آيات من القرآن الكريم

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ
ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ

- ٢- قصة الهدهد مع سليمان عليه السلام
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٠ الى ٢٨]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (٢٨)
الإعراب:
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً عَذاباً: إما منصوب على المصدر، بجعل العذاب الذي هو اسم قائما مقام «تعذيب» ويجوز إقامة الأسماء مقام المصادر، كقولهم: سلمت عليه سلاما، وكلمته كلاما، وإما منصوب على المفعول بتقدير حذف حرف الجر، أي لأعذبنه بعذاب. وليست اللام في لَيَأْتِيَنِّي لام القسم لأنه لا يقسم سليمان على فعل الهدهد، ولكن لما جاء في أثر قوله لَأُعَذِّبَنَّهُ أجراه مجراه.

صفحة رقم 280

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ غَيْرَ إما صفة مصدر محذوف، أي فمكث مكثا غير بعيد، أو وصف لظرف محذوف، أي فمكث وقتا غير بعيد.
مِنْ سَبَإٍ اسم مصروف للحي أو للأب، ومن قرأ بترك الصرف جعله اسما لقبيلة أو بلدة، فلم يصرف للتعريف والتأنيث. والصحيح أن سَبَإٍ اسم رجل، كما في كتاب الترمذي.
أَلَّا يَسْجُدُوا أَلَّا بالتشديد، أصلها «أن لا» وأن: في موضع نصب، لتعلقه ب يَهْتَدُونَ و (لا) : زائدة. ومن قرأ بالتخفيف، جعل أَلَّا للتنبيه، وجعل (يا) حرف نداء، والمنادي محذوف، وتقديره: يا هؤلاء اسجدوا، فحذف المنادي لدلالة حرف النداء عليه.
البلاغة:
أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ فيها مراعاة فواصل الآيات. ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ تعجب.
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي التأكيد المكرر للدلالة على العزم المشدد على الفعل.
أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ بينهما طباق السلب.
مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ جناس ناقص.
تُخْفُونَ تُعْلِنُونَ بينهما طباق.
أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ طباق بالمعنى، وهو أبلغ من المطابقة باللفظ لأن الجملة الثانية اسمية، وهي تفيد الثبوت.
المفردات اللغوية:
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ بحث عنه، والتفقد: طلب ما فقد، والطير: اسم جنس لكل طائر ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ تعجب من عدم رؤيته الهدهد، ظنا منه أنه حاضر محجوب عنه لساتر أو غيره. وأم منقطعة للإضراب، أي فلما لاح له أنه غائب، أضرب عن ذلك وقال: بل أهو غائب، كأنه يسأل عن صحة ما لاح له. لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أي تعذيبا شديدا كنتف ريشه وإلقائه في الشمس، فلا يمتنع من هوام الأرض لعجزه عن الطيران، أو كجعله في قفص أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ بقطع حلقومه، ليعتبر به غيره أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ببرهان بين ظاهر أو بحجة بينة على عذره.

صفحة رقم 281

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ أي ظل الهدهد غائبا زمانا يسيرا ثم عاد، والمراد الدلالة على سرعة رجوعه خوفا منه أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ اطلعت على ما لم تطلع عليه، والإحاطة: العلم بالشيء من جميع جهاته، أي اطلع على حال سبأ. وفي هذا الخطاب تنبيه له على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علما بما لم يحط به، للدلالة على محدودية العلم عند سليمان مِنْ سَبَإٍ اسم مدينة في اليمن، والمراد أهلها، سميت باسم جد لهم وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان أبو قبيلة باليمن، فمن جعله اسما للقبيلة منعه من الصرف، ومن جعله اسما للحي أو الأب الأكبر، جعله مصروفا، ثم سميت مدينة مأرب بسبإ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث مراحل بِنَبَإٍ يَقِينٍ خبر مهم محقق.
امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ اسمها بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان، وضمير تَمْلِكُهُمْ لسبأ أو لأهلها وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ المراد كثرة ما أوتيت مما يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدّة وَلَها عَرْشٌ هو سرير الملك عَظِيمٌ عظمه بالنسبة إليها أو إلى عروش أمثالها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي كأنهم كانوا يعبدونها وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي عبادة الشمس وغيرها من مقابيح أفعالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ سبيل الحق والصواب فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ إليه.
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ أي: أن يسجدوا له، فزيدت (لا) وأدغم فيها نون «أن» كما في آية لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد ٥٧/ ٢٩] أي ليعلم الْخَبْءَ المخبوء من كل شيء كالمطر والنبات وغيره من المغيبات، ويُخْرِجُ الْخَبْءَ يظهره، وهو يشمل إشراق الكواكب وإنزال الأمطار وإنبات النبات وإنشاء الأشياء وإبداعها وَيَعْلَمُ ما يخفون في قلوبهم وَما تُعْلِنُونَ بألسنتهم.
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ هو استئناف جملة ثناء، مشتمل على عرش الرحمن، في مقابلة عرش بلقيس، وبينهما بون عظيم قالَ: سَنَنْظُرُ أي قال سليمان للهدهد: سنتعرف أَصَدَقْتَ فيما أخبرتنا به أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي من هذا النوع، والتغيير من الجملة الفعلية إلى الاسمية للمبالغة، فالجملة الاسمية أبلغ من: «أم كذبت فيه» ولمراعاة الفواصل.
اذْهَبْ بِكِتابِي هذا صورة الكتاب: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ:
بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ أي إلى بلقيس وقومها ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ انصرف أو تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه فَانْظُرْ تأمل وفكّر ماذا يَرْجِعُونَ ما يردّون من الجواب وماذا يقول بعضهم لبعض.

صفحة رقم 282

المناسبة:
بعد بيان تسخير الجن والإنس والطير لسليمان عليه السلام، أبان الله تعالى هنا أن سليمان تفقد طير الهدهد، فلم يجده، ثم حضر فأخبره عن مملكة بلقيس، وعن عبادتهم الشمس.
التفسير والبيان:
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ، فَقالَ: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ، أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ أي بحث سليمان عن الهدهد بين جنوده، وكان له علم بمنطق الطير، وكانت الطيور مسخرة له كالريح وغيرها، فقال متعجبا: كيف لا أرى الهدهد؟ علما بأنه لم يأذن له بالغياب، بل هو من الغائبين دون أن أعلم بغيبته. وفي العبارة قلب، أي ما للهدهد لا أراه؟! وهو كقولك: ما لي أراك كئيبا؟ أي مالك؟.
وذكر المفسرون أن سبب بحثه عنه أنه كان يدل على مكان وجود الماء تحت الأرض، بنقره فيها، فيستخرج منها من طريق الجن أو الشياطين، كما كان يرشد سليمان وجنوده إلى الحد الفاصل بين قريب الماء وبعيده أثناء السير بفلاة من الأرض.
وحين تثبّت من غيابه توعده بالعذاب إذا كان بغير عذر مقبول، فقال تعالى: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي أنه هدده بالقتل أو بالتعذيب والعقاب الشديد كنتف ريشه إلا أن يأتي ببرهان واضح يبين عذره، أي إن التهديد والوعيد كان بأحد أمرين إن لم يأت بالأمر الثالث وهو العذر الواضح البيّن.
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَقالَ: أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ أي غاب الهدهد زمانا يسيرا ثم جاء فسأله سليمان عن سبب غيابه، فقال

صفحة رقم 283

لسليمان: اطلعت على ما لم تطلع عليه أنت ولا جنودك، وجئتك من مدينة سبأ بخبر صدق متيقّن، والأكثر على أن سَبَإٍ مصروف لأنه اسم بلد. وأهل سبأ: هم حمير وهم ملوك اليمن. والأكثر على أن الضمير في فَمَكَثَ يعود للهدهد، ويحتمل أن يكون لسليمان، والمعنى: بقي سليمان بعد التفقد والوعيد غير طويل، أي غير وقت طويل.
وقد كان الهدهد ماهرا بالدفاع عن نفسه بتلطف وقدرة على اجتذاب النظر إليه وإصغاء السمع لكلامه، وأنه كان يقوم برحلة استكشاف علمية لمملكة سبأ ومعرفة أحوال أهلها في الملك والتدين. ثم عرّف سليمان ببعض المعارف بالرغم مما أوتيه من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة، للتنبيه على وجود العلم والمعرفة عند من هو أضعف منه، وللإرشاد إلى ضرورة تواضع العلماء.
قال الزمخشري: وفيه دليل على بطلان قول الرافضة: أن الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه «١».
ومضمون خبر الهدهد ثلاثة أمور هي في هذه الآية:
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ أي إني وجدت في بلاد سبأ مملكة عظيمة ذات مجد تملكهم امرأة هي بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها قبلها ملكا عظيم الملك، وأعطيت من متاع الدنيا الشيء الكثير من شراء وغنى، وملك وأبهة، وجيش مسلح بأنواع مختلفة من معدات القتال، وبإيجاز: أوتيت من كل شيء تحتاجه المملكة في زمانها، ولها سرير عظيم هائل مزخرف بالذهب وأنواع الجواهر واللآلئ، تجلس عليه، فوصفه بالعظم أي في الهيئة ورتبة السلطان، قال المؤرخون: وكان هذا السرير في قصر عظيم مشيد، رفيع البناء، محكم الصنع، فيه ثلاث مائة طاقة من مشرقه ومثلها

(١) الكشاف: ٢/ ٤٤٨.

صفحة رقم 284

من مغربه، قد وضع بناؤه على أن تدخل الشمس كل يوم من طاقة، وتغرب من مقابلتها، فيسجدون لها صباحا ومساء. وهذا ما أشارت إليه الآية التالية المبينة عقيدتهم الدينية.
وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أي وجدت هذه الملكة وقومها يعبدون الشمس من غير الله، وزيّن لهم الشيطان قبيح أعمالهم، فصاروا يرون السيء حسنا، ومنعهم الشيطان عن طريق الحق وعبادة الله الواحد الأحد، فأصبحوا لا يهتدون إليه.
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ أي لا يعرفون سبيل الحق التي هي إخلاص السجود لله وحده، دون ما خلق من الكواكب وغيرها، وهو الخالق المبدع الذي يخرج إلى الوجود بعد العدم كل شيء مخبوء مغيب في السموات والأرض كالمطر والنبات والمعادن والمخلوقات، ويعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال.
ونظير الآية في القسم الأول منها: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت ٤١/ ٣٧]. ونظيرها في القسم الآخر: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرعد ١٣/ ١٠].
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي أنه بعد بيان الدليل على وجود الله وتوحيده، وهو افتقار العالم إليه، نزهه وأبان عظمته، فذكر أنه الإله الواحد الذي لا شريك له، ولا معبود بحق سواه، وهو رب العرش العظيم الذي ليس في المخلوقات أعظم منه، فكل عرش مهما عظم فهو دونه، ومنها عرش بلقيس، فكان الواجب إفراده بالعبادة. فوصف الهدهد عرش بلقيس بالعظم

صفحة رقم 285

بالنسبة أو بالإضافة إلى عرش أبناء جنسها من الملوك، ووصف عرش الله بالعظم بالنسبة إلى ما خلق من السموات والأرض.
فأجاب سليمان عليه السلام طير الهدهد عن دفاعه عن نفسه لتبرئة ساحته، حين أخبره عن أهل سبأ وملكتهم فقال:
قالَ: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي قال سليمان:
سنتعرف على مدى صحة قولك، أصادق في إخبارك هذا، أم أنك كاذب في مقالتك، لتتخلص من الوعيد الذي أوعدتك به؟.
والمغايرة بين الجملتين الفعلية والاسمية في هذه الآية، وجعل الثانية اسمية للمبالغة كما بينا، وإفادة ثبات صفة الكذب عليه، وأنه مداوم على الكذب لا ينفك عنه. ووسيلة الاختبار هي:
اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ، فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ أي إن سليمان عليه السلام كتب كتابا إلى بلقيس وقومها، يدعوها فيه إلى الإيمان والإسلام لله عز وجل، وأعطاه ذلك الهدهد، وأمره أن يلقيه إليهم، ثم يبتعد عنهم قريبا، ويتأمل رد الفعل، وما يراجع بعضهم بعضا القول، ويناقش فيه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- القائد يتفقد عادة جيشه وجنوده، وقد فعل ذلك سليمان عليه السلام أثناء مسيره ومروره بوادي النمل، فتفقد جنس الطير وجماعتها التي كانت تصحبه في سفره، وتظله بأجنحتها. وكان سبب تفقده ما تقتضيه عادة العناية بأمر الملك، والاهتمام بعناصر الجيش وبكل جزء منها، كما دل ظاهر الآية. وقال

صفحة رقم 286

عبد الله بن سلام: إنما طلب الهدهد لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كم هو من وجه الأرض، لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء، وأن الهدهد كان يرى باطن الأرض وظاهرها فكان يخبر سليمان بموضع الماء، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ الشاة.
قال القرطبي: في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته، والمحافظة عليهم، فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله، فكيف بعظام الملك. ويرحم الله عمر بن الخطاب، فإنه كان على سيرته قال: لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب، ليسأل عنها عمر «١». والخلاصة:
استنبط العلماء من الآية استحباب تفقد الحاكم أحوال الرعية، وكذلك تفقد الأصدقاء والأقارب.
٢- قوله تعالى: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً دليل على أن الحدّ أي العقوبة على قدر الذنب، لا على قدر الجسد، ولكن يرفق بالمحدود في الزمان والصفة.
وأما ذبحه فدليل على أن الله أباح له ذلك، كما أباح ذبح البهائم والطير للأكل وغيره من المنافع.
٣- قوله تعالى: أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أي علمت ما لم تعلمه من الأمر، دليل على من قال: إن الأنبياء تعلم الغيب، ودليل على أن الصغير يقول للكبير، والمتعلم للعالم: عندي ما ليس عندك إذا تحقق ذلك وتيقنه.
٤- الاعتذار الصحيح مقبول عند أهل الحق والإيمان، فقول الهدهد:
وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ دفع فيه عن نفسه ما توعده من العذاب والذبح.
٥- كانت بلقيس ملكة سبأ، وكان هذا عرفا معمولا به عند القدماء، وعند المعاصرين غير المسلمين. أما في شرعنا
فقد روى البخاري من حديث ابن عباس

(١) تفسير القرطبي: ١٣/ ١٧٨.

صفحة رقم 287

أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملّكوا بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة»
قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة، ولا خلاف فيه. ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه، ولعله نقل عنه كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق ولا بأن يكتب لها منشور (أو مسطور) بأن فلانة مقدمة على الحكم، وإنما سبيل ذلك التحكيم والاستنابة في القضية الواحدة، بدليل
قوله صلّى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» «١».
وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير. وما روي عن عمر أنه قدّم امرأة على حسبة السوق لم يصح، فلا يلتفت إليه، وإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث.
٦- كانت أمة بلقيس ممن يعبد الشمس لأنهم كانوا زنادقة فيما يروى، وقيل: كانوا مجوسا يعبدون الأنوار، وقد زين لهم الشيطان أعمالهم أي ما هم فيه من الكفر، وصدهم عن طريق التوحيد، فهم لا يهتدون إلى الله وتوحيده، وزين لهم ألا يسجدوا لله، أو فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله، وعلى هذا تكون (لا) زائدة، مثل: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف ٧/ ١٢] أي أن تسجد.
وهذا دليل على أن ما ليس بسبيل التوحيد فليس بسبيل ينتفع به قطعا.
ثم آمنت تلك الأمة واهتدت إلى الإقرار بنبوة سليمان ودعوته إلى التوحيد، كما سيأتي بيانه.
٧- إن الله الذي خلق فسوى، وأخرج المخبوء في السموات والأرض كالمطر من السماء والنبات والكنوز من الأرض، هو الذي تجب عبادته، وهو الذي يستحق العبادة. والآية دلت على وصف الله تعالى بالقدرة والعلم، أما القدرة:

(١) أحكام القرآن لابن العربي: ٣/ ١٨٣.

صفحة رقم 288

فقوله: يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهو يتناول جميع أنواع الأرزاق والأموال وإخراجه من السماء بالغيث، ومن الأرض بالنبات. وأما العلم فقوله:
وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ.
٨- قول الهدهد أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ وقوله اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ دليل على أنه داع إلى الخير، وعبادة الله وحده والسجود له، لذا نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتله، كما
روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب:
النملة والنحلة والهدهد والصرد»
.
٩- قوله تعالى: أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم، بباطن أعذارهم لأن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه. وإنما صار صدق الهدهد عذرا لأنه أخبر بما يقتضي الجهاد، وكان سليمان عليه السلام حبب إليه الجهاد.
وفي الصحيح: «ليس أحد أحبّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل».
وقد قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عذر النعمان بن عدي ولم يعاقبه.
لكن للإمام أن يمتحن المعتذر إذا تعلق بالأمر حكم من أحكام الشريعة، كما فعل سليمان بالتثبت من صدق الهدهد.
١٠- دلت آية: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا... على إرسال الكتب إلى المشركين وتبليغهم الدعوة، ودعوتهم إلى الإسلام، وقد كتب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، وإلى كل جبار، كما دلت الآية على سرعة الهدهد في تبليغ الكتاب إليهم، وعلى إيتائه قوة المعرفة وفهم كلامهم، وأن الملكة فهمت الكتاب فورا بواسطة مترجم، وعلى حسن آداب الرسل أن يتنحوا عن المرسل إليهم بعد أداء الرسالة، للتشاور فيها.

صفحة رقم 289
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية