القصة الأولى قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون وقومه
- ١- امتنان فرعون على موسى بتربيته
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠ الى ٢٢]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢)
الإعراب:
وَإِذْ نادى إِذْ: ظرف منصوب متعلق بفعل مقدر، تقديره: واتل عليهم إذ نادى.
فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ الجار والمجرور في موضع نصب لأنه يتعلق بمحذوف في موضع الحال، تقديره: فأرسلني مضموما إلى هارون.
نَّا رَسُولُ
قال سُولُ
بالإفراد، لأنه أراد بالرسول الجنس، فوحّد، أو أن يكون سُولُ
بمعنى رسالة، أي إنا ذوا رسالة ربّ العالمين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا.. أي بأن أرسل معنا، فحذف حرف الجر، وهي تحذف معها كثيرا.
أَنْ عَبَّدْتَ إما بدل مرفوع من نِعْمَةٌ وإما منصوب بتقدير: لأن عبدت، ثم حذف حرف الجر، لطول الكلام بصلة أَنْ طلبا للتخفيف.
البلاغة:
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي بينهما مقابلة.
ُولُ
أَرْسِلْ جناس اشتقاق.
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ جناس ناقص، لاختلاف الشكل واتحاد الحروف.
أَلَمْ نُرَبِّكَ.. إيجاز بالحذف، تقديره: فأتيا فرعون فقالا له ذلك، فقال لموسى: أَلَمْ نُرَبِّكَ.
فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ كذلك إيجاز بالحذف، أي فأرسل جبريل إلى هارون واجعله نبيا يؤازرني ويعاضدني.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ نادى متعلق بفعل مقدر، أي اذكر أو اتل يا محمد لقومك. إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى ليلة رأى النار والشجرة. أَنِ ائْتِ بأن ائت رسولا. الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بالكفر واستعباد بنى إسرائيل وذبح أولادهم. قَوْمَ فِرْعَوْنَ بدل من الْقَوْمَ الأول أو عطف بيان له. أَلا يَتَّقُونَ الله بطاعته، فيوحدوه، والاستفهام إنكاري، وهو استئناف أتبعه إرساله إليهم للإنذار، تعجيبا له من إفراطهم في الظلم واجترائهم عليه، وفيه مزيد الحثّ على التقوى. وَيَضِيقُ صَدْرِي من تكذيبهم لي. وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي بأداء الرسالة، للعقدة التي فيه. فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ أي أرسل جبريل إلى أخي هارون معي، ليكون نبيا. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ لهم علي تبعة ذنب، فحذف المضاف، والمراد قتل القبطي، وإنما سماه ذنبا على زعمهم. فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ به، وكان القتل قبل أداء الرسالة.
كَلَّا كلمة زجر وردع، أي ثق بالله، ولا تخف منهم، فلا يقتلونك. فَاذْهَبا أنت وأخوك، فيه تغليب الحاضر على الغائب، وهو معطوف على الفعل الذي دلّ عليه كَلَّا كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظن، فاذهب أنت والذي طلبته ليكون معك نبيا وهو هارون.
بِآياتِنا معجزاتنا. إِنَّا مَعَكُمْ يعني موسى وهارون وفرعون، أو أجريا مجرى الجماعة.
مُسْتَمِعُونَ ما تقولون وما يقال لكم وما يجري بينكما وبينه، فأجعل لكما الغلبة عليه.
َّا رَسُولُ
أي إن كلّا منا رسول من الله إليك، أو أراد به الجنس أو ضمنه معنى الإرسال والرسالة. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا أي بأن أرسل معنا إلى الشام، قالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا أي فأتياه فقالا له ما ذكر، فقال فرعون لموسى: ألم نكن ربّيناك في منازلنا. وَلِيداً طفلا صغيرا، سمي بذلك لقربه من الولادة بعد فطامه. وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ أي ثلاثين سنة، يلبس من ملابس فرعون، ويركب من مراكبه، وكان يسمى ابنه. ثم خرج إلى مدين عشر سنين، ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله ثلاثين، ثم بقي بعد الإغراق لفرعون وقومه خمسين. وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وهي قتل القبطي، وبّخه به معظما إياه، بعد ما عدّد عليه نعمته. وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ الجاحدين لنعمتي عليك بالتربية وعدم الاستعباد. وهو حال من تاء فَعَلْتَ.
قالَ: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي قال موسى: فعلتها حينئذ وأنا من المخطئين أو من الجاهلين، قبل أن يؤتيني الله العلم والرسالة، لأنه لم يتعمد قتله. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ خرجت من بينكم إلى مدين. فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً حكمة وعلما. تَمُنُّها تمنّ بها، أي وتلك التربية نعمة تمتن علي بها ظاهرا، وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل وذبح أبنائهم، أي اتخذتهم عبيدا، ولم تستعبدني، لا نعمة لك بذلك لظلمك باستعبادهم. وقدر بعضهم أول الكلام همزة استفهام للإنكار، أي أو تلك نعمة تمنها علي وهي أن عبدت؟ والمعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي، وأنك لم تستعبدني.
المناسبة:
هذه القصة التي ترددت في القرآن كثيرا في سور عديدة «١» يراد من ذكرها هنا تسلية النبي صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من قومه من صدود وإعراض وتكذيب، فبعد أن ذكر الله تعالى تكذيب المشركين برسالته وإنذارهم وإثبات وحدانية الله لهم بإنبات النبات، ذكر قصة موسى مع فرعون وقومه الذين كذبوه مع إثبات نبوته بالمعجزات البينات، ولما لم تغن الآيات والنذر، حاق بالمكذبين سوء العذاب، وأغرقهم الله في اليم، جزاء جحودهم وتكذيبهم.
التفسير والبيان:
يبدأ الله تعالى القصة من بدء بعثة موسى بن عمران عليه السلام وتكليم ربّه له ومناجاته إياه من جانب الطور الأيمن، فيقول:
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ أي، اذكر يا محمد لقومك حين نادى الله موسى من جانب الطور الأيمن بالوادي المقدس طوى، وكلمه وناجاه، وأرسله واصطفاه، وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه القوم الظالمين أنفسهم بالشرك واستعباد بني إسرائيل وذبح أولادهم، فيدعوهم إلى عبادة الله وحده، وتخلّيهم عن فكرة تأليه فرعون.
وقال الله لموسى تعجيبا من حالهم: ألا يتقونني، ألا يخافون بطشي وانتقامي في الآخرة، ويحذرون عصياني وعذابي على كفرهم وبغيهم. وقوله:
أَلا يَتَّقُونَ كلام مستأنف، أتبعه تعالى إرساله إليهم للإنذار وتسجيل الظلم عليهم، وأمنهم العواقب وقلة خوفهم.
والنداء الذي سمعه موسى عليه السلام من الله تعالى هو كلام الله القديم المنزه عن مشابهة الحروف والأصوات، مع أنه مسموع، على رأي أبي الحسن الأشعري.
وقال أبو منصور الماتريدي: الذي سمعه موسى عليه السلام كان نداء من جنس الحروف والأصوات «١».
قالَ: رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي أي قال موسى مجيبا ربّه: يا ربّ، إني أخشى تكذيبهم لي، فأحزن ويضيق صدري تأثرا وتألما بما يعملون، ولا ينطلق لساني بما يجب علي من أداء الرسالة، بل أتلعثم، وأخي هارون أفصح مني لسانا، وأقوى بنيانا.
فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ أي فاجعل هارون نبيا مثلي، أو أرسل جبريل عليه السلام له بالوحي ليكون معي نبيا ورسولا، يؤازرني ويعاضدني، فتتحقق أعباء الرسالة على الوجه الأكمل. وسبب آخر هو:
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أي ولهم آل القبط علي تبعة جرم بقتل قبطي خطأ قبل الرسالة أدى إلى خروجي من مصر، فأخاف إن كنت وحدي أن يقتلوني بسبب ذلك، وحينئذ لا يحصل المقصود من البعثة، وأما هارون فليس متهما بشيء، فيتحقق المقصود من البعثة. وهذا إيماء إلى أن الخوف قد يطرأ على الأنبياء كما يطرأ على غيرهم من البشر، وقد وقع مثل هذا لنبينا، حتى طمأنه الله بقوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة ٥/ ٦٧].
والخلاصة: هذه أعذار سأل الله إزاحتها عنه، وأسباب لبعثة هارون معه إلى فرعون وقومه، بدأ بخوف التكذيب من فرعون وملئه، ثم ثنّى بضيق الصدر تأثرا وتألما، ثم ثلّث بعدم انطلاق اللسان، وأما هارون فهو أفصح لسانا، وأهدأ بالا، ثم ربّع بوجود تبعة الذنب وهو جرم القتل خطأ قبل النبوة، فخاف أن يبادروا إلى قتله، فيفوت أداء الرسالة ونشرها. ويجمع مطالبه أمران: طلب دفع السوء أو الشر أو التقصير عنه، وإرسال هارون معه.
فأجابه الله إليها فقال:
قالَ: كَلَّا، فَاذْهَبا بِآياتِنا، إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ أي قال الله له:
ارتدع يا موسى عما تظن، ولا تخف من شيء، فإنهم لا يقدرون على قتلك، وأجابه إلى المطلب الثاني بقوله: فَاذْهَبا أي اذهب أنت وأخوك الذي طلبته وهو هارون إلى فرعون وملئه بآياتنا ومعجزاتنا الدالة على صدقكما، وأنا ناصركما ومعينكما، كما قال تعالى: لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه ٢٠/ ٤٦] أي إنني معكما بحفظي وكلاءتي ونصري وتأييدي، وقوله: إِنَّا يريد
نفسه تعالى، وقوله: مُسْتَمِعُونَ أي سامعون ما يقولون وما يجاوبون، وإنما أراد بذلك تقوية قلبيهما، وأنه يعينهما ويحفظهما.
فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي فاذهبا إلى فرعون، فقولا له بلين ورفق: إننا رسولا ربّ العالمين أرسلنا الله لك ولقومك أي أرسل كلا منا إليك، فأطلق حرية بني إسرائيل، ليعبدوا ربّهم في أرض الله الواسعة، ويعودوا معنا إلى الأرض المقدسة:
فلسطين.
وجاء لفظ الرسول هنا مفردا، وفي آية أخرى مثنى إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [طه ٢٠/ ٤٧] لأن الرسول يطلق على الواحد وغيره، لأنه اسم جنس، أو لأنه بمعنى الرسالة، أي إنا ذوا رسالة ربّ العالمين، أو لأنهما على شريعة واحدة وإخوة كأنهما رسول واحد، أو كل واحد منا رسول.
فأعرض عنهما فرعون، ونظر إلى موسى وأجابه بازدراء وتقريع معاتبا إياه بأمرين:
الأول:
قالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً، وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟ أي في الكلام حذف، وهو أنهما أتياه وقالا ما أمر الله به، فعند ذلك قال فرعون:
ما هذا هو المؤمل منك، أأنت الذي ربيناك صغيرا في بيوتنا وعلى فراشنا، ولم نقتلك من جملة من قتلنا، وأنعمنا عليك مدة من السنين- قيل: لبث عندهم ثلاثين سنة- ثم تقابل الإحسان بكفر النعمة، وتبادرنا بما تقول؟ ومتى كان هذا الذي تدعيه؟
الثاني:
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أي وقتلت أيضا رجلا منا، وهو ذلك القبطي الذي وكزته فقضيت عليه، وهو من أتباعي، فإنه كان خباز فرعون، وكنت من جاحدي النعمة، وهذا لا يليق في أخلاق الرجال من الوفاء وردّ الجميل.
فأجاب موسى عن قضية القتل، وترك أمر التربية المعلومة الظاهرة والتي لم ينكرها موسى، لأن الرسول مطالب بتبليغ الرسالة سواء كان المرسل عليه أنعم عليه أم لا، والإعراض عن مثل هذا الكلام أولى، إذ لا مكابرة فيه.
قالَ: فَعَلْتُها إِذاً، وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي قال موسى لفرعون: فعلت تلك الفعلة السيئة وهي قتل القبطي في تلك الحال، وأنا من المخطئين لا المتعمدين قبل أن يوحى إلى وينعم الله علي بالرسالة والنبوة كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل، أو: وأنا من الجاهلين بأن ضربتي تؤدي إلى القتل، فإني تعمدت الوكز دفاعا وتأديبا، فأدى ذلك إلى القتل، وهو ما يسمى في القوانين الحديثة بالضرب المفضي إلى الموت. أي إن القتل الذي تعاتبني عليه لم يكن مقصودا مني.
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ، فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ أي فولّيت هاربا إلى مدين خوفا من بأسكم، حين أخبرني رجل، فقال لي:
إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص ٢٨/ ٢٠] وجاء أمر آخر وهو أن الله منحني فهما وعلما وحكمة «١»، وأرسلني إليك، فإن أطعته سلمت، وإن خالفته هلكت.
ثم أجاب موسى عن فضل التربية لفرد والإساءة إلى جماعة وهم بنو إسرائيل فقال: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي وما أحسنت إلي وربيتني إلا وقد أسأت إلى بني إسرائيل قومي، فجعلتهم عبيدا وخدما، يقومون في أعمالك وأعمال رعيتك الشاقة، فهل الإحسان إلى رجل واحد منهم له قيمة بالنظر إلى الإساءة إلى مجموعهم؟ فليس ما ذكرته شيئا بالنسبة إلى ما فعلت بهم.
فقوله: عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ معناه اتخذتهم عبيدا لك مستذلّين. وإنما جمع الضمير في مِنْكُمْ وخِفْتُكُمْ مع إفراده في تَمُنُّها وعَبَّدْتَ لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله، بدليل قوله تعالى المتقدم: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ وأما الامتنان فمنه وحده وكذلك التعبيد «١»
فقه الحياة أو الأحكام:
هذا هو الفصل الأول من قصة موسى وهارون مع فرعون وملئه، ويستفاد منه ما يأتي:
١- كان إرسال موسى وأخيه هارون إلى فرعون الطاغية الجبار الذي ادعى الألوهية، ومعه قومه الظالمون بالشرك واستعباد الضعفاء إعذارا وإنذارا، حتى لا يبقى لهم ولأمثالهم حجة يتذرعون بها للجهل بحقيقة الإيمان والدين.
٢- في قوله: أَلا يَتَّقُونَ حثّ شديد على التقوى لمن تدبر وتأمل ووعى المستقبل المنتظر.
٣- قدّر موسى خطورة المهمة وأداء الرسالة التي كلف بها إلى فرعون فسأل ربّه أمرين: أن يدفع عنه شرهم، وأن يرسل معه هارون نبيا، فأجابه الله تعالى
إلى الأمرين، فهدّأ خوفه وروعه، وأمره بالثقة بالله تعالى، وأيّده بنصره وعونه، وجعل أخاه رسولا مثله، ليؤازره ويعاونه، كما قال تعالى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه ٢٠/ ٢٩- ٣٢]، وقال سبحانه: فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [القصص ٢٨/ ٣٤].
قال القرطبي: وكأن موسى أذن له في هذا السؤال، ولم يكن ذلك استعفاء من الرسالة، بل طلب من يعينه. ففي هذا دليل على أن من لا يستقل بأمر، ويخاف من نفسه تقصيرا، أن يأخذ من يستعين به عليه، ولا يلحقه في ذلك لوم «١».
٤- لا بدّ من اتخاذ الأسباب لكل مهمة خطيرة أو غير خطيرة، فذلك مأمور به شرعا، كما أن الحذر مطلوب، وتقدير المخاطر مما يوجبه الشرع والعقل.
٥- لم يتردد موسى وأخوه هارون بعد هذا التأييد الإلهي من الذهاب إلى فرعون الظالم، وأعلنا له أنهما رسولان إليه من ربّ العالمين، وهذا واجب التبليغ الذي لا بدّ فيه من الجرأة والشجاعة والصبر، حتى إنه ذكر أن فرعون لم يأذن لهما سنة في الدخول عليه، ثم أذن استهزاء، فدخلا عليه وأدّيا الرسالة.
٦- كان مطلب موسى وهارون بعد إعلان الرسالة والدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك مطلبا عدلا، وهو إخلاء سبيل بني إسرائيل حتى يسيروا مع هذين الرسولين إلى فلسطين، وإنهاء عهد الاستعباد، فإن فرعون استعبدهم أربع مائة سنة، وكانوا في ذلك الوقت ست مائة وثلاثين ألفا.
٧- إن حادثة قتل القبطي من قبل موسى عليه السلام كانت قبل النبوة في
عهد الشباب، بدليل قوله بعدئذ: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وحدثت تلك الحادثة خطأ من غير تعمد القتل، وجهلا بأن الوكزة تؤدي إلى القتل. وقد أجاب موسى عليه السلام فرعون عن ذلك أولا.
٨- قوله تعالى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ مختلف في معناه وفائدته:
- قال السدي والطبري والفراء: هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة، كأنه يقول: نعم، وتربيتك نعمة عليّ من حيث عبّدت غيري وتركتني، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي.
- وقال قتادة وغيره: هو من موسى عليه السلام على جهة الإنكار، أي أتمنّ عليّ بأن ربيتني وليدا، وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم؟ أي ليست بنعمة، لأن الواجب كان ألا تقتلهم ولا تستعبدهم، فإنهم قومي، فكيف تذكر إحسانك إليّ على الخصوص؟! وقال الأخفش والفراء أيضا: فيه تقدير استفهام، أي أو تلك نعمة؟! - وقال الضحّاك: إن الكلام خرج مخرج التبكيت، والتبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام، والمعنى: لو لم تقتل بني إسرائيل لربّاني أبواي، فأي نعمة لك علي! فأنت تمنّ عليّ بما لا يجب أن تمنّ به.
والظاهر لي هو المعنى الثاني، وهو ما جريت عليه في أثناء التفسير.