آيات من القرآن الكريم

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ
ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ

٢٢ - وقوله: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ قرئ بفتح الكاف (١). قال المبرد: يقال: مكَث ومكِث ومكُث فمن قال: مكَث أو مكِث فالمضارع منه: يمكث، ومن قال: مكُث فالمضارع منه: يمكُث، واسم الفاعل من المفتوحة والمكسورة: ماكث، ومن المضمومة: مكيث، نحو: شَرُف فهو شريف، وظَرُف فهو ظريف.
قال أبو علي: ومما يقوي الفتح قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾ [الزخرف: ٧٧] وقوله: ﴿مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾ [الكهف: ٣] فماكثون تدلك على: مَكَث. ألا ترى أنك لا تكاد تجد فاعلًا من فعُل (٢).
قال ابن عباس: يريد: لم يلبث إلا يسيرًا (٣).
قال الفراء: ومعنى ﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ غير طويل من الإقامة، والبعيد والطويل متقاربان (٤). وقال الزجاج: أي غير وقت بعيد (٥).

(١) قرأ عاصم وحده، بفتح الكاف، والباقون بضم الكاف. "السبعة في القراءات" ٤٨٠، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٤٦، وفيه اختار ابن خالويه: الفتح. و"المبسوط في القراءات العشر" ٢٧٨. و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨١، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٣٧، قال ابن جرير ١٩/ ١٤٧: هما لغتان مشهورتان، وإن كان الضم فيها أعجب إلي؛ لأنها أشهر اللغتين وأفصحهما. وقال الأزهري: ضم الكاف أكثر في كلام العرب.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨١. قال النحاس: سمعت علي بن سليمان، يقول: الدليل على أن: مكَث أفصح قولهم ماكث، ولا يقولون: مَكِثٌ. "إعراب القرآن" ٣/ ٢٠٣. قال الأزهري: وكان أبو حاتم يختار النصب؛ لأنه قياس العربية، ألا ترى أنه يقال: فهو ماكث، ولا يقال: مكيث. "معاني القراءات" ٢/ ٢٣٥.
(٣) "تنوير المقباس" ٣١٧، بمعناه.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٨٩.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٣.

صفحة رقم 201

وقوله: ﴿فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ (١) قال صاحب النظم: فيه محذوف على تقدير: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ حتى جاء (فَقَالَ) (٢).
وقال الزجاج: المعنى: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ فجاء الهدهد فسأله سليمان عن غيبته، فقال: ﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ وحذف هذا؛ لأن في الكلام دليلًا عليه. ومعنى: (أَحَطتُ) علمتُ شيئًا من جميع جهاته (٣).
قال ابن عباس: فأتاه الهدهد بحجة، فقال: اطلعتُ على ما لم تَطَّلِع عليه (٤).
وقال مقاتل: علمتُ ما لم تعلم؛ يقول: جئتك بأمر لم تخبرك به الجنُ، ولم تعلم به الإنس، وبلغتُ ما لم تبلغه أنت ولا جنودك (٥).
قوله تعالى: ﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ (٦) قرئ ﴿مِنْ سَبَإٍ﴾ بالإجراء، والتنوين. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو غير مجري (٧).

(١) في هذه الآية رد على من قال: إن الأنبياء تعلم الغيب. "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢٠٣.
(٢) "تفسير السمرقندي" ٢/ ٤٩٣، ولم ينسبه.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٤. و"تفسير الماوردي" ٤/ ٢٠١، ولم ينسبه.
(٤) "تفسير الماوردي" ٤/ ٢٠١.
(٥) "تفسير مقاتل" ٥٨ أ. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٦٤، عن قتادة.
(٦) سبأ: بفتح أوله وثانيه: أرض باليمن مدينتها مأرب، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، وسميت بهذا لأنها كانت منزل ولد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. "معجم البلدان" ٣/ ٢٠٣. وهي تقع شمال شرق صنعاء.
(٧) "السبعة في القراءات" ٤٨٠. و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٤٧. و"المبسوط في القراءات العشر" ٢٧٨. و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨٢، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٣٧. وقد صوب القراءتين ابن جرير ١٩/ ١٤٧. ومعنى: غير مجري؛ أي: غير مجرور، فهو ممنوع من الصرف.

