
وَالْأَهْلُ: الزَّوْجُ. وَالْكَلَامُ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ غَدَوْتَ أَيْ مِنْ بَيْتِ أَهْلِكَ وَهُوَ بَيْتُ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-.
وتُبَوِّئُ تَجْعَلُ مَبَاءً أَيْ مَكَانَ بَوْءٍ.
وَالْبَوْءُ: الرُّجُوعُ، وَهُوَ هُنَا الْمَقَرُّ لِأَنَّهُ يَبُوءُ إِلَيْهِ صَاحِبُهُ. وَانْتَصَبَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِ (تُبَوِّئُ)، ومقاعد مَفْعُولٌ ثَانٍ إِجْرَاء لفعل تبوّىء مَجْرَى تُعْطِي. وَالْمَقَاعِدُ جَمْعُ مَقْعَدٍ. وَهُوَ مَكَانُ الْقُعُودِ أَيِ الْجُلُوسِ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْقُعُودُ ضِدُّ الْوُقُوفِ وَالْقِيَامِ، وَإِضَافَةُ مقاعد لاسم لِلْقِتالِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَى الْمَوَاضِعِ اللَّائِقَةِ بِالْقِتَالِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا الْجَيْشُ وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهَا لِأَنَّهَا لَائِقَةٌ بِحَرَكَاتِهِ، فَأَطْلَقَ الْمَقَاعِدَ هُنَا عَلَى مَوَاضِعِ الْقَرَارِ كِنَايَةً، أَوْ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ حَتَّى سَاوَى الْمَقَرَّ وَالْمَكَانَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ [الْقَمَر: ٥٥].
وَاعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ مَقَاعِدَ جَرَى فِيهَا عَلَى الشَّرِيفِ الرَّضِيِّ نَقْدٌ إِذْ قَالَ فِي رِثَاءِ أبي إِسْحَاق الصابىء:
أَعْزِزْ عَلَيَّ بِأَنْ أَرَاكَ وَقَدْ خَلَا | عَنْ جَانِبَيْكَ مَقَاعِدُ الْعُوَّادِ |
[١٢٣، ١٢٥]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٢٣ إِلَى ١٢٥]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ صفحة رقم 71

(١٢٥)
إِذْ قَدْ كَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ لَمْ تَنْكَشِفْ عَنْ نَصْرِ الْمُسْلِمِينَ، عَقَّبَ اللَّهُ ذِكْرَهَا بِأَنْ ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى نَصْرَهُ إِيَّاهُمُ النَّصْرَ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ نَصْرٌ عَظِيمٌ إِذْ كَانَ نَصْرَ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ عَلَى جَيْشٍ كَثِيرٍ، ذِي عُدَدٍ وَافِرَةٍ، وَكَانَ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ سادة قُرَيْش، وأئمّة الشِّرْكِ، وَحَسْبُكَ بِأَبِي جَهْلِ بن هِشَامٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أَيْ ضُعَفَاءُ.
وَالذُّلُّ ضِدُّ الْعِزِّ فَهُوَ الْوَهَنُ وَالضَّعْفُ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ انْهِزَامَ يَوْمِ أُحُدٍ لَا يَفِلُّ حِدَّةَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ صَارُوا أَعِزَّةً. وَالْحَرْبُ سِجَالٌ.
وَقَوْلُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ
وَمُتَعَلِّقِ فِعْلِهَا أَعْنِي إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ وَالْفَاءُ تَقَعُ فِي الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ.. فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَّرَهُمْ بِتِلْكَ الْمِنَّةِ الْعَظِيمَةِ ذَكَّرَهُمْ بِأَنَّهَا سَبَبٌ لِلشُّكْرِ فَأَمَرَهُمْ بِالشُّكْرِ بِمُلَازَمَةِ التَّقْوَى تَأَدُّبًا بِنِسْبَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إِبْرَاهِيم: ٧٠].
وَمِنَ الشُّكْرِ عَلَى ذَلِكَ النَّصْرِ أَنْ يَثْبُتُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، وَامْتِثَالُ أَمْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ لَا تَفُلَّ حِدَّتَهُمْ هَزِيمَةُ يَوْمِ أُحُدٍ.
وَظَرْفُ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ زَمَانِيٌّ وَهُوَ متعلّق «بنصركم» لِأَنَّ الْوَعْدَ بِنَصْرِهِ الْمَلَائِكَةَ وَالْمُؤْمِنِينَ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ لَا يَوْمَ أُحُدٍ. هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَخُصَّ هَذَا الْوَقْتُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ كَانَ وَقْتَ ظُهُورِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ، وَهَذِهِ النِّعْمَةِ، فَكَانَ جَدِيرًا بِالتَّذْكِيرِ وَالِامْتِنَانِ.
وَالْمَعْنَى: إِذْ تَعِدُ الْمُؤْمِنِينَ بِإِمْدَادِ اللَّهِ بِالْمَلَائِكَةِ، فَمَا كَانَ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ تِلْكَ الْمَقَالَةَ إِلَّا بِوَعْدٍ أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَقُولَهُ.

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ تَقْرِيرِيٌّ، وَالتَّقْرِيرِيُّ يَكْثُرُ أَنْ يُورَدَ عَلَى النَّفْيِ، كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٣].
وَإِنَّمَا جِيءَ فِي النَّفْيِ بِحَرْفِ لَنْ الَّذِي يُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ لِقِلَّتِهِمْ، وَضَعْفِهِمْ، مَعَ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، وَشَوْكَتِهِ، كَالْآيِسِينَ مِنْ كِفَايَةِ هَذَا الْمَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَأَوْقَعَ الِاسْتِفْهَامَ التَّقْرِيرِيَّ عَلَى ذَلِكَ لِيَكُونَ تَلْقِينًا لِمَنْ يُخَالِجُ نَفْسَهُ الْيَأْسُ مِنْ كِفَايَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، بِأَنْ يُصَرِّحَ بِمَا فِي نَفْسِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ لَازِمُهُ، وَهَذَا إِثْبَاتُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَدَدَ كَافٍ.
وَلِأَجْلِ كَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ كَانَ جَوَابُهُ مِنْ قِبَلِ السَّائِلِ بِقَوْلِهِ: بَلى لِأَنَّهُ مِمَّا لَا تَسَعُ الْمُمَارَاةُ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٩]، فَكَانَ (بَلَى) إِبْطَالًا لِلنَّفْيِ، وَإِثْبَاتًا لِكَوْنِ ذَلِكَ الْعَدَدِ كَافِيًا، وَهُوَ مِنْ تَمَامِ مَقَالَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَقَدْ جَاءَ- فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٩]- عِنْدَ ذِكْرِهِ وَقْعَةَ بَدْرٍ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِمَدَدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَدَدُهُ أَلْفٌ بِقَوْلِهِ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ
الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ
وَذَكَرَ هُنَا أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ ثُمَّ صَيَّرَهُمْ إِلَى خَمْسَةِ آلَافٍ.
وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ الله وعدهم بِثَلَاثَة آلَاف ثمّ صيّرهم إِلَى خَمْسَة آلَاف. وَوجه الْجمع بَين الْآيَتَيْنِ أنّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأَطْمَعَهُمْ بِالزِّيَادَةِ بقوله: مُرْدِفِينَ [الْأَنْفَال: ٩] أَيْ مُرْدَفِينَ بِعَدَدٍ آخَرَ، وَدَلَّ كَلَامُهُ هُنَا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا وَجِلِينَ مِنْ كَثْرَةِ عَدَدِ الْعَدُوِّ،
فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ»
أَرَادَ اللَّهُ بِذَلِكَ زِيَادَةَ تَثْبِيتِهِمْ ثُمَّ زَادَهُمْ أَلْفَيْنِ إِنْ صَبَرُوا وَاتَّقَوْا. وَبِهَذَا الْوَجْهِ فَسَرَّ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ نَزَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ لِنُصْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَشَاهَدَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ طَائِفَةً مِنْهُمْ، وَبَعْضُهُمْ شَهِدَ آثَارَ قَتْلِهِمْ رِجَالًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

وَوَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِـ (مُنْزَلِينَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ يَنْزِلُونَ إِلَى الْأَرْضِ فِي مَوْقِعِ الْقِتَالِ عِنَايَةً بِالْمُسْلِمِينَ قَالَ تَعَالَى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ [الْحجر: ٨].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُنْزَلِينَ- بِسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيف الزَّاي- وقرأه ابْن عَامر- بِفَتْح النّون وَتَشْديد الزَّايِ-. وَأَنْزَلَ وَنَزَّلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
فَالضَّمِيرَانِ: الْمَرْفُوعُ وَالْمَجْرُورُ، فِي قَوْلِهِ: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ عَائِدَانِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ جَرَى الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَى هَذَا حَمَلَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وَعَلَيْهِ فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَيَأْتُوكُمْ مَوْقِعُ وَعْدٍ، فَهُوَ الْمَعْنَى مَعْطُوفٌ عَلَى يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَرِدَ بَعْدَهُ، وَلَكِنَّهُ قُدِّمَ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، تَعْجِيلًا لِلطُّمَأْنِينَةِ إِلَى نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ تَقْدِيمُهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ التَّقْدِيمُ فِي عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ كَمَا فِي قَوْلِ صَنَّانِ بْنِ عَبَّادٍ الْيَشْكُرِيِّ:
ثُمَّ اشْتَكَيْتُ لْأَشْكَانِي وَسَاكِنُهُ | قَبْرٌ بِسِنْجَارَ أَوْ قَبْرٌ عَلَى قَهَدِ |
مَرَرْتُ وَزَيْدٌ بِعَمْرٍو، لَمْ يَجُزْ مِنْ جِهَةِ أَنَّكَ لَمْ تُقَدِّمِ الْعَامِلَ، وَهُوَ الْبَاءُ، عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ. وَمِنْ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ بِهِ قَوْلُ زَيْدٍ:
جَمَعْتَ وَعَيْبًا غِيبَةً وَنَمِيمَةً | ثَلَاثَ خِصَالٍ لَسْتَ عَنْهَا بِمُرْعَوِي |
لَعَنَ الْإِلَهُ وَزَوْجَهَا مَعَهَا | هِنْدَ الْهُنُودِ طَوِيلَةَ الْفِعْلِ |