
محمد هكذا. قال سعيد بن جبير: ما سمعنا بنبي قتل في القتال. وقال الحسن البصري وجماعة من العظماء: لم يقتل نبي في حرب قط، والمعنى على القراءة المشهورة وكثير من نبي قاتل لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه كائنا معه في القتال جماعات كثيرة من أصحابه فأصابهم من عدوهم قرح فما وهنوا أي جبنوا لأن الذي أصابهم إنما هو في طاعة الله وإقامة دينه ونصرة رسوله فكذلك ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمة محمد وَما ضَعُفُوا أي عجزوا عن قتال عدوهم وَمَا اسْتَكانُوا أي ذلوا لعدوهم كما فعلتم حين قيل: قتل نبيكم وأردتم أن تعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) على تحمل الشدائد في طريق الله أي يكرمهم ويعظمهم وَما كانَ قَوْلَهُمْ بعد ما قتل نبيهم إِلَّا أَنْ قالُوا هذا الدعاء. وقولهم بالنصب خبر لكان واسمها أن وما بعدها رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا الصغائر والكبائر وَإِسْرافَنا أي إفراطنا فِي أَمْرِنا بإتيان الذنوب العظيمة الكبيرة وَثَبِّتْ أَقْدامَنا بإزالة الخوف عن القلوب وإزالة الخواطر الفاسدة عن الصدور وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن سواء كان في الجهاد أو غيره فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا بالنصرة والغنيمة، وقهر العدو، والثناء الجميل، وانشراح الصدر بنور الإيمان، وزوال ظلمات الشبهات وكفارة المعاصي والشبهات وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ أي حكم الله لهم بحصول الجنة وما فيها من المنافع واللذات وأنواع السرور والتعظيم في الآخرة وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) أي المعترفين بكونهم مسيئين، فلما اعترفوا بذلك سماهم الله محسنين كأن الله تعالى يقول لهم: إذا اعترفتم بإساءتكم وعجزكم فأنا أصفكم بالإحسان وأجعلكم أحباء لنفسي حتى تعلموا أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى حضرة الله إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا أي المنافقين في قولهم للمؤمنين المنهزمين ارجعوا إلى دينكم وإخوانكم ولو كان محمد نبيا لما قتل يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي يرجعوكم إلى دينكم الأول. قال علي: والمراد بالذين كفروا: المنافقون، كما تقدم.
وقال السدي وغيره: المراد بهم أبو سفيان بن حرب لأنه شجرة الفتن وكبير القوم في ذلك اليوم. ومعنى الآية حينئذ إن تخضعوا لأبي سفيان وأشياعه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم.
وقيل: المراد عبد الله بن أبي وأتباعه من المنافقين لأنهم قالوا: لو كان محمد رسول الله ما وقعت له هذه الواقعة فارجعوا إلى دينكم الذي كنتم فيه. وقال ابن عباس: والمراد بهم اليهود كعب وأصحابه. والمراد بالذين آمنوا حذيفة وعمار فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) أي فترجعوا مغبونين في الدارين بالانقياد للعدو والتذلل له وبالحرمان عن الثواب المؤبد، والوقوع في العقاب المخلد بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ أي ناصركم وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) أي أقواهم بالنصرة. فلا ينبغي أن تطيعوا الكفار لينصروكم لأنهم عاجزون
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي سنقذف

في قلوب كفار مكة المخافة منكم حتى انهزموا وذلك أن الكفار لما هزموا المسلمين في أحد أوقع الله الرعب في قلوبهم فتركوهم وفروا منهم من غير سبب. حتى روي أن أبا سفيان صعد الجبل وقال: أين ابن أبي كبشة؟ وأين ابن أبي قحافة؟ وأين ابن الخطاب؟ فأجابه عمر ودارت كلمات بينهما وما تجاسر أبو سفيان على النزول من الجبل والذهاب إليهم. بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ أي بعبادته سُلْطاناً أي كتابا ولا رسولا وَمَأْواهُمُ النَّارُ أي مسكنهم في الآخرة النار وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) أي وبئس مقر الكافرين النار وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ يوم أحد. نزلت هذه الآية لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم بأحد قال
ناس من أصحابه من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ أي تقتلونهم قتلا كثيرا في أول الحرب بِإِذْنِهِ أي بعلمه ونصرته حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ أي إلى أن ضعفتم في الرأي أو إلى حين الغنيمة وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي اختلفتم في أمر الحرب أو في امتثال أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وذلك لأنه صلّى الله عليه وسلّم أمر الرماة بأن لا يبرحوا عن مكانهم ألبتة، وجعل أميرهم عبد الله بن جبير، فلما ظهر المشركون أقبل الرماة عليهم بالرمي الكثير حتى انهزم المشركون، ثم إن الرماة رأوا نساء المشركين صعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلا خيلهن فقالوا: الغنيمة الغنيمة، فقال عبد الله: عهد الرسول إلينا أن لا نبرح عن هذا المكان فأبوا عليه وذهبوا إلى طلب الغنيمة وبقي عبد الله مع طائفة قليلة دون العشرة إلى أن قتلهم المشركون. وَعَصَيْتُمْ أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالإقامة في أصل الجبل وتركتم المركز لأجل تحصيل الغنيمة مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ أي بعد ما أراكم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم النصرة والغنيمة مِنْكُمْ أي من الرماة مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا بجهاده، وهم الذين تركوا المركز لأجل الغنيمة وَمِنْكُمْ أي من الرماة مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ بجهاده وهم الذين ثبتوا مكانهم حتى قتلوا وهم عبد الله بن جبير وأصحابه ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أي ثم رد المسلمين عن الكفار وألقى الهزيمة عليهم وسلط الكفار عليهم لِيَبْتَلِيَكُمْ أي ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا إلى الله وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره وملتم فيه إلى الغنيمة وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ لما علم من ندمكم على المخالفة وتفضلا منه تعالى وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) حيث لم يستأصل الرماة إِذْ تُصْعِدُونَ أي تذهبون في الأرض وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ أي ولا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أي وهو واقف في آخركم وكان يقول: «إلىّ عباد الله، إليّ عباد الله أنا رسول الله من يقرّ فله الجنة» «١» فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ أي جازاكم الله عما حصل لكم بسبب الانهزام، وقتل

الأحباب، وفوت الغنائم بغم حصل للرسول بسبب عصيانكم أمره لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من الغنيمة وَلا ما أَصابَكُمْ من القتل والجراحة.
