٨).
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من (ج)، و"تفسير الثعلبي".
(٣) هم بنو تَغْلب بن وائل بن قاسط. ينتهي نسبهم إلى مَعَدّ بن عدنان. ومساكنهم بالجزيرة الفُرَاتية، وتعرف بديار بكر. وبينهم وبين بني بكر بن وائل دارت حرب (البَسُوس) المشهورة التي استمرت (٤٠) سنة.
انظر: "جمهرة أنساب العرب" ٣٠٣، ٤٦٩، و"صبح الأعشى" ١/ ٣٣٨، و"معجم القبائل العربية" ١/ ١٢٠.
(٤) في (أ)، (ب): (فظهره). والمثبت من (ج)، و"تفسير الثعلبي"، وكذا جاءت في "تفسير القرطبي" ٤/ ٢٦٤، ١٨/ ٩٢. وهي الصواب.
(٥) أورد هذا القول القرطبيُّ في "تفسيره" ١٨/ ٩٢ ونسبه لابن إسحاق، وكذا أورده أبنُ عطية في "المحرر" ٣/ ٤٠٩ ونسبه للنقاش.
(٦) لم أقف على مصدر هذه الرواية عنه.
(٧) لم أقف على مصدر قوله؛ وقد ذكره ابن الجوزي في "الزاد" ١/ ٤٩٤.
(٨) لم أقف على مصدر قوله.

ومعنى (المِنَّة) -على هذا التفسير-: أنه بُعِثَ واحدًا منهم؛ ليكونَ ذلك شَرَفًا لهم (١). ففيه إنعامٌ مِنْ وجهين:
أحدهما: أنه أنقذهم به من النار، وهداهم. والثاني: أنْ جعله منهم. ودليل هذا التأويل، قولُه: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [الجمعة: ٢].
وقال آخرون (٢): أراد المؤمنين كلَّهم، وعلى هذا معنى قوله: ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: إنه واحدٌ منهم، يعرفونه، ويعرفون نَسَبَهُ، ليس بِمَلَكٍ، ولا أحد مِن غيرِ بني آدم.
ومعنى (المِنّة) -على هذا القول-: أنّه (٣) مَنَّ على المؤمنين، بإرساله واحدًا منهم، عُرِفَ أمرُهُ، وخُبِرَ صِدْقُهُ وأمانَتُهُ، فكانَ تَنَاوُلُ (٤) الحُجّةِ والبرهانِ (٥) سَهْلًا مِنْ قِبَلِهِ (٦).
وأورده السيوطي في "الدر" ٢/ ١٦٥ وزاد نسبة إخراجه إلى ابن المنذر، والبيهقي في "الشعب".
وهو اختيار الطبري في "تفسيره" ٤/ ١٦٣حيث قال: (﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ نبيًا من أهل لسانهم، ولم يجعله من غير أهل لسانهم، فلا يفقهوا عنه ما يقول).
(١) انظر: "بحر العلوم" لأبي الليث ١/ ٣١٣، و"النكت والعيون" ١/ ٤٣٤.
(٢) ممن قال هذا: الزجاج -كما سيأتي-، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ١٤٣ ب، ولم يعزه لقائل.
(٣) من قوله: (أنه) إلى (من قبله) نقله -بتصرف- عن "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٨٧.
(٤) في (أ)، (ب): (يتأول). والمثبت من (ج)، و"معاني القرآن".
(٥) في (أ): (البرهانُ) بضم النون. وفي (ب)، (ج): مهملة، وما أثبته هو الصواب.
(٦) في (ب): (قبل).

وهذا القول اختيار الزجّاج؛ لأنه قال (١): لو كانت المنّةُ فيه [أنه] (٢) مِنَ العرب، لكانَ (٣) العَجَمُ لا مِنَّة عليهم فيهِ، ولكن المِنَّة (٤) فيه: أنَّهُ قد خُبِرَ أمْرُه، وشأنُه، وعُلِمَ صدقُهُ، بعد أنْ عَلِمُوا أنه كان واحدًا منهم، وإذا كان واحدًا منهم، كانَ أيْسَرَ عليهم معرِفةُ أحوالِهِ مِنَ الصِّدقِ والأمانة.
وعلى هذا التفسير: خُصّ المؤمنون بالذكر، وإنْ كانَ جميعُ المُكَلَّفِينَ في هذا سواء؛ لأن المِنّة على المُؤْمِنِ في هذا أعظمُ منها على الكافر؛ لانتفاع المؤمن ببعثته، فصار كقوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: ٤٥]، وهو كان منذرًا لجميع البَشَرِ، ولكنْ لَمَّا كان المؤمنُ يخشَى الساعةَ دون الكافرين، وكان للمؤمن الانتفاعُ بإنذاره، أُضِيفَ إليه.
وباقي الآية مفسَّرَةٌ في سورة البقرة (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ قيل: معناه: وقد كانوا (٦).
وقيل: معناه: وما كانوا مِنْ قَبْلِهِ؛ أي (٧): مِنْ قبل محمد، إلَّا في
(٢) ما بين المعقوفين زيادة ليستقيم بها السياق.
(٣) في (ب): (لكانت).
(٤) في (ب): (أمانته).
(٥) انظر: تفسير الآية ١٢٩، والآية ١٥١ من سورة البقرة.
(٦) لم أقف على من قال بهذا القول، إلا أنه يُخَرَّج على قول الكسائي -من الكوفيين- أنَّ (إنْ) إنْ دخلت على جملة فعلية، تكون بمعنى (قد)، واللام زائدة للتوكيد، وإن دخلت على جملة اسمية، فتكون (إنْ) هي النافية، واللام بمعنى (إلَّا).
انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ١٦٣، و"اللامات" للزجاجي ١١٥، و"الجنى الداني" ٢١٤، و"الدر المصون" ٢/ ٣٣٤.
(٧) (من قبله أي): ساقط من (ج).