رَبَّنَا إِنَّكَ. كَرَّرَ الدُّعَاءَ تَنْبِيهًا عَلَى مُلَازَمَتِهِ، وَتَحْذِيرًا مِنَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ الِافْتِقَارِ.
وَالتَّقْدِيِمُ وَالتَّأْخِيرُ، وَذَلِكَ فِي ذِكْرِ إِنْزَالِ الْكُتُبِ، لَمْ يَجِيءِ الْإِخْبَارُ عَنْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الزَّمَانِ، إِذِ التَّوْرَاةُ أَوَّلًا، ثُمَّ الزَّبُورُ، ثُمَّ الْإِنْجِيلُ، ثُمَّ الْقُرْآنُ. وَقُدِّمَ الْقُرْآنُ لِشَرَفِهِ، وَعِظَمِ ثَوَابِهِ وَنَسْخِهِ لِمَا تَقَدَّمَ، وَبَقَائِهِ، وَاسْتِمْرَارِ حُكْمِهِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ. وَثَنَى بِالتَّوْرَاةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْكَثِيرَةِ، وَالْقَصَصِ، وَخَفَايَا الِاسْتِنْبَاطِ.
وروى... «١» : أَنَّ التَّوْرَاةَ حِينَ نَزَلَتْ كَانَتْ سَبْعِينَ وَسْقًا، ثُمَّ ثَلَّثَ بِالْإِنْجِيلِ
، لِأَنَّهُ كِتَابٌ فِيهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ مَا لَا يُحْصَى، ثُمَّ تَلَاهُ بِالزَّبُورِ لِأَنَّ فِيهِ مَوَاعِظَ وَحِكَمًا لَمْ تَبْلُغْ مَبْلَغَ الْإِنْجِيلِ، وَهَذَا إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ الزَّبُورُ، وَفِي قَوْلِهِ: فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ قَدَّمَ الْأَرْضَ عَلَى السَّمَاءِ وَإِنْ كَانَتِ السَّمَاءُ أَكْثَرَ فِي الْعَوَالِمِ، وَأَكْبَرَ فِي الْأَجْرَامِ، وَأَكْبَرَ فِي الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ، وَأَجْزَلَ فِي الْفَضَائِلِ لِطَهَارَةِ سُكَّانِهَا، بِخِلَافِ سُكَّانِ الْأَرْضِ، لِيُعْلِمَهُمُ، اطِّلَاعَهُ عَلَى خَفَايَا أُمُورِهِمْ، فَاهْتَمَّ بِتَقْدِيمِ مَحَلِّهِمْ عَسَى أَنْ يَزْدَجِرُوا عَنْ قَبِيحِ أَفْعَالِهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا أَنْبَهَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ، اسْتَحْيَا مِنْهُ.
وَالِالْتِفَاتُ رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ وَفِي قَوْلِهِ: كَذَّبُوا بِآياتِنا ثُمَّ قَالَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ.
وَالتَّأْكِيدُ: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ فَأَكَّدَ بِلَفْظَةِ: هُمْ، وَأَكَّدَ بِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ قَوْلَهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَكَّدَ بِقَوْلِهِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ قَوْلَهُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ.
وَالتَّوَسُّعُ بِإِقَامَةِ الْمَصْدَرِ مَقَامَ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: هُدًى، وَالْفَرْقَانِ، أَيْ: هَادِيًا، وَالْفَارِقُ. وَبِإِقَامَةِ الْحَرْفِ مَقَامَ الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ، أَيْ: عِنْدَ اللَّهِ، عَلَى قَوْلِ مَنْ أَوَّلَ: مِنْ، بِمَعْنَى: عِنْدَ.
وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ فِي قَوْلِهِ: وَهَبْ، وَالْوَهَّابُ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢ الى ١٤]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)
الْعِبْرَةُ: الِاتِّعَاظُ يُقَالُ: مِنْهُ اعْتَبَرَ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِشَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ يُشْبِهُهُ، وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الْعُبُورِ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ، وَمِنْهُ: عِبْرُ النَّهْرِ، وَهُوَ شَطُّهُ، وَالْمِعْبَرُ:
السَّفِينَةُ، وَالْعِبَارَةُ يُعَبِّرُ بِهَا إِلَى الْمُخَاطَبِ بِالْمَعَانِي، وَعَبَرْتَ الرُّؤْيَا مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا: نَقَلْتَ مَا عِنْدَكَ مِنْ عِلْمِهَا إِلَى الرَّائِي أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَجْهَلُ: وَكَانَ الِاعْتِبَارُ انْتِقَالًا عَنْ مَنْزِلَةِ الْجَهْلِ إِلَى مَنْزِلَةِ الْعِلْمِ، وَمِنْهُ، الْعَبْرَةُ، وَهِيَ الدَّمْعُ، لِأَنَّهَا تُجَاوِزُ الْعَيْنَ.
الشَّهْوَةُ: مَا تَدْعُوَ النَّفْسُ إِلَيْهِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ: اشْتَهَى، وَيُجْمَعُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ فَيُقَالُ:
شَهَوَاتٍ، وَوَجَدْتُ أَنَا فِي شِعْرِ الْعَرَبِ جَمْعَهَا عَلَى: شُهًى، نحو: نزوة ونزى، و: كوة وَكُوًى، عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ: كُوًى، جَمْعُ كَوَّةٍ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَهَذَا مَعَ: قَرْيَةٍ وَقُرًى، ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ مِمَّا جَاءَ عَلَى وَزْنِ فَعْلَةٍ مُعْتَلِّ اللَّامِ، وَجُمِعَ عَلَى فُعَلٍ، وَاسْتَدْرَكْتُ أَنَا: شُهًى، وَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي نَضْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ:
فَلَوْلَا الشُّهَى وَاللَّهِ كُنْتُ جَدِيرَةً | بِأَنْ أَتْرُكَ اللَّذَّاتِ فِي كُلِّ مَشْهَدِ |
أَصْلٌ وَوَزْنُ فعلال، وفيه خِلَافٌ: أَهْوَ وَاقِعٌ عَلَى عَدَدٍ مَخْصُوصٍ؟ أَمْ هُوَ وَزْنٌ لَا يُحَدُّ وَلَا يُحْصَرُ؟ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ عَدَدٌ مَخْصُوصٌ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ، وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَيُقَالُ مِنْهُ: قَنْطَرَ الرجل إِذَا كَانَ عِنْدَهُ قَنَاطِيرُ، أَوْ قِنْطَارٌ مِنَ الْمَالِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ: قَنْطَرْتُ الشَّيْءَ، عَقَدْتُهُ وَأَحْكَمْتُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْقَنْطَرَةَ لِإِحْكَامِهَا. وَقِيلَ:
قَنْطَرْتُهُ: عَبَّيْتُهُ شَيْئًا عَلَى شَيْءٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْقَنْطَرَةَ. فَشَبِهَ الْمَالَ الْكَثِيرَ الَّذِي يُعَبَّى بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بِالْقَنْطَرَةِ. صفحة رقم 42
الذَّهَبُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مُؤَنَّثٌ يُجْمَعُ عَلَى ذِهَابٍ وَذُهُوبٍ. وقيل: الذهب جمع ذهبية.
وَالْفِضَّةُ: مَعْرُوفَةٌ، وَجَمْعُهَا فِضَضٌ، فَالذَّهَبُ مُشْتَقٌّ مِنَ الذَّهَابِ، وَالْفِضَّةُ مِنِ انْفَضَّ الشَّيْءُ: تَفَرَّقَ، وَمِنْهُ: فَضَضْتُ الْقَوْمَ.
الْخَيْلُ: جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، بَلْ وَاحِدُهُ: فَرَسٌ. وَقِيلَ: وَاحِدُهُ خَايِلٌ، كَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاخْتِيَالِهَا فِي مَشْيِهَا. وَقِيلَ: اشْتِقَاقُهُ مِنَ التَّخَيُّلِ، لِأَنَّهُ يُتَخَيَّلُ فِي صُورَةِ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَقِيلَ: الِاخْتِيَالُ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّخَيُّلِ.
النَّعَمُ: الْإِبِلُ فَقَطْ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ مُذَكَّرٌ وَلَا يُؤَنَّثُ، يَقُولُونَ هَذَا نَعَمٌ وَارِدٌ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: النَّعَمُ، يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَإِذَا جُمِعَ انْطَلَقَ عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ:
الْأَنْعَامُ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَاحِدُهَا نَعَمٌ، وَهُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِنُعُومَةِ مَسِّهَا وَهُوَ لِينُهَا، وَمِنْهُ: النَّاعِمُ، وَالنَّعَامَةُ، وَالنَّعَامِيُّ: الْجَنُوبُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِلِينِ هُبُوبِهَا.
الْمَآبُ: مَفْعَلٌ مِنْ آبَ يؤوب إِيَابًا. أَيْ: رَجَعَ، يَكُونُ لِلْمَصْدَرِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ.
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ يَهُودَ بَنِي قَيْنُقَاعَ قَالُوا بَعْدَ وَقْعَةِ بِدْرٍ: إِنَّ قُرَيْشًا كَانُوا أَغْمَارًا، وَلَوْ حَارَبْتَنَا لَرَأَيْتَ رِجَالًا.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ قَبْلَ بَدْرٍ بِسَنَتَيْنِ، فَحَقَّقَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَمَّا غَلَبَ قُرَيْشًا بِبَدْرٍ، قَالَتِ الْيَهُودُ: هُوَ النَّبِيُّ الْمَبْعُوثُ الَّذِي فِي كِتَابِنَا، لَا تُهْزَمُ لَهُ رَايَةٌ. فَقَالَتْ لَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ:
لَا تَعْجَلُوا حَتَّى نَرَى أَمْرَهُ فِي وَقْعَةٍ أُخْرَى. فَلَمَّا كَانَتْ أُحُدٌ كَفَرُوا جَمِيعُهُمْ، وَقَالُوا: لَيْسَ بِالنَّبِيِّ الْمَنْصُورِ.
وَقِيلَ: فِي أَبِي سُفْيَانَ وَقَوْمِهِ، جَمَعُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ بَدْرٍ، فَنَزَلَتْ. وَلَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى قيل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ وَأَنَّهُمْ وَقُودُ النَّارِ «١» نَاسَبَ ذَلِكَ الْوَعْدُ الصَّادِقُ اتِّبَاعَهُ هَذَا الْوَعْدَ الصَّادِقَ، وَهُوَ كَالتَّوْكِيدِ لِمَا قَبْلَهُ، فَالْغَلَبَةُ تَحْصُلُ بِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَالْحَشْرُ لِجَهَنَّمَ مَبْدَأُ كَوْنِهِمْ يَكُونُونَ لَهَا وَقُودًا.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: سَيَغْلَبُونَ وَيَحْشَرُونَ، بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ:
بِالتَّاءِ، خِطَابًا، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مَعْمُولًا لِلْقَوْلِ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ: لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ إِذْ ذَاكَ لَيْسَتْ مَحْكِيَّةً بِقُلْ، بَلْ مَحْكِيَّةٌ بِقَوْلٍ آخَرَ، التَّقْدِيرُ: قُلْ لَهُمْ قَوْلِي سَيُغْلَبُونَ، وَإِخْبَارِي أَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِمُ الْغَلَبَةُ وَالْهَزِيمَةُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ «١» فَبِالتَّاءِ أَخْبَرَهُمْ بِمَعْنَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّهُمْ سَيُغْلَبُونَ، وَبِالْيَاءِ أَخْبَرَهُمْ بِاللَّفْظِ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ أَنَّهُمْ سَيُغْلَبُونَ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ:
الْفَرَّاءُ، وَأَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، وَأَوْرَدَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، احْتِمَالًا أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي: سَيُغْلَبُونَ، فِي قِرَاءَةِ التَّاءِ عَلَى قُرَيْشٍ، أَيْ: قُلْ لِلْيَهُودِ سَتُغْلَبُ قُرَيْشٌ، وَفِيهِ بُعْدٌ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ: الَّذِينَ كَفَرُوا، يَعُمُّ الْفَرِيقَيْنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودَ، وَكُلٌّ قَدْ غُلِبَ بِالسَّيْفِ، وَالْجِزْيَةِ، وَالذِّلَّةِ، وَظُهُورِ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ، وَإِلَى مَعْنَاهَا الْغَايَةُ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ مُنْتَهَى حَشْرِهِمْ، وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ: إِلَى، فِي مَعْنَى: فِي، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّهُمْ يُجْمَعُونَ فِي جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ كَلَامٍ مِنْهُ تَعَالَى، قَالَهُ الرَّاغِبُ وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ:
وَبِئْسَ الْمِهَادُ جَهَنَّمُ. وَكَثِيرًا مَا يُحْذَفُ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ:
أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ الَّتِي قَبِلَهُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، إِذْ لَوْ كَانَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ لَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ حَذْفُ الْجُمْلَةِ بِرَأْسِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْقَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ حَذْفَ الْمُفْرَدِ أَسْهَلُ مِنْ حَذْفِ الْجُمْلَةِ. وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ: الْمِهَادُ، مَا مَهَّدُوا لِأَنْفُسِهِمْ، أَيْ: بِئْسَمَا مَهَّدُوا لِأَنْفُسِهِمْ، وكان المعنى عنده، و: بئس فِعْلُهُمُ الَّذِي أَدَّاهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ، فَفِيهِ بُعْدٌ، وَيُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ.
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا قَالَ فِي (رَيِّ الظَّمْآنِ) : أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا وَقْعَةُ بَدْرٍ، وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ. فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ تَثْبِيتُ النُّفُوسِ وَتَشْجِيعُهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ أَنْ يَقُولَ لِلْكُفَّارِ مَا قَالَ، أَمْكَنَ أَنْ يَسْتَبْعِدَ ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ وَبَعْضُ ضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: يَعِدُنَا مُحَمَّدٌ أَمْوَالَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَنَحْنُ نَأْمَنُ عَلَى النِّسَاءِ فِي الْمَذْهَبِ، وَكَمَا قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، حِينَ أَخْبَرَهُ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْأَمْنَةِ الَّتِي تَأْتِي، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: فَأَيْنَ ذعار طيء الَّذِينَ سَعَّرُوا الْبِلَادَ؟
الْحَدِيثَ بكماله.
وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْكَافِرِينَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: سَتُغْلَبُونَ، بِالتَّاءِ. وَيُخَرَّجُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ تَخْوِيفًا لَهُمْ، وَإِعْلَامًا بِأَنَّ اللَّهَ سَيَنْصُرُ دِينَهُ. وَقَدْ أَرَاكُمْ فِي ذَلِكَ مِثَالًا بِمَا جَرَى لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ مِنَ الْخِذْلَانِ وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ.
وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ تَخْوِيفًا لَهُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَغْتَرُّوا بِدُرْبَتِكُمْ فِي الْحَرْبِ، وَمَنَعَةِ حُصُونِكُمْ، وَمُجَالَبَتِكُمْ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَإِنَّ اللَّهَ غَالِبُكُمْ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا حَلَّ بِأَهْلِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُلْحِقِ التَّاءَ: كَانَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أُسْنِدَ إِلَى مُؤَنَّثٍ، وَهُوَ الْآيَةُ، لِأَجْلٍ أَنَّهُ تَأْنِيثٌ مَجَازِيٌّ. وَازْدَادَ حُسْنًا بِالْفَصْلِ، وَإِذَا كَانَ الْفَصْلُ مُحَسَّنًا فِي الْمُؤَنَّثِ الْحَقِيقِيِّ، فَهُوَ أَوْلَى فِي الْمُؤَنَّثِ الْمَجَازِيِّ، وَمِنْ كَلَامِهِمْ: حَضَرَ الْقَاضِي امْرَأَةً. وَقَالَ:
إِنَّ امْرَأً غَرَّهُ مِنْكُنَّ وَاحِدَةٌ | بَعْدِي وَبَعْدَكِ فِي الدُّنْيَا لَمَغْرُورُ |
بَرَهْرَهَةٌ رودة رَخْصَةٌ | كَخُرْعُوبَةِ الْبَانَةِ الْمُنْفَطِرْ |
فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ أَيْ: فِئَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِئَةٌ أُخْرَى تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ، فَحَذَفَ مِنَ الْأُولَى ما أثبتت مُقَابِلَهُ فِي الثَّانِيَةِ، وَمِنَ الثَّانِيَةِ مَا أَثْبَتَ نَظِيرَهُ فِي الْأُولَى، فَذَكَرَ فِي الْأُولَى لَازِمَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَذَكَرَ فِي الثَّانِيَةِ مَلْزُومَ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ، وَهُوَ الْكُفْرُ.
وَالْجُمْهُورُ بِرَفْعِ: فِئَةٌ، عَلَى الْقَطْعِ، التَّقْدِيرُ: إِحْدَاهُمَا، فَيَكُونُ: فِئَةٌ، عَلَى هَذَا خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوِ التَّقْدِيرُ: مِنْهُمَا، فَيَكُونُ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ.
وَقِيلَ: الرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْتَقَتَا.
وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ وَحُمَيْدٌ: فِئَةٍ، بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ التَّفْصِيلِيِّ، وَهُوَ بَدَلُ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، كَمَا قَالَ:
وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنٍ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ | وَرِجْلٍ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشُلَّتِ |
رَأَى النَّاسُ إِلَّا مَنْ رَأَى مِثْلَ رَأْيِهِ | خَوَارِجَ تَرَّاكِينَ قَصْدَ الْمَخَارِجِ |
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: أَوْقَعَ الْفَرَّاءُ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَمْثَالِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَتَوَهَّمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا يَرَوْنَهُمْ إِلَّا عَلَى عِدَّتِهِمْ، وَهَذَا بَعِيدٌ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَرَاهُمُ اللَّهُ عَلَى غَيْرِ عِدَّتِهِمْ بِجِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ رَأَى الصَّلَاحَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَقْوَى قُلُوبُهُمْ بِذَلِكَ. وَالْأُخْرَى: أَنَّهُ آيَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَيْسَانَ.
وَتَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ جَمِيعَ الْكُفَّارِ بِبَدْرٍ كَانُوا نَحْوَ الْأَلْفِ أَوْ تِسْعِمِائَةٍ، وَالْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ. وَقِيلَ: وَثَلَاثَةَ عَشْرَةَ، لَكِنْ رَجَعَ بَنُو زُهْرَةَ مَعَ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، وَرَجَعَ طَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَتْبَاعٌ، وَنَاسٌ كَثِيرٌ حَتَّى بَقِيَ لِلْقِتَالِ مَنْ يَقْرُبُ مِنَ الثُّلُثَيْنِ، فَذَكَرَ اللَّهُ الْمِثْلَيْنِ، إِذْ أَمْرُهُمَا مُتَيَقَّنٌ لَمْ يَدْفَعْهُ أَحَدٌ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا فِي قِتَالِ بَدْرٍ سِتَّمِائَةٍ وَسِتَّةً وَعِشْرِينَ، وَقَدْ ذَهَبَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا نَحْوَ الْأَلْفِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَوْمَ بَدْرٍ الْقَوْمُ أَلْفٌ». وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَظَرْنَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَرَأَيْنَاهُمْ يَضْعُفُونَ عَلَيْنَا، ثُمَّ نَظَرْنَا إِلَيْهِمْ فَمَا رَأَيْنَاهُمْ يَزِيدُونَ عَلَيْنَا رَجُلًا وَاحِدًا.
وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: لَقَدْ قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِنَا حَتَّى لَقَدْ قُلْتُ لِرَجُلٍ إِلَى جَانِبِي تَرَاهُمْ سَبْعِينَ؟ قَالَ:
أَرَاهُمْ مِائَةً. فَأَسَرْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا فَقُلْنَا: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَلْفًا. وَنُقِلَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أُسِرُوا، قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالُوا: كُنَّا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشْرَةَ، قَالُوا: مَا كُنَّا نَرَاكُمْ إِلَّا تَضْعُفُونَ عَلَيْنَا! وَتَكْثِيرُ كُلِّ طَائِفَةٍ فِي عَيْنِ الْأُخْرَى، وَتَقْلِيلُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَقْتَيْنِ جَائِزٌ، فَلَا يَمْتَنِعُ.
وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ: يُقَوِّيهِ بِعَوْنِهِ. وَقِيلَ: النَّصْرُ الْحُجَّةُ. وَنِسْبَةُ التَّأْيِيدِ إِلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤَيَّدَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَمَفْعُولُ: مَنْ يَشَاءُ، مَحْذُوفٌ أَيْ: مَنْ يَشَاءُ نَصْرَهُ. صفحة رقم 49
إِنَّ فِي ذلِكَ أَيَ: النَّصْرِ. وَقِيلَ: رُؤْيَةُ الْجَيْشِ مِثْلَيْهِمْ لَعِبْرَةً أَيِ اتِّعَاظًا وَدَلَالَةً. لِأُولِي الْأَبْصارِ إِنْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً، فَالْمَعْنَى: لِلَّذِينَ أَبْصَرُوا الْجَمْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَتِ اعْتِقَادِيَّةً، فَالْمَعْنَى: لِذَوِي الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ الْقَابِلَةِ لِلِاعْتِبَارِ.
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: زُيِّنَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَهُ عُمَرُ، لِأَنَّهُ قَالَ حِينَ نَزَلَتِ: الْآنَ يَا رَبِّ حِينَ زينتها، فنزلت قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ «١» الْآيَةَ، وَمَعْنَى التَّزْيِينِ: خَلْقُهَا وَإِنْشَاءُ الْجِبِلَّةِ عَلَى الْمَيْلِ إليه، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ «٢» فَزَيَّنَهَا تَعَالَى لِلِابْتِلَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ: زَيَّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ:
وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ.
وَقِيلَ: الْمُزَيِّنُ الشَّيْطَانُ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْحَسَنِ، قَالَ: مَنْ زَيَّنَهَا: مَا أَحَدٌ أَشَدُّ ذَمًّا لَهَا مِنْ خَالِقِهَا! وَيَصِحُّ إِسْنَادُ التَّزْيِينِ إِلَى اللَّهِ تعال بِالْإِيجَادِ وَالتَّهْيِئَةِ لِلِانْتِفَاعِ، وَنِسْبَتُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ بِالْوَسْوَسَةِ، وَتَحْصِيلِهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا. وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى تَوْبِيخِ مُعَاصِرِي رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمُ، الْمَفْتُونِينَ بِالدُّنْيَا، وَأَضَافَ الْمَصْدَرَ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْكَثِيرُ فِي الْقُرْآنِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْمُشْتَهَيَاتِ: بِالشَّهَوَاتِ، مُبَالَغَةً. إِذْ جَعَلَهَا نَفْسَ الْأَعْيَانِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى خِسَّتِهَا، لِأَنَّ الشَّهْوَةَ مُسْتَرْذَلَةٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، يُذَمُّ مُتْبِعُهَا وَيُشْهَدُ لَهُ بِالِانْتِظَامِ فِي الْبَهَائِمِ، وَنَاهِيكَ لَهَا ذَمًّا
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ وَحُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ»
وَأَتَى بِذِكْرِ الشَّهَوَاتِ أَوَّلًا مَجْمُوعَةً عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، ثُمَّ أَخَذَ فِي تَفْسِيرِهَا شَهْوَةً شَهْوَةً لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمُزَيَّنَ مَا هُوَ إِلَّا شَهْوَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ لَا غَيْرَ، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَنْفِيرٌ عَنْهَا، وَذَمٌّ لِطَالِبِهَا وَلِلَّذِي يَخْتَارُهَا عَلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَبَدَأَ فِي تَفْصِيلِهَا بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، بَدَأَ بِالنِّسَاءِ لِأَنَّهُنَّ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ وَأَقْرَبُ وَأَكْثَرُ امْتِزَاجًا:
«مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ»
«مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْكُنَّ».
وَيُقَالُ فِيهِنَّ فِتْنَتَانِ: قَطْعُ الرَّحِمِ وَجَمْعُ الْمَالِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَفِي الْبَنِينَ فِتْنَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ جَمْعُ الْمَالِ.
وَثَنَى بِالْبَنِينَ لِأَنَّهُمْ مِنْ ثَمَرَاتِ النِّسَاءِ، وَفُرُوعٌ عَنْهُنَّ، وَشَقَائِقُ النِّسَاءِ فِي الْفِتَنِ، الْوَلَدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ:
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ٧.
وَإِنَّمَا أَوْلَادُنَا بَيْنَنَا | أَكْبَادُنَا تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ |
لَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ عَلَى بَعْضِهِمْ | لَامْتَنَعَتْ عَيْنِي مِنَ الْغَمْضِ |
وَقُدِّمُوا عَلَى الْأَمْوَالِ لِأَنَّ حُبَّ الْإِنْسَانِ وَلَدَهُ أَكْثَرُ مِنْ حُبِّهِ مَالَهُ، وَحَيْثُ ذَكَرَ الِامْتِنَانَ وَالْإِنْعَامَ أَوِ الِاسْتِعَانَةَ وَالْغَلَبَةَ. قُدِّمَتِ الْأَمْوَالُ عَلَى الْأَوْلَادِ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَالْبَنِينَ، الذُّكْرَانِ. وَقِيلَ يَشْمَلُ: الْإِنَاثَ، وَغَلَبَ التَّذْكِيرُ.
وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ ثُلِّثَ بِالْأَمْوَالِ لِمَا فِي الْمَالِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَلِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ غَالِبُ الشَّهَوَاتِ، وَلِأَنَّ الْمَرْءَ يَرْتَكِبُ الْأَخْطَارَ فِي تَحْصِيلِهِ لِلْوَلَدِ.
وَاخْتُلِفَ فِي: الْقِنْطَارِ، أَهْوَ عَدَدٌ مَخْصُوصٌ، أَمْ لَيْسَ كَذَلِكَ؟
فَقِيلَ: أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ، وَقِيلَ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ أُوقِيَّةٍ، وَقِيلَ: أَلْفٌ وَمِائَتَا دِينَارٍ. وَكُلُّ هَذِهِ رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الْأَوَّلُ: رَوَاهُ أُبَيٌّ، وَقَالَ بِهِ مُعَاذٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، وَالْحَسَنُ فِي رِوَايَةٍ.
وَالثَّانِي: رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَالَ بِهِ. وَالثَّالِثُ: رَوَاهُ الْحَسَنُ، وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ ذَهَبًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنِ الْحَسَنِ، وَالضَّحَّاكِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: ثَمَانُونَ أَلْفًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: سَبْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ثَمَانِيَةُ آلَافِ مِثْقَالٍ، وَهِيَ مِائَةُ رِطْلٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَلْفُ مِثْقَالِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مِائَةُ رِطْلٍ مِنَ الذَّهَبِ، أَوْ ثَمَانُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنَ الْفِضَّةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ: مِائَةُ أَلْفٍ، وَمِائَةُ مَنٍّ، وَمِائَةُ رِطْلٍ، وَمِائَةُ مِثْقَالٍ، وَمِائَةُ دِرْهَمٍ.
وَلَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ يَوْمَ جَاءَ، وَبِمَكَّةَ مِائَةُ رَجُلٍ قَدْ قَنْطَرُوا. وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ، وَقَالَهُ ابْنُ سِيدَهْ فِي (الْمُحْكَمِ). وَقِيلَ: ثَمَانِيَةُ آلَافِ مِثْقَالٍ، وَهِيَ مِائَةُ رِطْلٍ. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي (الْمُحْكَمِ) الْقِنْطَارُ: بِلُغَةِ بَرْبَرَ: أَلْفُ مِثْقَالٍ.
وَرَوَى أَنَسٌ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً «١» قَالَ: أَلْفَ دِينَارٍ.
وَحَكَى الزَّجَّاجُ أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الْقِنْطَارَ هُوَ رطل ذهبا أَوْ فِضَّةٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَظُنُّهُ وَهْمًا، وَإِنَّ القول مائة رطل،
فَسَقَطَتْ مِائَةٌ لِلنَّاقِلِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ: الْقِنْطَارُ بِلِسَانِ أَفْرِيقِيَّةَ وَالْأَنْدَلُسِ:
ثَمَانِيَةُ آلَافِ مِثْقَالٍ وَهَذَا يَكُونُ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا الْآنَ فَهُوَ عِنْدَنَا: مِائَةُ رِطْلٍ، وَالرِّطْلُ عِنْدَنَا، سِتَّةَ عَشَرَ أُوقِيَّةً. وَقَالَ أَبُو بَصْرَةَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ: مِلْءُ مِسْكِ ثَوْرٍ ذَهَبًا. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَكَذَا هُوَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ:
وَكَذَا هُوَ بِلُغَةِ الرُّومِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْمَالُ الْكَثِيرُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْمَالُ الْعَظِيمُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْقِنْطَارُ عِنْدَ الْعَرَبِ وَزْنٌ لَا يُحَدُّ، وَقَالَ الْحَكَمُ:
الْقِنْطَارُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ مَالٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْقِنْطَارُ مِعْيَارٌ يُوزَنُ بِهِ، كَمَا أَنَّ الرِّطْلَ مِعْيَارٌ.
وَيُقَالُ: لَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْوَزْنُ قِنْطَارًا. أَيْ يَعْدِلُ الْقِنْطَارَ، وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ الْأَوَّلُ، وَالْقِنْطَارُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ فِي قَدْرِ الْأُوقِيَّةِ. انْتَهَى.
وَالْمُقَنْطَرَةُ: مُفَعْلَلَةُ، أَوْ مُفَيْعَلَةُ مِنَ الْقِنْطَارِ. وَمَعْنَاهُ الْمُجْتَمِعَةُ، كَمَا يَقُولُ: الْأُلُوفُ الْمُؤَلَّفَةُ، وَالْبَدْرَةُ الْمُبَدَّرَةُ. اشْتَقُّوا مِنْهَا وَصْفًا لِلتَّوْكِيدِ. وَقِيلَ: الْمُقَنْطَرَةُ الْمُضَعَّفَةُ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالطَّبَرِيُّ.
وَقِيلَ: الْمُقَنْطَرَةُ تِسْعَةُ قَنَاطِيرَ، لِأَنَّهُ جَمْعُ جَمْعٍ، قَالَهُ النَّقَّاشُ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: لَا تَكُونُ الْمُقَنْطَرَةُ أَقَلَّ مِنْ تِسْعَةٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا تَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ، وَهَذَا كُلُّهُ تَحَكُّمٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُقَنْطَرَةُ الْمَضْرُوبَةُ دَنَانِيرَ، أَوْ دَرَاهِمَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ وَالضَّحَّاكُ الْمُنَضَّدُ: الَّذِي بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، وَقِيلَ: الْمَخْزُونَةُ الْمَدْخُورَةُ. وَقَالَ يَمَانٌ:
الْمَدْفُونَةُ الْمَكْنُوزَةُ. وَقِيلَ: الْحَاضِرَةُ الْعَتِيدَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، مَا الْمَالُ إِلَّا مَا حَازَتْهُ الْعِيَانُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَبْيِينٌ لِلْقَنَاطِيرِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْهَا، أَيْ كَائِنًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ أَيِ:
الرَّاعِيَةِ فِي الْمُرُوجِ، سَامَتْ سَرَحَتْ وَأَخَذَتْ سَوْمَهَا مِنَ الرَّعْيِ: أَيْ غَايَةَ جَهْدِهَا، وَلَمْ تُقْصَرْ عَلَى حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَيَكُونُ قَدْ عُدِّيَ الْفِعْلُ بِالتَّضْعِيفِ، كَمَا عُدِّيَ بِالْهَمْزَةِ فِي قَوْلِهِمْ: أَسْمَتْهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، وَمُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهَا الْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ الرَّائِقَةُ مِنْ سِيمَا الْحَسَنِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سَوْمُهَا الْحُسْنُ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ.
مِنْ قَوْلِهِمْ: رَجُلٌ وَسِيمٌ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ، إِلَّا إِنِ ادَّعَى الْقَلْبَ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْكِسَائِيُّ: الْمُعَلَّمَةُ بِالشِّيَاتِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مِنَ السُّومَةِ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ. قَالَ أَبُو طَالِبٍ:
أَمِينٌ مُحِبٌّ لِلْعِبَادِ مُسَوَّمِ | بِخَاتَمِ رَبٍّ طَاهِرٍ لِلْخَوَاتِمِ |
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُعَدَّةُ لِلْجِهَادِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَرِّدِ: الْمَعْرُوفَةُ فِي الْبُلْدَانِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ:
الْبَلْقُ. وَقِيلَ: ذَوَاتُ الْأَوْضَاحِ مِنَ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ. وَقِيلَ: هِيَ الْهَمَالِيجُ.
وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعَاطِيفُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْقَنَاطِيرُ، إِلَى آخِرِهَا.
غَيْرَ مَا أَتَى تَبْيِينًا مَعْطُوفًا عَلَى الشَّهَوَاتِ، أَيْ: وَحُبُّ الْقَنَاطِيرِ وَكَذَا وَكَذَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: مِنَ النِّسَاءِ، فَيَكُونُ مُنْدَرِجًا فِي الشَّهَوَاتِ. وَلَمْ يَجْمَعِ الْحَرْثَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ. وَقِيلَ: يُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ «١».
ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أَشَارَ: بِذَلِكَ، وَهُوَ مُفْرَدٌ إِلَى الْأَشْيَاءِ السَّابِقَةِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ، لِأَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ الْمَذْكُورَ، أَوِ الْمُتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَالْمَعْنَى: تَحْقِيرُ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَالْإِشَارَةُ إِلَى فَنَائِهَا وَفَنَاءِ مَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ فيها، وأدغم أبو عمرو في الْإِدْغَامِ الْكَبِيرِ ثَاءٌ: وَالْحَرْثُ، فِي: ذَالِ: ذَلِكَ، وَاسْتُضْعِفَ لِصِحَّةِ السَّاكِنِ قَبْلَ الثَّاءِ.
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أَيِ: الْمَرْجِعُ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ الَّذِي لَا يَفْنَى وَلَا يَنْقَطِعُ.
وَمِنْ غَرِيبِ مَا اسْتُنْبِطَ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ فِيهَا دَلَالَةً عَلَى إِيجَابِ الصَّدَقَةِ فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ لِذِكْرِهَا مَعَ مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ أَوِ النَّفَقَةُ، فَالنِّسَاءُ وَالْبَنُونَ فِيهِمُ النَّفَقَةُ، وَبَاقِيهَا فِيهَا الصَّدَقَةُ، قَالَهُ الْمَاتُرِيدِيُّ.
وَذَكَرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ: الْخِطَابُ الْعَامُّ وَيُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ هُمُ الْيَهُودُ، وَهَذَا مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ.
وَالتَّجْنِيسِ الْمُغَايِرِ: في يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَالِاحْتِرَاسُ: فِي رَأْيَ الْعَيْنِ قالوا