قال أبو السعود: أي لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا على نفع فات أو ضر آت وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) أي عالم بأعمالكم ومقاصدكم قادر على مجازاتها إن خيرا فخير وإن شرا فشر ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً من العدو نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ أي يأخذ النعاس المهاجرين وعامة الأنصار وَطائِفَةٌ وهم المنافقون عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي أوقعهم في الهموم لأن أسباب الخوف وهي قصد العدو كانت حاصلة لهم والدافع لذلك وهو الوثوق بوعد الله ورسوله غير معتبر عندهم لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم فلذلك عظم الخوف في قلوبهم يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أي كانوا يقولون في أنفسهم لو كان محمد محقا في دعواه لما سلط الكفار عليه وهذا ظن فاسد والله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا اعتراض لأحد عليه، فإن النبوة خلعة من الله تعالى يشرف عبده بها وليس يجب في العقل أن الله تعالى إذا شرف عبده بخلعة أن يشرفه بخلعة أخرى بل له الأمر والنهي كيف شاء بحكم الإلهية يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أي هل لنا من النصر الذي وعدنا به محمد نصيب قط. وهذا الكلام إن كان قائله من المنافقين كعبد الله بن أبي فإنما قاله طعنا في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وفي الإسلام وإن كان من المؤمنين المحققين كان غرضه منه إظهار الشفقة أنه متى يكون الفرج ومن أين يكون تحصل النصرة. قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ أي التدبير كُلَّهُ لِلَّهِ فإنه تعالى قد دبر الأمر كما جرى في سابق قضائه فلا مرد له يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ أي يقولون فيما بينهم بطريق الخفية مظهرين أنهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الإنكار والتكذيب مخافة القتل يَقُولُونَ أي معتب بن قشير وعبد الله بن أبي: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا أي لو كان لنا من التدبير والرأي شيء ما قتل من قتل منا في هذه المعركة وما غلبنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ أي قل يا أشرف الخلق لهم لو جلستم في بيوتكم في المدينة لخرج منكم من كتب الله عليهم القتل إلى مصارعهم أي أماكنهم التي ماتوا فيها عند أحد حتى يوجد ما علم الله أنه يوجد فإن الحذر لا يدفع القدر والتدبير لا يقاوم التقدير فالذين قدر الله عليهم القتل لا بد وأن يقتلوا لأن الله تعالى لما أخبر يقتل فلو لم يقتل لا نقلب علمه جهلا وذلك محال وَفرض الله عليكم القتال ولم ينصركم يوم أحد لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أي ليعاملكم من يختبر ما في قلوبكم من الإخلاص والنفاق

وليظهر ما فيها من السرائر وفي المثل المشهور لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ أي يخلصها من الوساوس وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) أي بما في القلوب من الخير والشر إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ أي انهزموا يوم أحد وهم عثمان بن عفان، ورافع بن المعلى وخارجة بن زيد يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع محمد صلّى الله عليه وسلّم وجمع أبي سفيان إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ أي أزالهم الشيطان بوسوسته أن محمدا قتل بِبَعْضِ ما كَسَبُوا أي بشؤم بعض ما كسبوا من الذنوب بترك المركز وبالحرص على الغنيمة أو على الحياة وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ لتوبتهم واعتذارهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن تاب حَلِيمٌ (١٥٥) أي لا يعجل لهم بالعقوبة وأما الذين ثبتوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين: أبو بكر وعلي وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة بن الجراح، والزبير بن العوام.
