
(وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١)
* * *
هاتان فائدتان، أولاهما تمحيص الذين آمنوا، والتمحيص هو التخليص، أي تخليص المؤمنين من ذنوبهم والمنافقين، وقد جاء في أساس البلاغة للزمخشري: " محص الشيء محصا،

ومحصه تمحيصا خلصه من كل عيب، ومحص الذهب بالنار خلصه مما يشوبه "، والمعنى على هذا أن هذا القرح الذي أصاب المؤمنين خلصهم مما كان يشوب قلوبهم من أعراض الدنيا، وخلصهم ممن كانوا يخالطونهم من ضعاف الإيمان والمنافقين، إذ تبين خبثهم، فصاروا لَا يجدون لقولهم سامعا، ولا لدعوتهم إلى التردد والهزيمة مجيبا.
والفائدة الأخرى قررها الله سبحانه وتعالى بقوله: (وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) أي ينقصهم، إذ المحق معناه النقصان، ومنه المحاق لآخر الشهر، لأن الهلال يبلغ أقصى مدى النقصان فيختفي، والمعنى أن هذه الإصابة التي ترتب عليها تخليص المؤمنين من الشوائب يترتب عليها أن يختفي عَلَم الكفر فلا يظهر، وتنقص قوتهم فلا ينتصرون من بعد، لأن العزائم قد تحفزت حذرة لمنازلتهم، فكانت الهزيمة سبيلا للنصر، وكان الجرح سبيلا لإعلاء كلمة الله تعالى.
هذه عبرة ساقها العزيز القدير لهزيمة المؤمنين يوم أحد، وقد نبه سبحانه إلى طريق الاستفادة من الهزيمة، بأن نخلص أنفسنا من شوائبها، ونمحص جماعتنا، فهل لنا أن نستفيد من ذلك؟! إن الله تعالى يداول بين الناس وقد دالت علينا الأزمان بما فعلنا وبما ظلمنا أنفسنا وباستخذائنا وضعفنا، وقد بدت البشائر بأن الدولة أوشكت أن تعود إلينا، اللهم أجعلنا ننتِفع بمواعظ القرآن، وهداية الرسول - ﷺ -: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٨٦).
* * *
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَمَا مُحَمَّدٌ

إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
* * *
هذه الآية موصولة بما قبلها؛ لأن موضوعهما واحد، إذ الكلام في أثر غزوة أحد في نفوس المؤمنين، ومداواة العزيز الحكيم لهذه النفوس بالعبر يسوقها، وسننه تعالى يبينها، وآياته في الآفاق والأنفس يكشفها، وقد بين سبحانه وتعالى في الآية السابقة مداولة الله سبحانه في الأمم بالنصر والهزيمة، وأن العاقبة للمتقين، وفي هذه الآيات يبين أن الجماعات تصقل بالمحن، والمجاهدين يتميزون عند وجود الشدائد، وأنه لَا تخلص النفوس وتطهر إلا بالاختبار الشديد، ولذا قال تعالى: