
وقوله: ﴿أَيْنَ مَا ثقفوا﴾ تمام، ثم قال: ﴿إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله﴾ أي: لكنهم (يعتصمون) بحبل من الله.
قوله: ﴿وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله﴾، أي: تحملوا وانصرفوا ورجعوا به، وحقيقته: لزمهم ذلك، يقال: تبوأت الدار أي: لزمتها.
(تم السفر الأول من كتاب الهداية إلى بلوغ النهاية والحمد لله الذي بعونه..).
قوله: [ تعالى] ﴿ ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾ أي: تبوءهم الذي باءوا به من غضب الله، وضرب الذلة بدل مما كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق، فكأنهم ألزموا الذلة، والغضب لفعلهم هذا، ثم قال: ﴿ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ أي: فعل بهم ذلك بعصيانهم واعتدائهم كذلك في موضع نصب وهو ذلك الثاني.
قوله: ﴿لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب﴾.
هذا مردود على [قوله] ﴿مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون﴾ ثم قال: ﴿لَيْسُواْ سَوَآءً﴾ أي: ليس المؤمنون والفاسقون سواء وتم الكلام، ويعني بذلك من آمن من أهل الكتاب ومن لم يؤمن.

والفراء يقدره بمعنى ليست تستوي أمة من أهل الكتاب قائمة من حالها كذا وأمة على غير ذلك، وهو غلط من وجوه: أحدها أنه يقدر محذوفاً ولا يحل التمام سواء، وترتفع أمة بسواء، وإذا فعل ذلك لم يعد على اسم ليس ذكر وساء ليس بجار على الفعل فيرفع الظاهر، والمضمر الذي يضمر لا يدل على شيء من الكلام.
وأبو عبيدة يجعل ﴿لَيْسُواْ﴾ على لغة من قال: أكلوني البراغيث، ويجعل ﴿أُمَّةٌ﴾ اسم ليس و ﴿سَوَآءً﴾ الخبر ويقدر محذوفاً، وهو ذكر الكفار من أهل الكتاب، وهو بعيد لأن ذكر أهل الكتاب قد تقدم، فليس [هو] مثل أكلوني البراغيث لأنه لم يتقدم [له] ذكر.
وتصغير ﴿آنَآءَ﴾ أوينا تبدل من الألف التي هي فاء الفعل واواً كما تقول: أويد في آدم، ومعنى الآية: أنه تعالى أعلمنا أنه ليس أهل الإيمان من أهل الكتاب والكفر سواء، والضمير في ﴿لَيْسُواْ﴾ يعود على ما تقدم من ذكر المؤمنين والفاسقين (من أهل الكتاب فقال): من أهل الكتاب ﴿أُمَّةٌ﴾ شأنها بالمدح والثناء هذا

مذهب البصريين.
والكوفيون يجعلون أمة مرفوعة بسواء والكلام عندهم متصل، وقد تقدم ما يدخل عليهم كأن تقديره عندهم لا يستوون من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وأخرى كافرة، قالوا: وترك ذكر الأخرى لدلالة ذكر المؤمنة عليها ومن مذهبهم ألا يجوز سواء [علي] قمت حتى تقول أم قعدت، وأجازوا هنا الحذف، ويجيزون الحذف إذا كان الكلام مكتفياً بواحد نحو ما أبالي، وما أدري لاكتفاء ما أبالي بواحد، أجازوا ما أبالي أقمت، وما أدري أجليت يريدون أم فعلت كذا ويحذفونه، ويلزمهم الا يجيزوا الآية على تأويلهم لأنهم لا يجيزون الحذف مع سواء لنقصانه، وقد أجازوه في الآية، وهذا تناقض لأنهم أجازوا في الآية ما لا يجوز في الكلام.
روى ابن وهب عن مالك: أمة قائمة أي قائمة بالحق وهو قول مجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس وروي مثله عن ابن عباس.
ونزلت هذه الآية في قول عكرمة وابن جبير وابن عباس في عبد الله بن سلام

وثعلبة بن سعية، وأسيد بن عبيد وهم أخيار أهل الكتاب في الوقت، وأسلم معهم غيرهم فقال: من بقي من أحبار يهود: ما آمن بمحمد - ﷺ - إلا شرارنا فأنزل الله الآية يفضل فيها من آمن منهم على من لا يؤمن.
وقال الحسن: إن قوله: ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ يريد ما بين المغرب والعشاء.
وقال ابن مسعود: معناها ليس أهل الكتاب سواء وأمة محمد ﷺ، القائمة يتلون آيات الله ويؤمنون بالله، ويفعلون كذا وكذا. قال مجاهد: قائمة عادلة.
وقال قتادة: قائمة على كتاب الله تعالى وفرائضه وحدوده.
وقال ابن عباس: قائمة أي: مهتدية على أمر الله سبحانه مستقيمة.
وقال السدي: قائمة مطيعة. وقال الأخفش: من أهل الكتاب أمة (أي: ذو أمة) بمعنى: ذو طريقة حسنة.
وواحد آناء الليل اني: كقُنو وأقناء، وقيل واحد أني كمعي وأمعاء وحكى

الأخفش أني.
وقال قتادة: آناء الليل ساعاته أي: يتلون في ساعات الليل. وقال السدي: هي جوف الليل. وقال ابن مسعود: [آيات الله] آناء الليل صلاة العتمة يصلونها، وما سواهم لا يصليها وروى ابن مسعود " أن النبي ﷺ خرج عليهم ليلة، وقد أخر الصلاة قال: فجاء النبي عليه السلام ومنا المصلي ومنا المضطجع فبشرنا، وقال: إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب: فأنزل الله تعالى ﴿ لَيْسُواْ سَوَآءً﴾ الآية ".
وروى الثوري عن منصور أنه نزلت في قوم كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء.
ومعنى يتلون آناء الليل: يتبعون بعضها بعضاً، (ومعنى) ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ أي: يصلون.