
فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وجواب لولا محذوف أي لعاجلناهم بالعقوبة، وقيل معناه: لما أرسلناك إليهم رسولا، ولكنا بعثناك إليهم لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ «١»، فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا يعني محمد (عليه السلام) قالُوا يعني كفار مكة لَوْلا أُوتِيَ محمد مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى كتابا جملة واحدة.
قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا قال الكلبي: وكانت مقالتهم تلك حين بعثوا الرهط منهم إلى رؤوس اليهود بالمدينة في عيد لهم، فسألوهم عن محمد (عليه السلام) فأخبروهم أنّه نعته وصفته، وأنّه في كتابهم التوراة، فرجع الرهط إلى قريش، فأخبروهم بقول اليهود، فقالوا عند ذلك ساحران تظاهرا قرأ أهل الكوفة سِحْرانِ بغير ألف وهي قراءة ابن مسعود، وبه قرأ عكرمة، واحتج بقوله: قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما «٢» وقرأ الآخرون ساحران بالألف، واختاره أبو حاتم وأبو عبيدة، لأن معنى التظاهر بالناس وأفعالهم أشبه منه بالكتب، فمن قرأ سِحْرانِ أراد التوراة والقرآن، ومن قرأ ساحران أراد موسى ومحمدا (عليهما السلام).
وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ قُلْ لهم يا محمد فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ولم يأتوا به فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥١ الى ٦٠]
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥)
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠)
(٢) سورة القصص: ٤٩.

وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ ابن عباس ومجاهد: فصّلنا، ابن زيد: وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة حتى كأنّهم عاينوا الآخرة في الدنيا، وقال أهل المعاني: أي والينا وتابعنا، وأصله من وصل الجبال بعضها إلى بعض، قال الشاعر:
فقل لبني مروان ما بال ذمّة | وحبل ضعيف ما يزال يوصّل «١» |
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ أي من أحببت هدايته، وقيل: من أحببته، نزلت في أبي طالب.
حدّثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي- إملاء- قال: أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشر، قال: حدّثنا يحيى بن سعيد، عن زيد بن كيسان، قال: حدّثني أبو حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعمّه: «قل لا إله إلّا الله أشهد لك بها يوم القيامة» [١٣٣] «٢» قال: لولا أن تعيّرني نساء قريش يقلن: إنّه حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك، فأنزل الله سبحانه إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «٣».
(٢) مسند أحمد: ٢/ ٤٣٤.
(٣) روي أن الآية نزلت في الحارث بن نعمان بن عبد مناف راجع: شيخ الأبطح ٦٩ ط. بغداد ١٣٤٩ ونقل عن الواسطي نفي نزولها في أبي طالب وذكر الثعلبي في تفسير سورة التوبة نفي الحسن بن فضل لذلك، راجع تفسير قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا.
وروى ابن كثير في تفسيره (٣/ ٣٩٥ مورد الآية) أنها نزلت في رسول قيصر.
ومما يؤيد نزولها في الحارث أن الآية التي بعدها اتفقوا على نزولها في الحارث كما ذكر ابن كثير، وراجع تفسير الكشاف ٢/ ١٦٧ وشيخ الأبطح ٦٩.
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق ٧٠/ ٢٤٤ ط. دار إحياء التراث قول جميلة بنت حرب:... يا أبا طالب مت على دين الإسلام، قال: فلمّا خفت صوته فلم يبق منه شيء، قال: حرّك شفتيه، فقال العبّاس: فأصغيت إليه، فقال قولا خفيا: لا إله إلّا الله، فقال العبّاس للنبي صلى الله عليه وسلّم: يا ابن أخي قد والله قال أخي الذي سألته.
وروي ذلك في الروض الآنف للسهيلي: ١/ ٢٥٨، وزاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم: ٤/ ٣٥، وسيرة ابن إسحاق: ٢٣٨، والمواهب اللدنية: ١/ ١٣٣ وتاريخ الخميس: ١/ ٣٠٠.
ويؤيد ذلك: ما رواه أصحاب التواريخ من قول علي لمعاوية: «ليس أبو طالب كأبي سفيان» وكان ذلك بعد إسلام أبي سفيان فمقتضاه يدل على إسلام أبي طالب. راجع مروج الذهب: ٣/ ١٤، ووقعة صفين: ٤٧١ وربيع الأبرار: ٣/ ٤٧٠.
وروى السيوطي أيضا في الرسائل العشرة: ٨٤- ٢٥- ١٤٠ قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «أوحي إليّ: إنّي حرّمت النار على بطن حملك وحجر كفلك».

وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا مكي بن عبدان، قال: حدّثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف قالا: حدّثنا عبد الرزاق قال: وأخبرنا محمد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي، قال: حدّثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا أبو سعيد بن حمدون، قال:
أخبرنا ابن الشرقي «١»، قال: حدّثنا محمد بن يحيى، قال: حدّثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه دخل على عمّه أبي طالب في مرضه الذي مات فيه وعنده أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية فقال: «يا عمي قل: لا إله إلّا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله» [١٣٤] «٢».
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب؟
فقال: بل على ملّة عبد المطلب «٣». فأنزل الله سبحانه إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
أخبرني «٤» ابن فنجويه، قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن مالك، قال: حدّثنا محمد بن إبراهيم الطيالسي، قال: حدّثنا الحسين بن علي بن يزيد المدايني، قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا الفضل بن العباس الهاشمي، قال: حدّثنا عبد الوهاب ابن عبد المجيد الثقفي، قال: حدّثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن الزهري، عن محمد بن [جبير عن] مطعم، عن أبيه قال: لم يستمع أحد الوحي يلقى على رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلّا أبو بكر الصديق، فإنّه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فوجده يوحى إليه فسمع إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ الآية
نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وذلك أنّه قال للنبي (عليه السلام) أنّا لنعلم إنّ الذي تقول حقّ، ولكن يمنعنا اتباعك أنّ العرب
(٢) سنن النسائي: ٤/ ٩٠.
(٣) وقد كانت ملة عبد المطلب التوحيد وعبودية الواحد الأحد، وقيل: بل كان مؤمنا برسول الله صلى الله عليه وسلّم على ما فصّله السيوطي في رسالة: إحياء آباء النبي، ورسالة إسلام أبوي النبي.
(٤) في نسخة أصفهان: أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه.

تتخطّفنا من أرضنا، لإجماعهم على خلافنا ولا طاقة لنا بهم، فأنزل الله سبحانه وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا مكة.
قال الله سبحانه: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً وذلك أنّ العرب في الجاهلية كان يغير بعضهم على بعض، فيقتل بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا لحرمة الحرم يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ يجلب ويجمع، قرأ أهل المدينة ويعقوب (تجبى) بالتاء لأجل الثمرات واختاره أبو حاتم وقرأ غيرهم بالياء كقوله كُلِّ شَيْءٍ واختاره أبو عبيد قال: لأنّه قد حال بين الاسم المؤنث والفعل حائل رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها، أي أشرت وطغت، فكفرت بربّها، قال عطاء بن رياح: أي عاشوا في البطر والأشر وأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام، وجعل الفعل للقرية وهو في الأصل للأهل، وقد مضت هذه المسألة فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا يعني فلم يعمر منها إلّا أقلها، وأكثرها خراب، قال ابن عباس: لم يسكنها إلّا المسافر ومار الطريق يوما أو ساعة وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ نظيره قوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها «١» وقوله: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «٢».
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بكفر أهلها حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها يعني مكة رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ كافرون وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ بالياء أبو عمرو، يختلف عنه الباقون بالتاء.
(٢) سورة ال عمران: ١٨٠.