صفحة رقم 202

قال الفراء: من أجرى فلأنه فيما ذكروا: رجل. قال: وسُئل أبو عمرو عن قراءته بغير إجراء، فقال: لست أدري ما هو، قال: وقد ذهب مذهبًا إذ لم يدر ما هو فلمَ يُجره (١)؛ لأن العرب إذا سمت بالاسم المجهول تركوا إجراءه كما قال الأعشى:

وتُدفنَ منه الصالحاتُ وإن يُسئ يكن ما أساءَ النارَ في رأس كَبْكَبَا
فكأنه جهل كبكب (٢).
وقال الكسائي: من جعله اسم ذكرٍ، رجلٍ أو غيره، أجراه، ومن جعله اسمًا مؤنثًا قبيلة أو مدينة، أو مكان لم يجره (٣).
وأنكر أبو إسحاق على الفراء قولَه: الاسم إذا لم يُدرَ ما هو لم يُصرف؛ فقال: الأسماء حقها الصرف فإذا لم يعلم الاسم لمذكرٍ هو أم
(١) اعترض النحاس على كلام الفراء عن قول أبي عمرو؛ فقال: أبو عمرو أجل من أن يقول مثل هذا، وليس في حكايته الرُّؤاسي عنه دليل أنه إنما منعه من الصرف لأنه لم يعرفه، وإنما قال: لا أعرفه، ولو سئل نحوي عن اسم فقال: لا أعرفه، لم يكن في هذا دليل على أنه يمنعه من الصرف، بل الحق على غير هذا، والواجب إذا لم تعرفه أن تصرفه؛ لأن أصل الأسماء الصرف. "إعراب القرآن" ٣/ ٢٠٤.
(٢) أنشده مع بيت قبله ونسبه سيبويه، الكتاب ٣/ ٩٣، وأنشده كذلك الفراء، "معاني القرآن" ٢/ ٢٩٥. وعن الفراء ذكره النحاس، "إعراب القرآن" ٣/ ٢٠٤. والبيت في "شرح ديواد الأعشى" ٤٠، من قصيدة يهجو فيها عمرو بن المنذر بن عبدان. وفي حاشية الكتاب: كبكب: اسم جبل بمكة، والنار في رأس الجبل أظهر وأشهر؛ أي: من اغترب عن قومه جرى عليه الظلم فاحتمله لعدم ناصره، وأخفى الناس حسناته وأظهروا سيئاته.
(٣) ذكر هذا سيبويه، "الكتاب" ٣/ ٢٥٢، فقال: فأما ثمود وسبأ، فهما مرة للقبيتين، ومرة للحيين. قال ابن الأنباري: من قرأ بالصرف جعله اسمًا للحي، أو للأب، ومن قرأ بترك الصرف جعله اسمًا لقبيلة أو بلدة، فلم يصرف للتعريف والتأنيث. "البيان" ٢/ ٢٢١.

صفحة رقم 203

لمؤنثٍ فحقه الصرف حتى يُعلم أنه لا ينصرف؛ لأن أصل الأسماء الصرف، فكل ما لا ينصرف فهو يُصرف في الشعر.
قال: ومن قال: إن سبأ اسم رجل فغلط؛ لأن سبأ هي: مدينة تعرف بمأرب من اليمن، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام. فمَن لم يصرف فلأنه اسم مدينة، ومن صرف والصرف أكثرة فلأنه اسمٌ للبلد فيكون مُذَكّرًا سُمِّيَ به مُذكَّر (١).
والذي قاله أبو إسحاق: من أنه اسم مدينة، قول بعض المفسرين (٢)، وبه قال مقاتل؛ لأنه قال: يعني من أرض سبأ باليمن (٣).
وظاهر هذا القول: أنه أراد مدينة، مع احتمال أن سبأ اسم القبيلة أضاف الأرض إليهم. وكثير من الناس ذهبوا إلى أن سبأ اسم رجل.
رُوي في الخبر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل عن سبأ فقال: "كان رجلاً له عشرة من البنين" الحديث (٤).

(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٤.
(٢) "تفسير هود الهواري" ٣/ ٢٥٠، ولم ينسبه.
(٣) "تفسير مقاتل" ٥٨ أ. واقتصر عليه في "الوجيز" ٢/ ٨٥٢.
(٤) ذكره الهواري ٣/ ٢٥٥، ولفظه: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن سبأ، أرجل هو أم امرأة، أم أرض. فقال: بل هو رجل، ولَدَ عشرة، فباليمن منهم ستة، وبالشام أربعة، ثم ذكر أسماءهم. وأخرجه بسنده ابن جرير، في تفسير سورة سبأ ٢٢/ ٧٦. وأخرج بسنده الأزهري في "معاني القراءات" ٢/ ٢٣٧، وقال: إسناد الحديث حسن، وهو يدل على أن إجراء سبأ أصوب القراءتين. والحديث أخرجه الترمدي ٥/ ٣٣٦، كتاب تفسير القرآن، رقم: ٣٢٢٢، وقال الترمذي: حسن غريب. وأخرجه الحاكم ٢/ ٤٦٠، كتاب التفسير، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وهو في "صحيح سنن الترمذي" ٣/ ٩٦، رقم: ٢٥٧٤.

صفحة رقم 204

وقال أبو الحسن (١) في سبأ: إن شئت صرفت فجعلته اسم أبيهم، أو اسم الحي، وإن شئت لم تصرف فجعلته اسم القبيلة. قال: والصرف أعجب إليَّ؛ لأني قد عرفت أنه اسم أبيهم، وإن كان اسم الأب يصير كالقبيلة، إلا أني أحمله على الأصل (٢).
وقال غيره: هو اسم رجل، واليمانية كلها تنسب إليه، يقولون: سبأ ابن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قحطان (٣). فبان بما ذكرنا أن إنكار أبي إسحاق على من قال: سبأ: اسم رجل، لا يتوجه.
قال الأزهري: سبأ: اسم رجل ولَدَ عشرة بنين، فسميت القرية باسم أبيهم (٤). وفي هذا بيان أن القرية إن سميت سبأ فهي مسماة باسم رجل، نحو: مدين سميت باسم مدين بن إبراهيم، والعرب قد تكلمت بالإجراء وغير الإجراء في: (سبأ)؛ قال جرير:
الواردون وتيمٌ في ذُرَى سبإٍ (٥)

(١) نص ابن الجوزي ٦/ ١٦٥، على أنه الأخفش. لكني لم أجد هذا القول في كتابه المعاني في هذه السورة، ولا في سورة سبأ.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨٢، منسوبًا لأبي الحسن. قال الشوكاني ٤/ ١٢٨: أقول: لا شك أن سبأ اسم مدينة باليمن كانت فيها بلقيس، وهو أيضًا اسم رجل من قحطان، وهو: سبأ بن يشجب، بن يعرب، بن قحطان بن هود، ولكن المراد هنا: أن الهدهد جاء إلى سليمان بخبر ما عاينه في مدينة سبأ.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٣٨٢. ولم يسم القائل. وهذا النسب ذكره النحاس في "إعراب القرآن" ٣/ ٢٠٥.
(٤) "تهذيب اللغة" ١٣/ ١٠٦ (سبأ)، وصدَّره بـ: قيل، ولم ينسبه.
(٥) أنشده كاملًا الفراء ٢/ ٢٩٠، ولم ينسبه، وعجزه:
قد عض أعناقهم جِلد الجواميس

صفحة رقم 205
التفسير البسيط
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي
الناشر
عمادة البحث العلمي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
سنة النشر
1430
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية