سورة الشّعراء
وفي تفسير الإمام مالك تسميتها بسورة الجامعة، وقد جاء في رواية ابن مردويه عن ابن عباس وعبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهم إطلاق القول بمكيتها، وأخرج النحاس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت بمكة سوى خمس آيات من آخرها نزلت بالمدينة وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشعراء: ٢٢٤] إلى آخرها، وروي ذلك عن عطاء وقتادة، وقال مقاتل: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً [الشعراء: ١٩٧] الآية مدنية أيضا، قال الطبرسي: وعدة آياتها مائتان وسبع وعشرون آية في الكوفي والشامي والمدني الأول ومائتان وست وعشرون في الباقي.
ووجه اتصالها بما قبلها اشتمالها على بسط وتفصيل لبعض ما ذكر فيما قبل، وفيها أيضا من تسليته صلّى الله تعالى عليه وسلّم ما فيها، وقد افتتحت كلتا السورتين بما يفيد مدح القرآن الكريم وختمتا بإيعاد المكذبين به كما لا يخفى.
طسم تقدم الكلام في أمثاله إعرابا وغيره والكلام هنا كالكلام هناك بيد أنه أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب أنه قال في هذا الطاء من ذي الطول والسين من القدوس والميم من الرحمن، وأمال فتحة الطاء حمزة والكسائي وأبو بكر وقرأ نافع كما روي عنه أبو علي الفارسي في الحجة بين بين ولم يمل صرفا لأن الألف منقلبة عن ياء فلو أميلت إليها انتقض غرض القلب وهو التخفيف.
وروى بعض عنه أنه قرأ كباقي السبعة من غير إمالة أصلا نظرا إلى أن الطاء حرف استعلاء يمنع من الإمالة، وقرأ حمزة بإظهار نون سين لأنه في الأصل لكونه أحد أسماء الحروف المقطعة منفصل عما بعده وأدغمها الباقون لما رأوها متصلة في حكم كلمة واحدة خصوصا على القول بالعلمية، وقرأ عيسى بكسر الميم من «طسم» هنا وفي القصص، وجاء كذلك عن نافع، وفي مصحف عبد الله ط س م من غير اتصال وهي قراءة أبي جعفر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إشارة إلى السورة، وما في ذلك من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلة المشار إليه في الفخامة والمراد بالكتاب القرآن وبالمبين الظاهر إعجازه على أنه من أبان بمعنى بان والكلام على تقدير مضاف أو على أن الإسناد فيه مجازي، وجوز أن يكون المبين من أبان المتعدي ومفعوله محذوف أي الأحكام الشرعية أو الحق، والأول أنسب بالمقام، والمعنى هذه آيات مخصوصة من القرآن مترجمة باسم مستقل، والمراد ببيان كونها بعضا منه وصفها بما اشتهر به الكل من النعوت الجليلة، وقيل: الإشارة إي القرآن والتأنيث لرعاية الخبر، والمراد بالكتاب السورة، والمعنى آيات هذا القرآن المؤلف من الحروف المبسوطة كآيات هذه السورة المتحدي بها فأنتم عجزتم عن الإتيان بمثل هذه السورة فحكم تلك الآيات كذلك وهو كما ترى. ومن الناس من فسر الْكِتابِ الْمُبِينِ باللوح المحفوظ ووصفه بالمبين لإظهاره أحوال الأشياء للملائكة عليهم السلام والأولى ما سمعته أولا لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أي قائل إياها من شدة الوجد كما قال الليث وأنشد قول الفرزدق:
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه | لشيء نحته عن يديه المقادر |
وقرأ زيد بن علي وقتادة رحمهم الله تعالى «باخع نفسك» بالإضافة على خلاف الأصل فإن الأصل في اسم الفاعل إذا استوفى شروط العمل أن يعمل على ما أشار إليه سيبويه في الكتاب، وقال الكسائي: العمل والإضافة سواء، وذهب أبو حيان إلى أن الإضافة أحسن من العمل، ولعل في مثل هذا الموضع لإشفاق المتكلم، ولما استحال في حقه سبحانه جعلوه متوجها إلى المخاطب، ولما كان غير واقع منه أيضا قالوا. المراد الأمر به لدلالة الإنكار المستفاد من سوق الكلام عليه فكأنه قيل: أشفق على نفسك أن تقتلها وجدا وحسرة على ما فاتك من إسلام قومك، وقال العسكري: هي في مثل هذا الموضع موضوعة موضع النهي، والمعنى لا تبخع نفسك، وقيل: وضعت موضع الاستفهام والتقدير هل أنت باخع، وحكي مثله عن ابن عطية إلا أنه قال: المراد الإنكار أي لا تكن باخعا نفسك أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ تعليل للبخع. ولما لم يصح كون عدم كونهم في المستقبل مؤمنين كما يفيده ظاهر الكلام علة لذلك لعدم المقارنة والعلة ينبغي أن تقارن المعلول قدروا- خيفة- فقالوا: خيفة أن لا يؤمنوا بذلك الكتاب المبين، ومن الأجلة من صفحة رقم 59
لم يقدر ذلك بناء على أن المراد لاستمرارهم على عدم قبول الإيمان بذلك الكتاب لأن كلمة كان للاستمرار وصيغة الاستقبال لتأكيده وأريد استمرار النفي وجوز أن يكون الكون بمعنى الصحة والمعنى لامتناع إيمانهم والقول بأن فعل الكون أتى به لأجل الفاصلة ليس بشيء.
وقوله تعالى: إِنْ نَشَأْ إلخ استئناف لتعليل الأمر بإشفاقه على نفسه صلّى الله عليه وسلّم أو النهي عن البخع، ومفعول المشيئة محذوف وهو على المشهور ما دل عليه مضمون الجزاء، وجوز أن يكون مدلولا عليه بما قبل أي إن نشأ إيمانهم نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً ملجئة لهم إلى الإيمان قاسرة عليه كما نتق الجبل فوق بني إسرائيل وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر.
وقرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه «إن يشأ ينزل» على الغيبة والضمير له تعالى، وفي بعض المصاحف لو شئنا لأنزلنا فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ أي منقادين وهو خبر عن الأعناق وقد اكتسبت التذكير وصفة العقلاء من المضاف إليه فأخبر عنها لذلك بجمع من يعقل كما نقله أبو حيان عن بعض أجلة علماء العربية.
واختصاص جواز مثل ذلك الشعر كما حكاه السيرافي عن النحويين مما لم يرتضه المحققون ومنهم أبو العباس وهو ممن خرج الآية على ذلك، وجوز أن يكون ذلك لما أنها وصفت بفعل لا يكون إلا مقصودا للعاقل وهو الخضوع كما في قوله تعالى: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: ٤] وأن يكون الكلام على حذف مضاف وقد روعي بعد حذفه أي أصحاب أعناقهم، ولا يخفى أن هذا التقدير ركيك مع الإضافة إلى ضميرهم، وقال الزمخشري: أصل الكلام فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع لأنه يتراءى قبل التأمل لظهور الخضوع في العنق بنحو الانحناء أنه هو الخاضع دون صاحبه وترك الجمع بعد الإقحام على ما كان عليه قبل، وقال الكسائي: إن خاضعين حال للضمير المجرور لا للأعناق.
وتعقبه أبو البقاء فقال: هو بعيد في التحقيق لأن خاضِعِينَ يكون جاريا على غير فاعل (ظلت) فيفتقر إلى إبراز ضمير الفاعل فكان يجب أن يكون خاضعين هم فافهم، وقال ابن عباس ومجاهد، وابن زيد والأخفش: الأعناق الجماعات يقال: جاء في عنق من الناس أي جماعة، والمعنى ظلت جماعاتهم أي جملتهم.
وقيل: المراد بها الرؤساء والمقدمون مجازا كما يقال لهم: رؤوس وصدور فيثبت الحكم لغيرهم بالطريق الأولى، وظاهر كلامهم أن إطلاق العنق على الجماعة مطلقا رؤساء أم لا حقيقة وذكر الطيبي عن الأساس أن من المجاز أتاني عنق من الناس للجماعة المتقدمة وجاؤوا رسلا رسلا وعنقا عنقا والكلام يأخذ بعضه بأعناق بعض ثم قال: يفهم من تقابل رسلا رسلا لقوله: عنقا عنقا أن في إطلاق الأعناق على الجماعات اعتبار الهيئة المجتمعة فيكون المعنى فظلوا خاضعين مجتمعين على الخضوع متفقين عليه لا يخرج أحد منهم عنه.
وقرأ عيسى وابن أبي عبلة «خاضعة» وهي ظاهرة على جميع الأقوال في الأعناق بيد أنه إذا أريد بها ما هو جمع العنق بمعنى الجارحة كان الإسناد إليها مجازيا ولَها في القراءتين صلة ظلت أو الوصف والتقديم للفاصلة أو نحو ذلك لا للحصر، وظلت عطف على ننزل ولا بد من تأويل أحد الفعلين بما هو من نوع الآخر لأنه وإن صح عطف الماضي على المضارع إلا أنه هنا غير مناسب فإنه لا يترتب الماضي على المستقبل بالفاء التعقيبية أو السببية ولا يعقل ذلك والمعقول عكسه، وبتأويل أحد الفعلين يدفع ذلك لكن اختار بعضهم تأويل ظلت بتظل وكأن العدول عنه ليؤذن الماضي بسرعة الانفعال وأن نزول الآية لقوة سلطانه وسرعة ترتب ما ذكر عليه كأنه كان واقعا قبله، وبعضهم تأويل
ننزل بأنزلنا، ولعل وضعه موضعه لاستحضار صورة إنزال تلك الآية العظيمة الملجئة إلى الإيمان وحصول خضوع رقابهم عند ذلك في ذهن السامع ليتعجب منه فتأمل.
وقرأ طلحة «فتظل» بفك الإدغام، والجزم وضعف الحريري في درة الغواص الفك في مثل ذلك، ورجح صاحب الكشف القراءة بأنها أبلغ لإفادة الماضي ما سمعته آنفا، هذا والظاهر أنه لم تحقق إنزال هذه الآية لأن سنة الله تعالى تكليف الناس بالإيمان من دون إلجاء، نعم إذا قيل: المراد آية مذلة لهم كما روي عن قتادة جاز أن يقال بتحقق ذلك، ولعل ما روي عن ابن عباس كما في البحر والكشاف من قوله نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية ستكون لنا عليهم الدولة فتذل أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوان بعد عزة ناظر إلى هذا، وعن أبي حمزة الثمالي أن الآية صوت يسمع من السماء في نصف شهر رمضان وتخرج له العواتق من البيوت، وهذا قول بتحقق الإنزال بعد وكأن ذلك زمان المهدي رضي الله تعالى عنه، ومن صحة ما ذكر من الأخبار في القلب شيء والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ بيان لشدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما كانوا عليه من الكفر والتكذيب بغير ما ذكر من الآية الملجئة تأكيدا لصرف رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم عن الحرص على إسلامهم. ومن الأولى مزيدة لتأكيد العموم، وجوز أن تكون تبعيضية، والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو صفة لمقدر كما نشير إليه إن شاء الله تعالى، والثانية لابتداء الغاية مجازا متعلقة بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة لذكر، وأيا ما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه وشناعة ما فعلوا به.
والتعرض لعنوان الرحمة لتغليظ شناعتهم وتهويل جنايتهم فإن الإعراض عما يأتيهم من جنابه جل وعلا على الإطلاق شنيع قبيح وعما يأتيهم بموجب رحمته تعالى لمحض منفعتهم أشنع وأقبح أي ما يأتيهم تذكير وموعظة أو طائفة من القرآن من قبله عز وجل بمقتضى رحمته الواسعة يجدد تنزيله حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة إلا جددوا إعراضا عنه واستمروا على ما كانوا عليه، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على الحالية من مفعول يَأْتِيهِمْ بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور أي ما يأتيهم من ذكر في حال من الأحوال إلا حال كونهم معرضين عنه فَقَدْ كَذَّبُوا أي بالذكر الذي يأتيهم تكذيبا صريحا مقارنا للاستهزاء به ولم يكتفوا بالإعراض عنه حيث جعلوه تارة سحرا وتارة أساطير الأولين وأخرى شعرا.
وقال بعض الفضلاء: أي فقد تموا على التكذيب وكان تكذيبهم مع ورود ما يوجب الإقلاع من تكرير إتيان الذكر كتكذيبهم أول مرة، وللتنبيه على ذلك عبر عنه بما يعبر عن الحادث ويشعر باعتبار مقارنة الاستهزاء حسبما أشير إليه قوله تعالى: فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ لاقتضائه تقدم الاستهزاء، وقيل: إن ذاك لدلالة الإعراض والتكذيب على الاستهزاء، والمراد بأنباء ذلك ما سيحيق بهم من العقوبات العاجلة والآجلة وكل آت قريب، وقيل: من عذاب يوم بدر أو يوم القيامة والأول أولى، وعبر عن ذلك بالأنباء لكونه مما أنبأ به القرآن العظيم أو لأنهم بمشاهدته يقفون على حقيقة حال القرآن كما يقفون على الأحوال الخافية عنهم باستماع الأنباء. وفيه تهويل له لأن النبأ يطلق على الخبر الخطير الذي له وقع عظيم أي فسيأتيهم لا محالة مصداق ما كانوا يستهزؤون به قبل من غير أن يتدبروا في أحواله ويقفوا عليها.
وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ بيان لإعراضهم عن الآيات التكوينية بعد بيان إعراضهم عن الآيات التنزيلية، والهمزة للإنكار التوبيخي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أأصروا على ما هم عليه من الكفر بالله
تعالى وتكذيب ما يدعوهم إلى الإيمان به عز وجل ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة لهم عن ذلك والداعية إلى الإيمان به تعالى، وقال أبو السعود بعد جعل الهمزة للإنكار والعطف على مقدر يقتضيه المقام: أي أفعلوا ما فعلوا من الإعراض عن الآيات والتكذيب والاستهزاء بها ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة عما فعلوا والداعية إلى الإقبال على ما أعرضوا عنه انتهى.
وهو ظاهر في أن الآية مرتبطة بما قبلها من قوله تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ إلخ وهو قريب بحسب اللفظ إلا أن فيه أن النظر إلى عجائب الأرض لا يظهر كونه زاجرا عن التكذيب بكون القرآن منزلا من الله عز وجل وداعيا إلى الإقبال إليه، وقال ابن كمال: التقدير ألم يتأملوا في عجائب قدرته تعالى ولم ينظروا انتهى.
والظاهر أن الآية عليه ابتداء كلام فافهم، وقيل: هو بيان لتكذيبهم بالمعاد إثر بيان تكذيبهم بالمبدأ وكفرهم به عز وجل والعطف على مقدر أيضا، والتقدير أكذبوا بالبعث ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة عن التكذيب بذلك والأول أولى وأظهر، وأيا ما كان فالكلام على حذف مضاف كما أشير إليه، وجوز أن يراد من الأرض عجائبها مجازا وقوله تعالى: كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ استئناف مبين لما في الأرض من الآيات الزاجرة عن الكفر الداعية إلى الإيمان.
وكم خبرية في موضع نصب على المفعولية بما بعدها وهي مفيدة للكثرة وجيء بكل معها لإفادة الإحاطة والشمول فيفيد أن كثرة أفراد كل صنف صنف فيكون المعنى أنبتنا فيها شيئا كثيرا من كل صنف على أن من تبعيضية أو كثرة الأصناف فيكون المعنى أنبتنا فيها شيئا كثيرا هو كل صنف على أن من بيانية، وأيا ما كان فلا تكرار بينهما، وقد يقال: المعنى أو لم ينظروا إلى نفس الأرض التي هي طبيعة واحدة كيف جعلناها منبتا لنباتات كثيرة مختلفة الطبائع وحينئذ ليس هناك حذف مضاف ولا مجاز ويكون قوله تعالى: كَمْ أَنْبَتْنا فِيها إلخ يدل اشتمال بحسب المعنى وهو وجه حسن فافهمه لئلا تظن رجوعه إلى ما تقدم واحتياجه إلى ما احتاج إليه من الحذف أو التجوز، والزوج الصنف كما أشرنا إليه. وذكر الراغب أن كل ما في العالم زوج من حيث إن له ضدا ما أو مثلا ما أو تركيبا ما بل لا ينفك بوجه من تركيب، والكريم من كل شيء مرضيه ومحموده، ومنه قوله:
حتى يشق الصفوف من كرمه فإنه أراد من كونه مرضيا في شجاعته وهو صفة لزوج أي من كل زوج كثير المنافع وهي تحتمل التخصيص والتوضيح، ووجه الأول دلالته على ما يدل عليه غيره في شأن الواجب تعالى وزيادة حيث يدل على النعمة الزاجرة لهم عما هم عليه أيضا، ووجه الثاني التنبيه على أنه تعالى ما أنبت شيئا إلا وفيه فائدة كما يؤذن به قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: ٢٩] وأيا ما كان فالظاهر عدم دخول الحيوان في عموم المنبت، وذهب بعض إلى دخوله بناء على أن خلقه من الأرض إنبات له كما يشير إليه قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] وعن الشعبي التصريح بدخول الإنسان فيه، فقد روي عنه أنه قال الناس: من نبات الأرض فمن صار إلى الجنة فهو كريم ومن صار إلى النار فبضد ذلك.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي الإنبات أو المنبت لَآيَةً عظيمة دالة على ما يجب عليهم الإيمان به من شؤونه عز وجل، وما ألطف ما قيل في صف النرجس:
تأمل في رياض الورد وانظر | إلى آثار ما صنع المليك |
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم | بسر ولا أرسلتهم برسول |
ألا من مبلغ عني خفافا | رسولا بيت أهلك منتهاها (١) |
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ مفسرة لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول، وجوز أبو حيان كونها مصدرية على معنى أنا رسوله عز وجل بالأمر بالإرسال وهو بمعنى الإطلاق والتسريح كما في قولك: أرسلت الحجر من
يدي وأرسل الصقر، والمراد خلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين وكانت مسكنهما عليهما السلام، وكان بنو إسرائيل قد استعبدوا أربعمائة سنة وكانت عدتهم حين أرسل موسى عليه السلام ستمائة وثلاثين ألفا على ما ذكره البغوي.
قالَ أي فرعون لموسى عليه السلام بعد ما أتياه وقالا له ما أمرا به،
ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب: إن هاهنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين فقال: ائذن له لعلنا نضحك منه فأذن له فدخلا فأدّيا إليه الرسالة فعرف موسى عليه السلام فقال عند ذلك أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً
وفي خبر آخر أنهما أتيا ليلا فقرع الباب ففزع فرعون وقال: من هذا الذي يضرب بابي هذه الساعة؟ فأشرف عليهما البواب فكلمهما فقال له موسى: أنا رسول رب العالمين فأتى فرعون وقال: إن هاهنا إنسانا مجنونا يزعم أنه رسول رب العالمين فقال: أدخله فدخل فقال ما قص الله تعالى
، وأراد اللعين من قوله: أَلَمْ نُرَبِّكَ إلخ الامتنان، وفِينا على تقدير المضاف أي منازلنا، والوليد فعيل بمعنى مفعول يقال لمن قرب عهده بالولادة، وإن كان على ما قال الراغب: يصح في الأصل لمن قرب عهده أو بعد كما يقال لما قرب عهده بالاجتناء جنيّ فإذا كبر سقط عنه هذا الاسم، وقال بعضهم: كان دلالته على قرب العهد من صيغة المبالغة، وكون الولادة لا تفاوت فيها نفسها وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ قيل:
لبث فيهم ثلاثين سنة ثم خرج إلى مدين وأقام به عشر سنين ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله تعالى ثلاثين سنة ثم بقي بعد الغرق خمسين، وقيل: لبث فيهم اثنتي عشرة سنة ففر بعد أن وكز القبطي إلى مدين فأقام به عشر سنين يرعى غنم شعيب عليه السلام ثم ثماني عشرة سنة بعد بنائه على امرأته بنت شعيب فكمل له أربعون سنة فبعثه الله تعالى وعاد إليهم يدعوهم إليه عز وجل والله تعالى أعلم.
وقرأ أبو عمرو في رواية «من عمرك» بإسكان الميم، والجار والمجرور في موضع الحال من سِنِينَ كما هو المعروف في نعت النكرة إذا قدم وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ يعني قتل القبطي. وبخه به بعد ما امتن وعظمه عليه بالإبهام الذي في الموصول، وأراد في ذلك القدح في نبوته عليه السلام. وقرأ الشعبي «فعلتك» بكسر الفاء يريد الهيئة وكانت قتلة بالوكز، والفتح في قراءة الجمهور لإرادة المرة وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أي بنعمتي حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصي كما روي عن ابن زيد أو وأنت حينئذ من جملة القوم الذين تدعي كفرهم الآن كما حكي عن السدي، وهذا الحكم منه بناء على ما عرفه من ظاهر حاله عليه السلام إذ ذاك لاختلاطه بهم والتقية معهم بعدم الإنكار عليهم وإلا فالأنبياء عليهم السلام معصومون عن الكفر قبل النبوة وبعدها، وقيل: كان ذلك افتراء منه عليه السلام، واستبعد بأنه لو علم بإيمانه أولا لسجنه أو قتله، والجملة على الاحتمالين في موضع الحال من إحدى التاءين في الفعلين السابقين.
وجوز أن يكون ذلك حكما مبتدأ عليه عليه السلام بأنه من الكافرين بإلهيته كما روي عن الحسن أو ممن يكفرون في دينهم حيث كانت لهم آلهة يعبدونهم أو من الكافرين بالنعم المعتادين لغمطها ومن اعتاد ذلك لا يكون مثل هذه الجناية بدعا منه، فالجملة مستأنفة أو معطوفة على ما قبلها، والأولى عندي ما تقدم من جعل الجملة حالا لتكون مع نظيرتها في الجواب على طرز واحد لتعين الحالية هناك ولما يتضمن كلام اللعين أمرين تصدى عليه السلام لردهما على سبيل اللف والنشر المشوش فرد أولا ما وبخه به قدحا في نبوته أعني قوله: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ إلخ اعتناء بذلك واهتماما به وذلك بما حكاه سبحانه عنه بقوله جل وعلا: قالَ فَعَلْتُها أي تلك الفعلة إِذاً أي إذ ذاك على ما آثره بعض المحققين سقي الله تعالى ثراه من أن إِذاً ظرف مقطوع عن الإضافة مؤثرا فيه الفتحة على الكسرة لخفتها وكثرة الدور، وأقر عليه السلام بالقتل لثقته بحفظ الله تعالى له، وقيد الفعل بما يدفع كونه قادحا في النبوة وهو
جملة وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي من الجاهلين وقد جاء كذلك في قراءة ابن عباس وابن مسعود كما نقله أبو حيان في البحر لكنه قال: ويظهر أن ذاك تفسير للضالين لا قراءة مروية عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأراد عليه السلام بذلك على ما روي عن قتادة أنه فعل ذلك جاهلا به غير متعمد إياه فإنه عليه السلام إنما تعمد الوكز للتأديب فأدى إلى ما أدى، وفي معنى ما ذكر ما روي عن ابن زيد من أن المعنى وأنا من الجاهلين بأن وكزتي تأتي على نفسه وقيل: المعنى فعلتها مقدما عليها من غير مبالاة بالعواقب على أن الجهل بمعنى الإقدام من غير مبالاة كما فسر بذلك في قوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا | فنجهل فوق جهل الجاهلينا |
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن جريج عن ابن مسعود أنه قرأ «فعلتها إذانا من الضالين» فَفَرَرْتُ أي خرجت هاربا مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ أي حين توقعت مكروها منكم وذلك حين قيل له: «إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك» ومن هنا يعلم وجه جمع ضمير الخطاب، وقرأ حمزة في رواية لما بكسر اللام وتخفيف الميم على أن اللام حرف جر وما مصدرية أي لخوفي إياكم فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً أي نبوة أو علما وفهما للأشياء على ما هي عليه والأول مروي عن السدي، وتأول بعضهم ذلك بأنه أراد علما هو من خواص النبوة فيكون الحكم بهذا المعنى أخص منه بالمعنى الثاني، وقرأ عيسى «حكما» بضم الكاف وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ إشارة على ظاهر الأول من تفسيري الحكم إلى تفضله تعالى عليه برتبة هي فوق رتبة النبوة أعني رتبة الرسالة ولم يقل فوهب لي رب حكما ورسالة أو وجعلني رسولا إعظاما لأمر الرسالة وتنبيها لفرعون على أن رسالته عليه السلام ليس أمرا مبتدعا بل هو مما جرت به سنة الله تعالى شأنه، وحاصل الرد أن ما ذكرت من نسبة القتل إلى مسلم لكنه ليس مما أوبخ به ويقدح في نبوتي لأنه كان قبل النبوة من غير تعمد حيث كان الوكز للتأديب وترتب عليه ذلك، ورد ثانيا امتنانه الذي تضمنه قوله: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً إلخ فقال: وَتِلْكَ أي التربية المفهومة من قوله: أَلَمْ نُرَبِّكَ إلخ نِعْمَةٌ تَمُنُّها أي تنعم بها عَلَيَّ فهو من باب الحذف والإيصال، وتمن من المنة بمعنى الأنعام والمضارع لاستحضار الصورة، وجوز أن يكون من المن والمعنى تلك نعمة تعدها عليّ فليس هناك حذف وإيصال، والمضارع قيل على ظاهره من الاستقبال وفيه منع ظاهر أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي ذللتهم واتخذتهم عبيدا يقال: عبدت الرجل وأعبدته إذا اتخذته عبدا.
قال الشاعر:
علام يعبدني قومي وقد كثرت | فيهم أباعر ما شاؤوا وعبدان؟ |