الخوف كان عقب كل ولادة، وقال ابن جريج: أمرت برضاعه أربعة أشهر في بستان فإذا خافت أن يصيح لأن لبنها لا يكفيه، صنعت به هذا.
قال القاضي أبو محمد: والأول أظهر إلا أن الآخر يعضده أمران: أحدهما قوله فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ و «إذا» ظرف لما يستقبل من الزمان، والآخر أنه لم يقبل المراضع والطفل إثر ولادته لا يعقل ذلك، اللهم إلا أن يكون هذا منه بأن الله تعالى حرمها عليه وجعله يأباها بخلاف سائر الأطفال، وقرأ عمرو بن عبد الواحد «أن أرضعيه» بكسر النون وذلك على حذف الهمزة عبطا لا تخفيفا، والتخفيف القياسي فتح النون قاله ابن جني، ونسب المهدوي هذه القراءة إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه والْيَمِّ جمهور الماء ومعظمه، والمراد نيل مصر، وروي في قصص هذه الآية أن أم موسى واسمها يوحانه أخذته ولفته في ثيابه وجعلت له تابوتا صغيرا وسدته عليه بقفل وعلقت مفتاحه عليه وأسلمته ثقة بالله وانتظارا لوعده فلما غاب عنها عاودها بثها وأسفت عليه وأقنطها الشيطان فاهتمت به وكادت تفتضح وجعلت الأخت تقصه أي تطلب أثره.
قوله عز وجل:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٨ الى ١١]
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) «الالتقاط» اللقاء على غير قصد وروية، ومنه قول الشاعر [نقادة الأسدي] :[الرجز]
ومنهل وردته التقاطا
لم ألق إذ وردته فراطا
إلا الحمام القمر والغطاطا
فهن يلغطن به إلغاطا
ومنه اللغطة وآلُ فِرْعَوْنَ أهله وجملته، وروي أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت يعوم في اليم فأمرت بسوقه وفتحته فرأت فيه صبيا صغيرا فرحمته وأحبته، وقال السدي: إن جواريها كان لهن في القصر على النيل فرضة يدخل الماء فيها إلى القصر حتى ينلنه في المرافق والمنافع فبينا هنّ يغسلن في تلك الفرضة إذ جاء التابوت فحملنه إلى مولاتهن، وقال ابن إسحاق: رآه فرعون يعوم فأمر بسوقه وآسية جالسة معه فكان ما تقدم، وقوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً هي لام العاقبة لا أن المقصد بالالتقاط كان لأن يكون عدوا، وقرأ الجمهور «وحزنا» بفتح الحاء والزاي.
وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش «وحزنا» بضم الحاء وسكون الزاي، و «الخاطئ» متعمد الخطأ، والمخطئ الذي لا يتعمده، واختلف المتأولون في الوقت الذي قالت فيه امرأة فرعون قُرَّتُ
صفحة رقم 277
عَيْنٍ لِي وَلَكَ، فقالت فرقة: كان ذلك عند التقاط التابوت لما أشعرت فرعون به سبق إلى وهمه أنه من بني إسرائيل وأن ذلك قصد به ليخلص من الذبح فقال عليّ بالذباحين فقالت امرأته ما ذكر فقال فرعون: أما لي فلا، قال النبي ﷺ «لو قال فرعون نعم لآمن بموسى ولكان قرة عين له»، وقال السدي: بل ربته حتى درج فرأى فرعون فيه شهامة وظنه من بني إسرائيل وأخذه في يده فمد موسى يده ونتف لحية فرعون فهم حينئذ بذبحه وحينئذ خاطبته بهذا وجربته له في الجمرة والياقوتة فاحترق لسانه وعلق العقدة، وقوله لا يَشْعُرُونَ أي بأنه الذي يفسد الملك على يديه قال قتادة وغيره، وقرأ ابن مسعود «لا تقتلوه قرة عين لي ولك» قدم وأخر، وقوله وَأَصْبَحَ عبارة عن دوام الحال واستقرارها وهي كظل، ومنه قول أبي سفيان للعباس يوم الفتح: لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما يريد استقرت حاله عظيما. وقرأ جمهور الناس «فارغا» من الفراغ واختلف في معنى ذلك فقال ابن عباس: «فارغا» من كل شيء إلا من ذكر موسى، وقال مالك: هو ذهاب العقل.
قال الفقيه الإمام القاضي: نحو قوله وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ [إبراهيم: ٤٣] وقالت فرقة «فارغا» من الصبر، وقال ابن زيد «فارغا» من وعد الله تعالى ووحيه إليها أي تناسته بالهم وفتر أثره في نفسها وقال لها إبليس فررت به من قتل لك فيه أجر وقتلته بيدك، وقال أبو عبيدة «فارغا» من الحزن إذ لم يغرق، وقرأ فضالة بن عبد الله ويقال ابن عبيد والحسن «فزعا» من الفزع بالفاء والزاي، وقرأ ابن عباس «قرعا» بالقاف والراء من القارعة وهي الهم العظيم، وقرأ بعض الصحابة رضي الله عنهم «فرغا» بالفاء المكسورة والراء الساكنة والغين المنقوطة ومعناها ذاهبا هدرا تالفا من الهم والحزن، ومنه قول طليحة الأسدي في حبال أخيه: [الطويل]
فإن تك قتلى قد أصيبت نفوسهم
فلن يذهبوا فرغا بقتل حبال
أي هدرا تالفا لا يتبع، وقرأ الخليل بن أحمد «فرغا» بضم الفاء والراء. وقوله تعالى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أي أمر ابنها، وروي أن رسول الله ﷺ قال: «كادت أم موسى أن تقول وا ابناه وتخرج صائحة على وجهها» و «الربط على القلب» تأنيسه وتقويته، ومنه قولهم للشجاع والصابر في المضايق: رابط الجأش، قال قتادة: وربط على قلبها بالإيمان، وقوله لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي من المصدقين بوعد الله وما أوحى إليها به، ثم قالت لأخت موسى طمعا منها وطلبا، قُصِّيهِ، والقص طلب الأثر، فيروى أن أخته خرجت في سكك المدينة تبحث مختفية بذلك فرأته عند قوم من حاشية امرأة فرعون يطلبون به امرأة ترضعه حين لم يقبل المراضع، وعَنْ جُنُبٍ أي عن ناحية من غير قصد ولا قرب يشعر لها به، يقال فيه جنب وجناب وجنابة ومن جناب قول الشاعر: [الطويل]
لقد ذكرتني عن جناب حمامة
بعسفان أهلي فالفؤاد حزين
ومن جنابة قول الأعشى: [الطويل]
أتيت حريثا زائرا عن جنابة
فكان حريث عن عطائي جامدا
قال الفقيه الإمام القاضي: وكأن معنى هذه الألفاظ عن مكان جنب أي عن بعد ومعنى الآية عن بعد لم تدن منه فيشعر لها، وأنشد أبو عبيدة لعلقمة بن عبدة: [الطويل]
صفحة رقم 278