وسبعة من الأنصار: الخباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحرث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا أي في نفس الأمر وهم المنافقون عبد الله بن أبي وأصحابه وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ أي لأجل إخوانهم في النسب أو في الكفر والنفاق إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أي ساروا فيها للتجارة أو غيرها فماتوا أَوْ كانُوا غُزًّى فقتلوا لَوْ كانُوا عِنْدَنا أي مقيمين في المدينة ما ماتُوا في سفرهم وَما قُتِلُوا في غزواتهم لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ أي ظنهم أن إخوانهم لو لم يسافروا ولم يحضروا القتال لعاشوا حَسْرَةً أي حزنا فِي قُلُوبِهِمْ واللام لام العاقبة أي أنهم قالوا ذلك لإعماء قلوب المسلمين ليضيق صدرهم وليتخلفوا عن القتال فلما كان المؤمنون لم يلتفتوا إلى قولهم فيضيع سعيهم، ويبطل كيدهم فتحصل الندامة في قلوبهم وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد ومن قدر له الموت لم يبق وإن لم يجاهد فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامهما لموارد الخوف، ويميت القاعد عن القتال والمقيم مع حيازتهما لأسباب السلامة وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) فيجازيهم على قولهم واعتقادهم ويجازيكم أن تماثلوهم في ذلك وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في الجهاد أَوْ مُتُّمْ في سفركم للغزو مع الكفار أو في بيوتكم وكنتم مخلصين من النفاق لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ لذنوبكم وَرَحْمَةٌ منه لكم خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) أي مما تجمعونه أنتم لو لم تموتوا من الأموال التي تعد خيرات.
وقرأ حفص عن عاصم بالغيبة أي خير مما يجمعه هؤلاء الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها مدة أعمارهم. قال الفخر الرازي: والأصوب عندي أن اللام في «ولئن» للتأكيد فيكون المعنى إن وجب أن تموتوا أو تقتلوا في سفركم وغزوكم فكذلك يجب أن تفوزوا بالمغفرة والرحمة فلماذا تحترزون عن الموت والقتل بل ذلك مما يجب أن يتنافس فيه المتنافسون لأن الموت الذي يستحق الثواب العظيم كان خيرا من الموت من غير فائدة وَلَئِنْ مُتُّمْ في حضر أو سفر أَوْ

قُتِلْتُمْ
في الجهاد أو غيره لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فجميع العالمين يوفقون في عرصة القيامة وبساط العدل فيجتمع المظلوم مع الظالم والمقتول مع القاتل والله تعالى يحكم بين عبيده بالعدل.
واعلم أن الله تعالى رغب المجاهدين في الآية الأولى بالمغفرة والرحمة وفي هذه الآية بالحشر إلى الله زيادة في إعلاء الدرجات.
يروى «أن عيسى ابن مريم مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم ورأى عليهم آثار العبادة فقال: ماذا تطلبون؟ فقالوا: نخشى عذاب الله، فقال: هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه. ثم مر بأقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم فقالوا: نطلب الجنة والرحمة، فقال:
هو أكرم من أن يمنعكم رحمته. ثم مر بقوم ورأى آثار العبودية عليهم أكثر فسألهم فقالوا: نعبده لأنه إلهنا ونحن عبيده لا لرغبة ولا لرهبة، فقال: أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحقّون».
فقوله تعالى: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ إشارة إلى من يعبده خوفا من عقابه. وقوله: وَرَحْمَةٌ إشارة إلى من يعبده لطلب ثوابه. وقوله تعالى: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ إشارة إلى من يعبد الله لمجرد الربوبية وهذا أعلا المقامات وأبعد النهايات في العبودية في علو الدرجة، فهؤلاء الذين بذلوا أنفسهم وأبدانهم في طاعة الله ومجاهدة عدوه يكون حشرهم إليه واستئناسهم بكرمه وتمتعهم بشروق نور ربوبيته فَبِما رَحْمَةٍ فما استفهام للتعجب تقديره فبأي رحمة مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وذلك لأنه لما كانت جنايتهم عظيمة ثم إنه صلّى الله عليه وسلّم لم يظهر تغليظا في القول ألبتة علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني فكان ذلك موضع التعجب من كمال ذلك التأييد وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا باللسان غَلِيظَ الْقَلْبِ أي قاسية لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ أي لتفرقوا من عندك ولم يسكنوا إليك ولو يسكنوا إليك ولو انفضوا من حولك فات المقصود من الرسالة فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما يتعلق بحقوقك وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ من الله تعالى فيما يتعلق بحقوقه تعالى إتماما للشفقة عليهم وإكمالا للبر بهم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فإن المشاورة تقتضي شدة محبتهم له صلّى الله عليه وسلّم لأنها تدل على رفعة درجتهم فترك المشاورة معهم إهانة لهم
قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم»
. فَإِذا عَزَمْتَ عقب المشاورة على شيء فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في إمضاء أمرك على ما هو أصلح وليس التوكل إهمال التدبير بالكلية وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل بل التوكل هو أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول بقلبه على عصمة الله وإعانته إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) عليه تعالى فينصرهم ويرشدهم إلى ما فيه خير لهم وصلاح إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ أي إن ينصركم كما نصركم يوم بدر فلا أحد يغلبكم وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ أي يترك الله نصرتكم كيوم أحد فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أي فلا أحد ينصركم على عدوكم من بعد