آيات من القرآن الكريم

وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ

وإثبات لأن ذلك حدث عن عمد لا عن خطا، ثم أشار إلى سبب هذا الكفر والعدوان الشنيع فقال:
(ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي إنه ما جرأهم على ذلك إلا سبق المعاصي، واعتداؤهم على حدود الله، والاستمرار على الصغائر يفضى إلى الوقوع فى الكبائر.
فمن جعلها ديدنا له واتخذها عادة وصل به ذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء المرشدين وقتل الأنبياء، وإن كان لم يصدر من اليهود الذين كانوا فى عصر التنزيل، بل كان من أسلافهم، لكنهم لما كانوا راضين به مصوّبين له نسب إليهم، إذ صار خلقا لهم يتوارثه الخلف عن السلف، والأبناء عن الآباء.
والأمم متكافلة ينسب إلى مجموعها ما فشا فيها، وإن ظهر بعض آثاره فى زمن دون آخر.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٣ الى ١١٥]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)
تفسير المفردات
يقال فلان وفلان سواء: أي متساويان، ويستعمل للواحد والمثنى والجمع فيقال هما سواء، وهم سواء، وقائمة: أي مستقيمة عادلة، من قولك أقمت العود فقام: أي استقام، والتلاوة القراءة وأصلها الإتباع، فكأنها إتباع اللفظ اللفظ، وآيات الله: هى القرآن والآناء: الساعات، واحدها أنى كعصا أو أنى كظبى أو إنو كجرو، ويسجدون: أي يصلون، والمسارعة فى الخير: فرط الرغبة فيه، فلن يكفروه: أي يمنعوا ثوابه.

صفحة رقم 34

المعنى الجملي
بعد أن وصف سبحانه أهل الكتاب فيما تقدم بذميم الصفات، وقبيح الأعمال وذكر الجزاء الذي استحقوه بسوء عملهم، أعقبه ببيان أنهم ليسوا جميعا على تلك الشاكلة، بل فيهم من هو متصف بحميد الخلال وجميل الصفات.
الإيضاح
(لَيْسُوا سَواءً) أي ليس أهل الكتاب متساوين فى تلك الصفات القبيحة، بل منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون، وهذه الجملة كالتأ كيد لتلك.
وبعد أن وصف الفاسقين وذكر سوء أعمالهم- وصف المؤمنين ومدحهم بثمانية أوصاف كل منها منقبة ومفخرة يستحق فاعلها الثواب عليها:
١- (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) أي منهم جماعة مستقيمة على الحق، متبعة للعدل، لا تظلم أحدا، ولا تخالف أمر الدين، وكان من تمام الكلام أن يقال ومنهم أمة مذمومة، إلا أن العرب قد تذكر أحد الضدين وتستغنى به عن ذكر الآخر كما قال الشاعر:

دعانى إليها القلب إنى لأمرها مطيع فما أدرى أرشد طلابها
يريد أم غىّ.
وهذه الجملة مبينة لعدم التساوي مزيلة لإبهامه.
والمراد بهذه الأمة جماعة من اليهود أسلموا كعبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن عبيد وأضرابهم كما رواه ابن جرير عن ابن عباس، وقال فى تفسير الآية:
الأمة القائمة أمة مهتدية قائمة على أمر الله لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه.
وروى عن قتادة أنه كان يقول فى الآية: ليس كل القوم هلك، قد كان لله فيهم بقية.

صفحة رقم 35

وهذه الآية حجة على أن دين الله واحد على ألسنة جميع الأنبياء، وأن من أخذه مذعنا، وعمل به مخلصا، وأمر بمعروف ونهى عن منكر فهو من الصالحين.
كما أن فيها استمالة لأهل الكتاب، وتقديرا للعدل الإلهى، وقطعا لاحتجاج من يعرفون الإيمان والإخلاص، إذ لولا هذا النص لكان لهم أن يقولوا: لو كان هذا القرآن من عند الله لما ساوانا بغيرنا من الفاسقين.
واستقامة بعضهم على الحق من دينهم لا ينافى ضياع بعض كتبهم، وتحريف بعضهم لما فى أيديهم منها، ألا ترى أن من يحفظ بعض الأحاديث ويعمل بما علم، ويستمسك به مخلصا فيه- يقال إنه قائم بالسنة عامل بالحديث.
٢، ٣- (يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) أي يتلون القرآن بالليل وهم يصلون متهجدين، وخص السجود بالذكر من بين أركان الصلاة لدلالته على كمال الخضوع والخشوع.
٤، ٥- (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يؤمنون إيمان إذعان بهما على الوجه المقبول عند الله، ومن ثمرات ذلك الخشية والخضوع والاستعداد لذلك اليوم، لا إيمانا لا حظّ لصاحبه منه إلا الغرور والدعوى، كما هو حال سائر اليهود، إذ يؤمنون بالله واليوم الآخر، لكنه إيمان هو والعدم سنواء، لأنهم يقولون عزيز ابن الله، ويكفرون ببعض الرسل، ويصفون اليوم الآخر بخلاف صفته.
ولما كان كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته، والخير للعمل به، وكان أفضل الأعمال الصلاة، وأفضل الأذكار ذكر الله، وأفضل العلوم معرفة المبدإ والمعاد- وصفهم الله بقوله: (يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ) للدلالة على أنهم يعملون صالح الأعمال، وبقوله:
(يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) للإشارة إلى فضل المعارف الحاصلة فى قلوبهم.
٦- (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي إنهم بعد أن كملوا أنفسهم علما وعملا كما تقدم، يسعون فى تكميل غيرهم إما بإرشادهم إلى ما ينبغى بأمرهم بالمعروف، أو بمنعهم عما لا ينبغى بالنهى عن المنكر.

صفحة رقم 36

وفى هذا تعريض باليهود المداهنين الصادّين عن سبيل الله.
٧- (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي ويعملون صالح الأعمال راغبين فيها غير متثاقلين علما منهم بجلالة موقعها، وحسن عاقبتها، وإنما يتباطأ الذين فى قلوبهم مرض، كما وصف الله المنافقين بقوله: «وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ».
وهذه الصفة جماع الفضائل الدينية والخلقية، وفى ذكرها تعريض باليهود الذين يتثاقلون عن ذلك.
وعبر بالسرعة ولم يعبر بالعجلة، لأن الأولى التقدم فيما ينبغى تقديمه وهى محمودة، وضدها الإبطاء، والثانية التقدم فيما لا ينبغى أن يتقدم فيه، ومن ثم قال عليه السلام «العجلة من الشيطان، والتأنّى من الرحمن» وضدها: الأناة، وهى محمودة.
٨- (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وهؤلاء الذين اتصفوا بجليل الصفات من الذين صلحت أحوالهم، وحسنت أعمالهم، فرضيهم ربهم، وفى هذا رد على اليهود الذين قالوا فيمن أسلم منهم: ما آمن بمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره.
والوصف بالصلاح هو غاية المدح، ونهاية الشرف والفضل، فقد مدح الله به أكابر الأنبياء كإسماعيل وإدريس وذى الكفل فقال: «وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ» وقال حكاية عن سليمان: «وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ».
ولأنه ضد الفساد، وهو ما لا ينبغى فى العقائد والأفعال، فهو حصول ما ينبغي فى كل منهما، وذلك منتهى الكمال، ورفعة القدر، وعلوّ الشأن.
(وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي وما يفعلوا من الطاعات فلن يحرموا ثوابه ولن يستر عنهم كأنه غير موجود.
ولما سمى الله إثابته للمحسنين شكرا فى قوله: «فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً»

صفحة رقم 37
تفسير المراغي
عرض الكتاب
المؤلف
أحمد بن مصطفى المراغي
الناشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
الطبعة
الأولى، 1365 ه - 1946 م
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية