آيات من القرآن الكريم

وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ
ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ

- ٢- بعض مظاهر بغي قارون وكبريائه
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُأَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢)
الإعراب:
قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا أراد: وقال الذين فحذف الواو كما حذفت من قوله تعالى: سَيَقُولُونَ: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَيَقُولُونَ: خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف ١٨/ ٢٢] أي ورابعهم.
وَيْكَأَنَّ اللَّهَ وَيْكَأَنَّ «وي» : منفصلة من «كأن» بمعنى أعجب، وهي كلمة يقولها المتندم إذا أظهر ندامته. وكأن الله: بلفظ التشبيه، لكن ليس بمعنى التشبيه، أي إن الله.
أَنْ مَنَّ اللَّهُ.. أن مخففة من الثقيلة من غير عوض، وإن كانت قد دخلت على الفعل، وتقديره: لولا أن الأمر والشأن منّ الله علينا لخسف بنا. وقرئ لخسف وخسف ولا يخسف بنا. فعلى القراءة الأولى: معناه: لخسف الله بنا والجار والمجرور في موضع نصب بالفعل، وعلى القراءة الثانية: الجار والمجرور في موضع رفع، لقيامه مقام نائب الفاعل، وعلى القراءة الثالثة حذفت الكسرة تخفيفا، والقراءة الرابعة كقراءة لخسف بنا للبناء للمجهول.

صفحة رقم 164

البلاغة:
إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ تأكيد الجملة بإن واللام لأن السامع شاك متردد.
تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ كناية، كنّى عن الزمن الماضي القريب بلفظ بِالْأَمْسِ.
يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَيَقْدِرُ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
فَخَرَجَ قارون عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ في موكب مهيب يتبعه الركبان متحلين بملابس الذهب والحرير على خيول وبغال متحلية، وكانوا أربعة آلاف. الدُّنْيا للتنبيه مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ في الدنيا، تمنوا مثله، لا عينه حذرا من الحسد، إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ لصاحب نصيب عَظِيمٍ واف في الدنيا أُوتُوا الْعِلْمَ بأحوال الآخرة وما وعد الله فيها، فالمراد بالعلم: علم الدين وأحوال المتقين وَيْلَكُمْ الويل: الهلاك أو العذاب، والمراد هنا: الزجر عما لا ينبغي ثَوابُ اللَّهِ في الآخرة بالجنة خَيْرٌ مما أوتي قارون في الدنيا وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ أي لا يتلقى الجنة المثاب بها إِلَّا الصَّابِرُونَ على الطاعات وعن المعاصي.
فَخَسَفْنا بِهِ أي بقارون، وخسف: غار في الأرض، والمراد: جعلنا عاليها سافلها فِئَةٍ جماعة أعوان مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره، بأن يمنعوا عنه الهلاك وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ الممتنعين من عذاب الله تعالى بِالْأَمْسِ من قريب وَيْكَأَنَّ اللَّهَ أي ألم تر أن الله، وكلمة «وي» اسم فعل بمعنى أتعجب، وكأن: للتشبيه في الأصل، وليس المراد بها هنا التشبيه، وإنما المراد: بل إن الله يَبْسُطُ يمدّ ويعطي وَيَقْدِرُ يضيق ويقتر بمقتضى مشيئته، لا لكرامة تقتضي البسط، ولا لهوان يوجب القبض.
المناسبة:
هذا فصل آخر من قصة قارون، فبعد أن ذكر الله تعالى بغيه على بني إسرائيل وتجبره عليهم، أعقبه ببيان بعض مظاهر بغيه وكبريائه، فقام باستعراض عظمته وقوته وأبهته، تعاليا على الناس، وإذلالا للنفوس، وكسرا للقلوب، فعاقبه الله بالخسف والزلزال، وأصبح المعجبون بحاله متعجبين مما حل به، وأدركوا أن الإمداد بالرزق الإلهي لا لكرامة ومنزلة للإنسان عند الله، كما أن حجب الرزق لا لهوان وسخط.

صفحة رقم 165

التفسير والبيان:
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ أي فخرج قارون يوما على قومه في زينة عظيمة وتجمل باهر، من مراكب وملابس عليه وعلى حاشيته، بقصد التعالي على الناس، وإظهار العظمة والأبهة. قال الرازي: وليس في القرآن إلا هذا القدر «١»، يعني أن وصف الزينة كما يذكر بعض المفسرين لا دليل عليه.
قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا: يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ، إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي فلما خرج في مظاهر الأبهة كان طبيعيا أن يفتتن بعض الناس به، وهم السذّج والجهال الذين يريدون الحياة الدنيا، ويميلون إلى زخارفها وزينتها، فتمنوا أن لو كان لهم مثل ما أعطي، وقالوا: يا ليت لنا من الأموال والثروات والأوضاع ما لقارون، لنتمتع بها مثله، فإنه ذو نصيب وافر من الدنيا. وهذه نزعة جبلّيّة في الإنسان، فهو دائما يطمع في السعة واليسار:
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات ١٠٠/ ٨].
وفي مقابلة هذا الفريق يوجد فريق آخر هم أهل الحكمة والعلم وبعد النظر:
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ أي وقال علماء الدين وأهل العلم النافع: ويلكم أي انزجروا وارتدعوا عن هذه التمنيات والأقوال، فإن جزاء الله ومثوبته لعباده المؤمنين الصالحين في الدار الآخرة خير مما ترون وما تتمنون، ولكن لا يتلقى الجنة أو المثوبة ولا يوفق لها إلا الصابرون على الطاعات وعن المعاصي، الراغبون في الدار الآخرة، الراضون بقضاء الله في كل ما قسم من المنافع والمضار، المترفعون عن محبة الدنيا، وذلك كما
جاء في الحديث الصحيح: «يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر،

(١) تفسير الرازي: ٢٥/ ١٧.

