آيات من القرآن الكريم

وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ
ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ

كَلَامٌ عَامٌّ ثُمَّ قَوْلَهُ: وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ مخصوص بالمتقين، لأن الهدى اسم للدلالة بشرط كونها موصلة إلى البغية، ولا شك أن هذا المعنى لا يحصل إِلَّا فِي حَقِّ الْمُتَّقِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٩]
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)
اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي قَدَّمَهُ مِنْ قوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران: ١٣٧] وقوله: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ [آل عمران: ١٣٨] كَالْمُقَدَّمَةِ لِقَوْلِهِ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا كَأَنَّهُ قَالَ إِذَا بَحَثْتُمْ عَنْ أَحْوَالِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ عَلِمْتُمْ أَنَّ أَهْلَ الْبَاطِلِ وَإِنِ اتَّفَقَتْ لَهُمُ الصَّوْلَةُ، لَكِنْ كَانَ مَآلُ الْأَمْرِ إِلَى الضَّعْفِ وَالْفُتُورِ، وَصَارَتْ دَوْلَةُ أَهْلِ الْحَقِّ عَالِيَةً، وَصَوْلَةُ أَهْلِ الْبَاطِلِ مُنْدَرِسَةً، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَصِيرَ صَوْلَةُ الْكُفَّارِ عَلَيْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبَبًا لِضَعْفِ قَلْبِكُمْ وَلِجُبْنِكُمْ وَعَجْزِكُمْ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَقْوَى قَلْبُكُمْ فَإِنَّ الِاسْتِعْلَاءَ سَيَحْصُلُ لَكُمْ وَالْقُوَّةُ وَالدَّوْلَةُ رَاجِعَةٌ إِلَيْكُمْ.
ثُمَّ نَقُولُ قَوْلُهُ: وَلا تَهِنُوا أَيْ لَا تَضْعُفُوا عَنِ الْجِهَادِ، وَالْوَهْنُ الضَّعْفُ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مَرْيَمَ: ٤] وَقَوْلُهُ: وَلا تَحْزَنُوا أَيْ عَلَى مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ أَوْ جُرِحَ وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ حَالَكُمْ أَعْلَى مِنْ حَالِهِمْ فِي الْقَتْلِ لِأَنَّكُمْ أَصَبْتُمْ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ أَكْثَرَ مِمَّا أَصَابُوا مِنْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٥] أَوْ لِأَنَّ قِتَالَكُمْ لِلَّهِ وَقِتَالَهُمْ لِلشَّيْطَانِ، أَوْ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِلدِّينِ الْبَاطِلِ وَقِتَالَكُمْ لِلدِّينِ الْحَقِّ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَكُمْ أَعْلَى حَالًا مِنْهُمْ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ بِالْحُجَّةِ وَالتَّمَسُّكِ بِالدِّينِ وَالْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ مِنْ حَيْثُ أَنَّكُمْ فِي الْعَاقِبَةِ تَظْفَرُونَ بِهِمْ وَتَسْتَوْلُونَ عَلَيْهِمْ وَهَذَا شَدِيدُ الْمُنَاسَبَةِ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ الْقَوْمَ انْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْوَهْنِ فَهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى مَا يُفِيدُهُمْ قُوَّةً فِي الْقَلْبِ، وَفَرَحًا فِي النَّفْسِ، فَبَشَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ بَقِيتُمْ عَلَى إِيمَانِكُمْ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا تَكَفَّلَ بِإِعْلَاءِ دَرَجَتِهِمْ لِأَجْلِ تَمَسُّكِهِمْ بِدِينِ الْإِسْلَامِ. الثَّانِي:
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ فَكُونُوا مُصَدِّقِينَ لِهَذِهِ الْبِشَارَةِ إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ بِمَا يَعِدُكُمُ اللَّهُ وَيُبَشِّرُكُمْ بِهِ مِنَ الْغَلَبَةِ. وَالثَّالِثُ:
التَّقْدِيرُ: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ بِنُصْرَةِ هَذَا الدِّينِ، فَإِنْ كُنْتُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِمْتُمْ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لَا تَبْقَى بِحَالِهَا، وَأَنَّ الدَّوْلَةَ تَصِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْعَدُوِّ يَحْصُلُ لَهُمْ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٠ الى ١٤١]
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [آل عمران: ١٣٩] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي يُصِيبُهُمْ مِنَ الْقَرْحِ لَا يَجِبُ أَنْ يُزِيلَ جِدَّهُمْ وَاجْتِهَادَهُمْ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَمَا أَصَابَهُمْ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ عَدُوَّهُمْ مِثْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانُوا مَعَ بَاطِلِهِمْ، وَسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ لَمْ يَفْتُرُوا لِأَجْلِ ذَلِكَ فِي الْحَرْبِ، فَبِأَنْ لَا يَلْحَقَكُمُ الْفُتُورُ مَعَ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْحَقِّ أَوْلَى، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ قَرْحٌ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٢] وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْقَافِ فِيهِمَا وَاخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ: فَالْأَوَّلُ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ،

صفحة رقم 371

وَهُمَا لُغَتَانِ: كَالْجُهْدِ وَالْجَهْدِ، وَالْوُجْدِ وَالْوَجْدِ، وَالضُّعْفِ وَالضَّعْفِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَتْحَ لُغَةُ تِهَامَةَ وَالْحِجَازِ وَالضَّمَّ لُغَةُ نَجْدٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ وَبِالضَّمِّ اسْمٌ. وَالرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ الْجِرَاحَةُ بِعَيْنِهَا وَبِالضَّمِّ أَلَمُ الْجِرَاحَةِ. وَالْخَامِسُ: قَالَ ابْنُ مِقْسَمٍ: هُمَا لُغَتَانِ إِلَّا أَنَّ الْمَفْتُوحَةَ تُوِهِمُ أَنَّهَا جَمْعُ قُرْحَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ مَسَّهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٥] وَالثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ نَالَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِثْلُ ما نالكم من الجرح وَالْقَتْلِ، لِأَنَّهُ قُتِلَ مِنْهُمْ نَيِّفٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، وَقُتِلَ صَاحِبُ لِوَائِهِمْ وَالْجِرَاحَاتُ كَثُرَتْ فِيهِمْ وَعُقِرَ عَامَّةُ خَيْلِهِمْ بِالنَّبْلِ، وَقَدْ كَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَيْهِمْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ.
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ: قَرْحٌ مِثْلُهُ وَمَا كَانَ قَرْحُهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِثْلَ قَرْحِ الْمُشْرِكِينَ؟
قُلْنَا: يَجِبُ أَنَّ يُفَسَّرَ الْقَرْحُ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ بِمُجَرَّدِ الِانْهِزَامِ لَا بِكَثْرَةِ الْقَتْلَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تِلْكَ مبتدأ والْأَيَّامُ صفة ونُداوِلُها خَبَرُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: تِلْكَ الْأَيَّامُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ كَمَا تَقُولُ: هِيَ الْأَيَّامُ تُبْلِي كُلَّ جديد، فقوله: تِلْكَ الْأَيَّامُ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ أَيَّامِ الْوَقَائِعِ الْعَجِيبَةِ، فَبَيَّنَ أَنَّهَا دُوَلٌ تَكُونُ عَلَى الرَّجُلِ حِينًا وَلَهُ حِينًا وَالْحَرْبُ سِجَالٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: الْمُدَاوَلَةُ نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ، يُقَالُ: تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي إِذَا تَنَاقَلَتْهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ [الْحَشْرِ: ٧] أَيْ تَتَدَاوَلُونَهَا وَلَا تَجْعَلُونَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهَا نَصِيبًا، وَيُقَالُ: الدُّنْيَا دُوَلٌ، أَيْ تَنْتَقِلُ مِنْ قَوْمٍ إِلَى آخَرِينَ، ثُمَّ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَيُقَالُ: دَالَ لَهُ الدَّهْرُ بِكَذَا إِذَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَيَّامَ الدُّنْيَا هِيَ دُوَلٌ بَيْنَ النَّاسِ لَا يَدُومُ مَسَارُّهَا وَلَا مَضَارُّهَا، فَيَوْمٌ يَحْصُلُ فِيهِ السُّرُورُ لَهُ وَالْغَمُّ لِعَدُوِّهِ، وَيَوْمٌ آخَرُ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِهَا وَلَا يَسْتَقِرُّ أَثَرٌ مِنْ آثَارِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَارَةً يَنْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأُخْرَى يَنْصُرُ الْكَافِرِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ مَنْصِبٌ شَرِيفٌ وَإِعْزَازٌ عَظِيمٌ، فَلَا يَلِيقُ بِالْكَافِرِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ أَنَّهُ تَارَةً يُشَدِّدُ الْمِحْنَةَ عَلَى الْكُفَّارِ وَأُخْرَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْفَائِدَةُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَدَّدَ الْمِحْنَةَ عَلَى الْكُفَّارِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَأَزَالَهَا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ لَحَصَلَ الْعِلْمُ الِاضْطِرَارِيُّ بِأَنَّ الْإِيمَانَ حَقٌّ وَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ التَّكْلِيفُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فَلِهَذَا الْمَعْنَى تَارَةً يُسَلِّطُ اللَّهُ الْمِحْنَةَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَأُخْرَى عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ لِتَكُونَ الشُّبَهَاتُ بَاقِيَةً وَالْمُكَلَّفُ يَدْفَعُهَا بِوَاسِطَةِ النَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْإِسْلَامِ فَيَعْظُمُ ثَوَابُهُ عِنْدَ اللَّهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يُقْدِمُ عَلَى بَعْضِ الْمَعَاصِي، فَيَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ تَشْدِيدُ الْمِحْنَةِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَدَبًا لَهُ وَأَمَّا تَشْدِيدُ الْمِحْنَةِ عَلَى الْكَافِرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَضَبًا مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَآلَامَهَا غَيْرُ بَاقِيَةٍ وَأَحْوَالُهَا غَيْرُ مُسْتَمِرَّةٍ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ السَّعَادَاتُ الْمُسْتَمِرَّةُ فِي دَارِ الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى يُمِيتُ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ، وَيُسْقِمُ بَعْدَ الصِّحَّةِ، فَإِذَا حَسُنَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُبَدِّلَ السَّرَّاءَ بِالضَّرَّاءِ، وَالْقُدْرَةَ بِالْعَجْزِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ صَعِدَ الْجَبَلَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ أَيْنَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ أَيْنَ ابْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ عُمَرُ:
هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَهَا أَنَا عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمٍ وَالْأَيَّامُ دُوَلٌ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا سَوَاءَ، قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ كَمَا تَزْعُمُونَ، فَقَدْ خِبْنَا إِذَنْ وخسرنا.

صفحة رقم 372

وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فَفِيهِ مَسَائِلُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، إِمَّا بَعْدَهُ أَوْ قَبْلَهُ، أَمَّا الْإِضْمَارُ بَعْدَهُ فَعَلَى تَقْدِيرِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فَعَلْنَا هَذِهِ الْمُدَاوَلَةَ، وَأَمَّا الْإِضْمَارُ قَبْلَهُ فَعَلَى تَقْدِيرِ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ لِأُمُورٍ، مِنْهَا لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَمِنْهَا لِيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ، وَمِنْهَا لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَمِنْهَا لِيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، فَكُلُّ ذَلِكَ كَالسَّبَبِ وَالْعِلَّةِ فِي تِلْكَ الْمُدَاوَلَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا نَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَامِ: ٧٥] وَقَالَ تَعَالَى: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَامِ: ١١٣] وَالتَّقْدِيرُ:
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ لِيَكُونَ كَيْتَ وَكَيْتَ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ، وَإِنَّمَا حُذِفَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ لَيْسَتْ بِوَاحِدَةٍ، لِيُسَلِّيَهُمْ عَمَّا جَرَى، وَلِيُعَرِّفَهُمْ أَنَّ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ وَأَنَّ شَأْنَهُمْ فِيهَا، فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ مَا لَوْ عَرَفُوهُ لَسَرَّهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا فَعَلَ تِلْكَ الْمُدَاوَلَةَ لِيَكْتَسِبَ هَذَا الْعِلْمَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْإِشْكَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٢] وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: ٣] وَقَوْلُهُ: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً [الْكَهْفِ: ١٢] وَقَوْلُهُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [مُحَمَّدٍ: ٣١] وَقَوْلُهُ: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] وقوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: ٧، الملك: ٢] وَقَدِ احْتَجَّ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ إِلَّا عِنْدَ وُقُوعِهَا، فَقَالَ: كُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا صَارَ عَالِمًا بِحُدُوثِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ حُدُوثِهَا.
أَجَابَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَنْهُ بِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْحَوَادِثَ قَبْلَ وُقُوعِهَا، فَثَبَتَ أَنَّ التَّغْيِيرَ فِي الْعِلْمِ مُحَالٌ إِلَّا أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْعِلْمِ عَلَى الْمَعْلُومِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَقْدُورِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ، يُقَالُ: هَذَا عِلْمُ فُلَانٍ وَالْمُرَادُ مَعْلُومُهُ، وَهَذِهِ قُدْرَةُ فُلَانٍ وَالْمُرَادُ مَقْدُورُهُ، فَكُلُّ آيَةٍ يُشْعِرُ ظَاهِرُهَا بِتَجَدُّدِ الْعِلْمِ، فَالْمُرَادُ تَجَدُّدُ الْمَعْلُومِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَنَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لِيَظْهَرَ الْإِخْلَاصُ مِنَ النِّفَاقِ وَالْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ.
وَالثَّانِي: لِيَعْلَمَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، فَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ تَفْخِيمًا. وَثَالِثُهَا: لِيَحْكُمَ بِالِامْتِيَازِ، فَوَضَعَ الْعِلْمَ مَكَانَ الْحُكْمِ بِالِامْتِيَازِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالِامْتِيَازِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ. وَرَابِعُهَا: لِيَعْلَمَ ذَلِكَ وَاقِعًا مِنْهُمْ كَمَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقَعُ، لِأَنَّ الْمُجَازَاةَ تَقَعُ عَلَى الْوَاقِعِ دُونَ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْعِلْمُ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يُكْتَفَى فِيهِ بِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ، كَمَا يُقَالُ: عَلِمْتُ زَيْدًا، أَيْ عَلِمْتُ ذَاتَهُ وَعَرَفْتُهُ، وَقَدْ يَفْتَقِرُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَمَا يُقَالُ: عَلِمْتُ زَيْدًا كَرِيمًا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي، إِلَّا أَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مُتَمَيِّزِينَ بِالْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِهِمْ، أَيِ الْحِكْمَةُ فِي هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ أَنْ يَصِيرَ الَّذِينَ آمَنُوا مُتَمَيِّزِينَ عَمَّنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ هَاهُنَا مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، بِمَعْنَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ، وَالْمَعْنَى وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا يَظْهَرُ مِنْ صَبْرِهِمْ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ، أَيْ لِيَعْرِفَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ إِلَّا أَنَّ سَبَبَ حُدُوثِ هَذَا الْعِلْمِ، وَهُوَ ظُهُورُ الصَّبْرِ حُذِفَ هَاهُنَا.

صفحة رقم 373

أَمَّا قَوْلُهُ: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ فَالْمُرَادُ مِنْهُ ذِكْرُ الْحِكْمَةِ الثَّانِيَةِ فِي تِلْكَ الْمُدَاوَلَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: يَتَّخِذُ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ بِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَنِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، فَإِنَّ كَوْنَهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ مَنْصِبٌ عَالٍ وَدَرَجَةٌ عَالِيَةٌ. وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ وَلِيُكْرِمَ قَوْمًا بِالشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَاتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ يَوْمٌ كَيَوْمِ بَدْرٍ يُقَاتِلُونَ فِيهِ الْعَدُوَّ وَيَلْتَمِسُونَ فِيهِ الشَّهَادَةَ، وَأَيْضًا الْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ تَعْظِيمِ حَالِ الشُّهَدَاءِ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٩] وَقَالَ: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ [الزُّمَرِ:
٦٩] وَقَالَ: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النِّسَاءِ: ٦٩] فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ هِيَ الْمَنْزِلَةُ الثَّالِثَةُ لِلنُّبُوَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْفَوَائِدِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ تِلْكَ الْمُدَاوَلَةِ حُصُولُ هَذَا الْمَنْصِبِ الْعَظِيمِ لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا: مَنْصِبُ الشَّهَادَةِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ، فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا بِدُونِ تَسْلِيطِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَبْقَ لِحُسْنِ التَّعْلِيلِ وَجْهٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَتْلُ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ لَوَازِمِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ، فَإِذَا كَانَ تَحْصِيلُ تِلْكَ الشَّهَادَةِ لِلْعَبْدِ مَطْلُوبًا لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَتْلُ مَطْلُوبًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ مَا بِهِ حَصَلَتْ تِلْكَ الشَّهَادَةُ هُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشُّهَدَاءُ جَمْعُ شَهِيدٍ كَالْكُرَمَاءِ وَالظُّرَفَاءِ، وَالْمَقْتُولُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِسَيْفِ الكفار شهيداً، وَفِي تَعْلِيلِ هَذَا الِاسْمِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الشُّهَدَاءُ أَحْيَاءُ لِقَوْلِهِ: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٩] فَأَرْوَاحُهُمْ حَيَّةٌ وَقَدْ حَضَرَتْ دَارَ السَّلَامِ، وَأَرْوَاحُ غَيْرِهِمْ لَا تَشْهَدُهَا، الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَمَلَائِكَتَهُ شَهِدُوا لَهُ بِالْجَنَّةِ، فَالشَّهِيدُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، الثَّالِثُ: سُمُّوا شُهَدَاءَ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ/ عَلَى النَّاسِ [الْبَقَرَةِ:
١٤٣] الرَّابِعُ: سُمُّوا شُهَدَاءَ لِأَنَّهُمْ كَمَا قُتِلُوا أُدْخِلُوا الْجَنَّةَ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْكُفَّارَ كَمَا مَاتُوا أُدْخِلُوا النَّارَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:
أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نُوحٍ: ٢٥] فَكَذَا هَاهُنَا يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا مَاتُوا دَخَلُوا الْجَنَّةَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَيِ الْمُشْرِكِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: ١٣] وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ بَعْضِ التَّعْلِيلِ وَبَعْضٍ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ مَنْ لَا يَكُونُ ثَابِتًا عَلَى الْإِيمَانِ صَابِرًا عَلَى الْجِهَادِ. الثَّانِي: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُؤَيِّدُ الْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِمَا ذَكَرَ مِنَ الْفَوَائِدِ، لَا لِأَنَّهُ يُحِبُّهُمْ.
ثُمَّ قَالَ: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ لِيُطَهِّرَهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَيُزِيلَهَا عَنْهُمْ، وَالْمَحْصُ فِي اللُّغَةِ التَّنْقِيَةُ، وَالْمَحْقُ فِي اللُّغَةِ النُّقْصَانُ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: هُوَ أَنْ يَذْهَبَ الشَّيْءُ كُلُّهُ حَتَّى لَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا [الْبَقَرَةِ: ٢٧٦] أَيْ يَسْتَأْصِلُهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْأَيَّامَ مُدَاوَلَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَإِنْ حَصَلَتِ الْغَلَبَةُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانَ الْمُرَادُ تَمْحِيصَ ذُنُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ كَانَ الْمُرَادُ مَحْقَ آثَارِ الْكَافِرِينَ وَمَحْوَهُمْ، فَقَابَلَ تَمْحِيصَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَحْقِ الْكَافِرِينَ، لِأَنَّ تَمْحِيصَ هَؤُلَاءِ بِإِهْلَاكِ ذُنُوبِهِمْ نَظِيرُ مَحْقِ أُولَئِكَ بِإِهْلَاكِ أنفسهم، وهذه

صفحة رقم 374
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية