
وسبب الغضب من الله على اليهود وإلصاق صفة الذل والهوان أينما وجدوا هو كفرهم بآيات الله، ومنه عدم إيمانهم بالقرآن والإسلام، وقتلهم الأنبياء ظلما وعدوانا، ومنه محاولة قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم وتأليب المشركين عليه وتحريضهم على قتاله واستئصال شأفة المسلمين إلى الأبد، كما حدث في غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، وغزوة الأحزاب (الخندق) في السنة الخامسة، وغير ذلك من ألوان العصيان والاعتداء.
الفئة المؤمنة من أهل الكتاب والثواب على أعمالهم
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٣ الى ١١٥]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)
الإعراب:
لَيْسُوا سَواءً: الواو في لَيْسُوا اسم ليس، وسواء: خبرها.
أُمَّةٌ قائِمَةٌ إما بدل من ضمير لَيْسُوا، والتقدير: ليس أمة قائمة وأمة غير قائمة سواء. فحذف «غير قائمة» مثل حذف البرد في آية سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ، وإما مبتدأ ومِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: خبر مقدم، أو مرفوع بالجار والمجرور على قول الأخفش والكوفيين يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ جملة فعلية في موضع رفع لأنها صفة أُمَّةٌ. آناءَ اللَّيْلِ ظرف زمان متعلق ب يَتْلُونَ. وَهُمْ يَسْجُدُونَ إما حال من ضمير يَتْلُونَ، ويكون المراد بالسجود هنا الصلاة لأن التلاوة لا تكون في السجود، وإما معطوف على يَتْلُونَ ويكون المراد بالسجود: السجود بعينه.

يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ جملة فعلية: إما في موضع نصب على الحال من ضمير يَسْجُدُونَ أو يَتْلُونَ أو قائِمَةٌ، وإما في موضع رفع لأنها صفة (الأمة)، وإما مستأنفة. وهذه الأوجه تجري في جمل يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ.
البلاغة:
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ جملة اسمية للدلالة على الاستمرار. يَتْلُونَ.. يَسْجُدُونَ جملة فعلية للدلالة على التجدد. وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ الإشارة بالبعيد لبيان علو درجتهم وسمو منزلتهم.
المفردات اللغوية:
لَيْسُوا أي أهل الكتاب. سَواءً متساوين، يستعمل للواحد والمثنى والجمع، فيقال: هما سواء، وهم سواء قائِمَةٌ مستقيمة عادلة ثابتة على الحق، مثل عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأصحابه، مأخوذ من قولك: أقمت العود فقام، بمعنى: استقام يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ أي القرآن. آناءَ اللَّيْلِ أي في ساعاته، واحدها أنى كعصا. وَهُمْ يَسْجُدُونَ يصلون.
يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يبادرون إلى فعل الخيرات. وَما يَفْعَلُوا أي الأمة القائمة، والقراءة بالتاء: أي أيتها الأمة. فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي يعدموا ثوابه، بل يجازون عليه، والقراءة بالتاء: أي أنتم أيتها الأمة.
سبب النزول: نزول الآية (١١٣) :
أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده في الصحابة عن ابن عباس قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعنة (أو سعية)، وأسيد بن سعنة (أو سعية)، وأسد بن عبيد، ومن أسلم من يهود معهم، فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام قالت أحبار اليهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد واتبعه إلا شرارنا، ولو كانوا خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله في ذلك:
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وذكر مثله عن مقاتل.
وأخرج أحمد وغيره عن ابن مسعود قال: أخرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة

العشاء، ثم خرج إلى المسجد، فإذا بالناس ينتظرون الصلاة، فقال: أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم، وأنزلت هذه الآية لَيْسُوا سَواءً... حتى بلغ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.
وبعبارة أخرى لابن مسعود: نزلت الآية في صلاة العتمة (العشاء) يصليها المسلمون، ومن سواهم من أهل الكتاب لا يصليها.
المناسبة:
هذه الآيات استمرار في بيان أوصاف أهل الكتاب، ففي الآيات السابقة صنفهم القرآن صنفين: منهم المؤمنون وكثير منهم الفاسقون، ثم بين حال الفاسقين ومصيرهم، وهنا بيّن حال المؤمنين منهم الذين وإن كانوا قلة دخلوا في الإسلام.
التفسير والبيان:
ليس من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب متساوين أو على حد سواء في الفسق والكفر، بل منهم المؤمن ومنهم المجرم، فمنهم فئة قائمة بأمر الله، مستقيمة على دينه، مطيعة لشرعه، متبعة نبي الله، يتلون القرآن في صلواتهم ليلا، ويكثرون التهجد.
وهم يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا حقا صادقا لا شبهة فيه، ويأمرون غيرهم بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويبادرون إلى فعل الخيرات بسرعة، ويعملون الصالحات دون تلكؤ، وهم موصوفون عند الله بأنهم من الصالحين الذين صلحت أحوالهم، وحسنت أعمالهم.
وهم من أحبار أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام، وأسد بن عبيد، وثعلبة بن سعنة وغيرهم ممن نزلت فيهم هذه الآيات، ردا على اليهود الذين زعموا أن من آمن منهم شرارهم لا خيارهم، ولو كان فيهم خير لما آمنوا.

وما يفعلون من الطاعات فلن يحرموا ثوابه، ولا يضيع عند الله، بل يجزيهم به أوفر الجزاء، والله شكور عليم بالمتقين، أي لا يخفى عليه عمل عامل، ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملا.
فقه الحياة أو الأحكام:
يأبى عدل الله إلا أن يظهر الأخيار، ويبعد الأشرار، لذا أكد سبحانه وتعالى في هذه الآيات التنويه بإيمان المؤمنين من أهل الكتاب، فإنهم آمنوا بالإسلام، وصدقوا بالقرآن، ورغبوا في دين الله ورسخوا فيه.
وقاموا بالأعمال الصالحة، فأصلحوا أنفسهم، وجاهدوا في إصلاح غيرهم، وقاوموا دعوة الفساد والانحراف، فاستحقوا الاتصاف بالصالحين، والوصف بالصلاح هو غاية المدح والثناء، بدليل مدح إسماعيل وإدريس وذي الكفل بهذا الوصف، فقال تعالى: وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا، إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ [الأنبياء ٢١/ ٨٦] وقال عن سليمان: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل ٢٧/ ١٩].
وهذا هو واجب الإنسان العاقل في هذه الحياة، فلا قيمة لحياة دون عقيدة صحيحة، ولا مدنية لإنسان دون العمل الصالح، ومحاربة ألوان الفساد.
وسيجد العامل الصالح ثمرة عمله، ويجازى بأوفر الجزاء، ويشكر عليه، ولن يجحد ثوابه، وقد سمى الله في آية أخرى إثابته للمحسنين شكرا في قوله:
فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء ١٧/ ١٩]، وسمى نفسه شاكرا في قوله:
فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة ٢/ ١٥٨]، وعبر تعالى هنا عن عدم الإثابة بالكفر.