
عَبَّاسٍ: يَعْنِي نَتْفَ رِيشِهِ «١»، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: نَتْفُ رِيشِهِ وَتَشْمِيسُهُ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ إِنَّهُ نَتْفُ رِيشِهِ وَتَرْكُهُ مُلْقًى يَأْكُلُهُ الذَّرُّ وَالنَّمْلُ. وَقَوْلُهُ: أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ يَعْنِي قَتْلَهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بعذر بيّن واضح، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شداد: لما قدم الهدهد قالت لَهُ الطَّيْرُ: مَا خَلَّفَكَ؟ فَقَدْ نَذَرَ سُلَيْمَانُ دمك، فقال: هل استثنى؟ قالوا: نَعَمْ.
قَالَ: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قال: نَجَوْتُ إِذًا، قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا دَفَعَ اللَّهُ عنه ببره بأمه.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٢ الى ٢٦]
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦)
يَقُولُ تَعَالَى: فَمَكَثَ الْهُدْهُدُ غَيْرَ بَعِيدٍ أَيْ غَابَ زَمَانًا يَسِيرًا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ لِسُلَيْمَانَ:
أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أَيْ اطَّلَعْتُ عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَنْتَ وَلَا جُنُودُكَ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ أَيْ بِخَبَرٍ صِدْقٍ حَقٍّ يَقِينٍ، وَسَبَأٌ هُمْ حِمْيَرُ وَهُمْ مُلُوكُ الْيَمَنِ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَهِيَ بِلْقِيسُ بِنْتُ شَرَاحِيلَ مَلِكَةُ سَبَأٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ أُمُّهَا جِنِّيَّةً، وَكَانَ مُؤَخَّرُ قَدَمَيْهَا مِثْلَ حَافِرِ الدَّابَّةِ مِنْ بَيْتِ مَمْلَكَةٍ، وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ محمد: هي بِلْقِيسُ بِنْتُ شَرَاحِيلَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الرَّيَّانِ، وَأُمُّهَا فَارِعَةُ الْجِنِّيَّةُ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: بِلْقِيسُ بنت ذي شرخ وأمها بلتقة.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحسين، حدثنا مسدد، حدثنا سفيان بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ مَعَ صَاحِبَةِ سُلَيْمَانَ أَلْفُ قَيْلٍ، تَحْتَ كُلِّ قَيْلٍ مِائَةُ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَقَالَ الْأَعْمَشُ: عَنْ مُجَاهِدٍ كَانَ تَحْتَ يَدَيْ مَلِكَةِ سَبَأٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَيْلٍ تَحْتَ كُلِّ قَيْلٍ مِائَةُ أَلْفِ مُقَاتِلٍ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ في قوله تعالى: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ كَانَتْ مِنْ بَيْتِ مَمْلَكَةٍ، وَكَانَ أُولُو مَشُورَتِهَا ثَلَاثَمِائَةٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَكَانَتْ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا مَأْرَبُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ صَنْعَاءَ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَقْرَبُ عَلَى أَنَّهُ كَثِيرٌ عَلَى مَمْلَكَةِ الْيَمَنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي من متاع الدنيا مما يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَلِكُ الْمُتَمَكِّنُ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ يَعْنِي سَرِيرٌ تَجْلِسُ عَلَيْهِ عَظِيمٌ هَائِلٌ مُزَخْرَفٌ بالذهب وأنواع الجواهر واللئالئ.
قَالَ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: كَانَ مِنْ ذَهَبٍ وصفحاته مرمولة بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعا،

وَعَرْضُهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كان من ذهب مفصص بالياقوت والزبر جد واللؤلؤ، وكان إنما يخدمها النساء، ولها سِتُّمِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِي الْخِدْمَةَ، قَالَ عُلَمَاءُ التَّارِيخِ: وَكَانَ هَذَا السَّرِيرُ فِي قَصْرٍ عَظِيمٍ مَشِيدٍ رفيع البناء محكم، وكان فيه ثلاثمائة وستون طاقة من مشرقه ومثلها من مغربه، قَدْ وُضِعَ بِنَاؤُهُ عَلَى أَنْ تَدْخُلَ الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ طَاقَةٍ، وَتَغْرُبَ مِنْ مُقَابَلَتِهَا فَيَسْجُدُونَ لَهَا صَبَاحًا وَمَسَاءً، وَلِهَذَا قَالَ: وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أَيْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ.
وَقَوْلُهُ: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ مَعْنَاهُ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ أَيْ لَا يَعْرِفُونَ سَبِيلَ الْحَقِّ الَّتِي هِيَ إِخْلَاصُ السُّجُودِ لِلَّهِ وَحْدَهُ دون ما خلق مِنَ الْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فُصِّلَتْ: ٣٧] وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ أَلَا يَا اسْجُدُوا لِلَّهِ جَعَلَهَا أَلَا الاستفتاحية، ويا لِلنِّدَاءِ، وَحُذِفَ الْمُنَادَى تَقْدِيرُهُ عِنْدَهُ أَلَا يَا قَوْمِ اسْجُدُوا لِلَّهِ.
وَقَوْلُهُ: الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْلَمُ كُلَّ خَبِيئَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْخَبْءُ الْمَاءُ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ:
خَبْءُ السموات والأرض ما جعل فيهما مِنَ الْأَرْزَاقِ، الْمَطَرُ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّبَاتُ مِنَ الْأَرْضِ «١». وَهَذَا مُنَاسِبٌ مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْخَاصِّيَّةِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّهُ يَرَى الْمَاءَ يجري في تخوم الأرض وداخلها.
وَقَوْلُهُ: وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ أَيْ يَعْلَمُ مَا يُخْفِيهِ الْعِبَادُ وَمَا يُعْلِنُونَهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ
[الرَّعْدِ: ١٠] وَقَوْلُهُ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي هو المدعو وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، الَّذِي لَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَلَمَّا كَانَ الْهُدْهُدُ دَاعِيًا إِلَى الْخَيْرِ، وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالسُّجُودِ لَهُ نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ:
النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ والهدهد والصرد «٢»، وإسناده صحيح.
(٢) أخرجه أبو داود في الأدب باب ١٦٤، وابن ماجة في الصيد باب ١٠، وأحمد في المسند ١/ ٣٣٢، ٣٤٧.