صفحة رقم 166

واقرؤوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة ٣٢/ ١٧].
ثم ذكر تعالى عقاب قارون فقال:
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ أي بعد أن اختال قارون في زينته وفخره على قومه وبغيه عليهم، زلزلنا به وبداره الأرض، فابتلعته وغاب فيها جزاء بطره وعتوه، كما
ثبت في صحيح البخاري عن سالم أن أباه حدثه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يجرّ إزاره، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة».
فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ أي ما أغنى عنه ماله ولا حاشيته، ولا دفعوا عنه نقمة الله ونكاله، ولا كان هو في نفسه منتصرا لها، فأصبح لا ناصر له من نفسه ولا من غيره.
ولا داعي لبيان أسباب الخسف المروية في التفاسير، فإنها كما ذكر الرازي في أكثر الأمر متعارضة مضطربة، والأولى طرحها، والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن، وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب «١».
وحينئذ ظهرت العبرة للمعتبر، وتبين المفتونون بمال قارون حقيقة الأمر:
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ أي صار الذين رأوه في زينته وتمنوا في الماضي القريب أن يكونوا مثله يقولون: ألم تر أن الله يمدّ الرزق لمن يشاء من خلقه ويضيقه على من يشاء، وليس المال بدال على رضا الله عن صاحبه، فإن الله يعطي ويمنع، ويضيق ويوسّع، ويخفض ويرفع، وله الحكمة التامة والحجة البالغة، كما

(١) تفسير الرازي: ٢٥/ ١٨.

صفحة رقم 167

جاء في الحديث المرفوع عن ابن مسعود: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم، وإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب».
أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا، وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي لولا لطف الله بنا، وإحسانه إلينا، لخسف بنا الأرض، كما خسف بقارون لأنا وددنا أن نكون مثله، وألم تر أن الله لا يحقق الفوز والنجاح للكافرين به، المكذبين رسله، المنكرين ثواب الله وعقابه في الآخرة، مثل قارون.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- لقد استبد البغي والغرور والبطر والكبر بقارون، فتعالى على قومه بني إسرائيل، وأراد إظهار أبهته وعظمته أمامهم، فخرج عليهم في يوم عيد في موكب مهيب مزدان بمتاع الحياة الدنيا من الثياب والتجمل والدواب.
٢- انقسم الناس في شأن قارون بعد هذا الاستعراض فريقين: فريق ينبهر بسطحيات الأمور، فأعجب بهذا المظهر، وتمنى أن يكون مثل قارون في الثروة والمال والعزة والجاه، وهؤلاء هم الماديون في كل زمان.
وفريق نور الله بصيرته، ولم يغتر بمظاهر الدنيا وزخارفها، وإنما نظر إلى الحقائق، وأدرك أن الدنيا فانية، وأن السعادة بالفوز في الآخرة، وهؤلاء هم العلماء المؤمنون العارفون بمصير العالم والإنسان وهم أحبار بني إسرائيل، فقالوا لأصحابهم الفريق الأول: ويلكم (كلمة زجر) ثواب الله أي الجنة ونعيمها خير من مال قارون وجاهه، وهي لمن آمن وعمل الأعمال الصالحة، ولا يؤتى الجنة في الآخرة إلا الصابرون على طاعة الله. ويلاحظ أن الضمير في قوله:
وَلا يُلَقَّاها يراد به الجنة لأنها المعنية بقوله تعالى: ثَوابُ اللَّهِ.

صفحة رقم 168

٣- كان عقاب قارون في الدنيا الخسف به وبداره الأرض، فأصبح كأن لم يكن، وله في الآخرة عذاب النار، ولم يكن له في الحالين جماعة ينصرونه ويمنعونه من عذاب الله، وما كان من المنتصرين الممتنعين من العذاب.
٤- إن في ذلك لعبرة للمتأمل، فقد ندم الذين تمنوا أن يكونوا مثله، وتنبهوا إلى حقيقة الأمر، وتعجبوا من تعجيل العقاب، وأدركوا أن سعة الرزق ليست دليلا على رضوان الله، كما أن تقتير الرزق ليس علامة على سخط الله، وحمدوا الله على فضله ورحمته وعصمته من مثل ما كان عليه قارون من البغي والبطر وما نزل به من العقاب، وأيقنوا أن لا فلاح ولا فوز عند الله للكافرين به، المكذبين رسله، الجاحدين نعمته.
٥- إن عاقبة الكبر والتعالي وخيمة، وإن الاغترار بالأموال والأوصاف نذير سوء، ذكر الحافظ محمد بن المنذر في كتاب «العجائب الغريبة» عن نوفل بن مساحق قال: رأيت شابا في مسجد نجران، فجعلت أنظر إليه، وأتعجب من طوله وتمامه وجماله، فقال: ما لك تنظر إلي؟ فقلت: أتعجب من جمالك وكمالك. فقال: إن الله ليعجب مني، قال: فما زال ينقص حتى صار بطول الشبر، فأخذه بعض قرابته في كمه، وذهب به.
وهذا واضح اليوم حين يفترس السرطان جسد الإنسان، فيتآكل عظمه من الداخل تدريجيا، ويضمر ويصيبه الهزال الشديد، حتى يصبح قزما صغيرا، ثم يموت.

صفحة رقم 169
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية