آيات من القرآن الكريم

وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ
ﯰﯱﯲﯳ ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﯽﯾﯿﰀ ﰂﰃﰄ ﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑ ﰓﰔﰕ ﰗﰘﰙﰚﰛﰜ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨ ﱿ ﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀ ﰂﰃ ﰅﰆﰇﰈﰉﰊ ﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ ﭑﭒﭓﭔﭕ ﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ ﰋﰌﰍﰎﰏ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ ﰋﰌﰍ ﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗ ﭑﭒﭓﭔﭕ ﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑ

المنَاسَبَة: لما قصَّ تعالى على نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خبر موسى وإِبراهيم أتبعه بذكر قصة نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وكلُّ ذلك تسليةٌ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما يلقاه من قومه، وبيانٌ لسنة الله عقاب المكذبين.
اللغَة: ﴿المشحون﴾ المملوء يقال: شحنَ السفينةَ أي ملأها بالناس والدواب والطعام ﴿رِيعٍ﴾ الرِّيع: ما ارتفع من الأرض، والرِّيعُ: الطريق ﴿مَصَانِعَ﴾ المراد بها الحصون المشيَّدة وهو قول ابن عباس قال الشاعر:

تركنا ديارهم منهم قِفازاً وهدَّمنا المصانع والبروجا
﴿بَطَشْتُمْ﴾ البطش: السطوةُ والأخذ بالعنف يقال: بطَش يبطِشُ إذاأخذه بشدة وعنف ﴿الجبلة﴾ الخليقة قال الهروي: الجبلَّة والجِبلُّ: الجمع ذو العدد الكثير من الناس ومنه قوله ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً﴾ [يس: ٦٢] أي ناساً كثيرين ويقال: جُبل فلانٌ على كذا أي خُلق ﴿كِسَفاً﴾ جمع كِسْفة وهي القطعة من الشيء.

صفحة رقم 355

التفسِير: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين﴾ أي كذِّب قوم نوح رسولهم نوحاً، وإِنما قال ﴿المرسلين﴾ لأن من كذَّب رسولاً فقد كذب الرسل ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ﴾ أي أخوهم في النسب لا في الدين لأنه كان منهم قال الزمخشري: وهذا من قول العرب: يا أخا بني تميم يريدون يا واحاداً منهم لا في الدين لأنه كان منهم قال الزمخشري: وهذامن قول العرب: يا أخا بني تميم يريدون يا واحداً منهم ومنه بيت الحماسة «لا يسألون أخاهم حين يندبهم» ﴿أَلاَ تَتَّقُونَ﴾ أي ألا تخافون عقاب الله في عبادة الأصنام؟ ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ أي إني لكم ناصح، أمينٌ في نصحي لا أخون ولا أكذب ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ أي خافوا عذاب الله وأطيعوا أمري ﴿وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ أي لا أطلب منكم جزاءً على نصحي لكم ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين﴾ أي ما أطلب ثوابي وأجري إلا من الله تعالى ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ كرره تأكيداً وتنبهاً على أهمية الأمر الذي دعاهم إليه ﴿قالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ﴾ أي أنصدّقك يا نوح فيما تقول ﴿واتبعك الأرذلون﴾ أي والحال أن أتباعك هم السفلة والفقراء والضعفاء؟ قال البيضاوي: وهذا من سخافة عقلهم، وقصور رأيهم فقد قصروا الأمر على حطام الدنيا حتى جعلوا اتّباع الفقراء له مانعاً عن اتباعهم وإيمانهم بدعوة نوح ﴿قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي ليس عليَّ أن أبحث عن خفايا ضمائرهم، وأن أُنقّب عن أعمالهم هل اتبعوني إخلاصاً أو طمعاً؟ قال القرطبي: كأنهم قالوا: إِنما إليَّ ظاهرهم ﴿إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ﴾ أي ما حسابهم وجزاؤهم إلا على الله فإِنه المطّلع على السرائر والضمائر لو تعلمون ذلك ﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين﴾ أي لست بمبعد هؤلاء المؤمنين الضعفاء عني، ولا بطاردهم عن مجلسي قال أبو حيان: وهذا مشعرٌ بأنهم طلبوا منه ذلك كما طلب رؤساء قريش من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يطرد من آمن من الضعفاء ﴿إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي ما أنا إلا نذير لكم من عذاب الله، أخوفكم بأسه وسطوته فمن أطاعني نجا سواءٌ كان شريفاً أو وضيعاً، أو جليلاً أو حقيراً ﴿قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين﴾ أي لئن لم تنته عن دعوى الرسالة وتقبيح ما نحن عليه لتكوننَّ من المرجومين بالحجارة، خوفوه بالقتل بالحجارة فعند ذلك حصل اليأس لنوحٍ من فلاحهم فدعا عليهم ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ﴾ أي قال نوح يا ربّ إن قومي كذّبوني ولم يؤمنوا بي ﴿فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً﴾ أي أي فاحكم بيني وبينهم بما تشاء، واقض بيننا بحكمك العادل ﴿وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين﴾ أي أنقذني والمؤمنين معي من مكرهم وكيدهم ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون﴾ أي فأنجينا نوحاً ومن معه من المؤمنين في السفينة المملوءة بالرجال والنساء والحيوان ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين﴾ أي أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ أي لعبرة عظيمة لمن تفكر وتدبَّر ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي وما أكثر الناس بمؤمنين ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾ أي وإِن ربك يا محمد لهو الغالب الذي لا يُقهر، الرحيم بالعباد حيث لا يعاجلهم بالعقوبة، ثم شرع تعالى في ذكر قصة «هود» فقال ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين﴾ أي كذبت قبيلة عاد رسولهم هوداً، ومن كذَّب رسولاً

صفحة رقم 356

فقد كذب جميع المرسلين ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾ أي ألا تخافون عذاب الله وانتقامه في عبادتكم لغيره! ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ أي أمينٌ على الوحي ناصح لكم في الدين ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ أي فخافوا عذاب الله وأطيعوا أمري ﴿وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين﴾ أي لا أطلب منكم على تبليغ الدعوة شيئاً من المال إِنما أطلب أجري من الله، كررت الآيات للتنبيه إلى أنَّ دعوةَ الرسل واحدة ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ﴾ ؟ استفهامٌ إنكاري أي أتبنون بلك موضع مرتفع من الطريق بناءً شامخاً كالعَلَم لمجرد اللهو والعبث؟ قال ابن كثير: الرَّيع المكان المرتفع كانوا يبنون عند الطرق المشهرة بنياناً محكماً هائلاً باهراً لمجرد اللهو واللعب وإِظهار القوة، ولهذا أنكر عليهم نبيُهم عليه السلام ذلك لأنه تضيينعٌ للزمان، وإِتعابٌ للأبدان، واشتغالُ بما لا يُجدي في الدنيا ولا في الآخرة ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ أي وتتخذون قصوراً مشيَّدة محكمة ترجون الخلود في الدنيا كأنكم لا تموتون؟ ﴿وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾ أي وإِذا اعتديتم على أحد فعلتم فعل الجبارين من البطش دون رأفةٍ أو رحمة، وإِنما أنكر عليهم ذلك لأنه صادر عن ظلم عادة الجبابرة المتسلطين قال الفخر: وصفهم بثلاثة أمور: اتخاذ الأبنية العالية وهو يدل على السرف وحب العلو، واتخاذ المصانع - القصور المشيَّدة والحصون - وهو يدل على حب البقاء والخلود، والجبارية وهي تدل على حب التفرد بالعلو، وكلُّ ذلك يشير على أن حبَّ الدنيا قد استولى عليهم بحيث استغرقوا فيه حتى خرجوا عن حد العبودية، وحاموا حول دعاء الربوبية، وحبُّ الدنيا رأسُ كل خطيئه ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ أي خافوا الله واتركوا هذه الأفعال وأطيعوا أمري، ثم شرع يذكْرهم نعم الله فقال ﴿واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ﴾ أي أنعم عليكم بأنواع النعم والخيرات ﴿أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ أي أعطاكم أصول الخيرات من المواشي، والبنين، والبساتين، والنهار، وأغذق عليكم النعم فهو الذي يجب أن يُعْبد ويُشْكر ولا يُكفر ﴿إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي أخشى عليكم إن لم تشكروا هذه النعم واشركتم وكفرتم عذاب يومٍ هائل تشيب لهوله الولدان.
. دعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب، وبلغ في دعائهم بالوعظِ والتخويفِ النهاية القصوى في البيان فكان جوابهم ﴿قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين﴾ أي يستوي عندنا تذكيرك لنا وعدُمه، فلا نبالي بما تقول، ولا نرعوي عمّا نحن عليه قال أبو حيان: جعلوا قولهوعْظاً على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوَّفهم به إذ لم يعتقدوا صحة ما جاء به، وانه كاذبٌ فيما ادَّعاه ﴿إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين﴾ أي ما هذا الذي جئتنا به إلا كذبُ وخرافاتُ الأولين ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ أي لا بعث ولا جزاء ولا حساب ولا عذاب ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ﴾ أي فكذبوا رسولهم هوداً فأهلكناهم بريحٍ صرصرٍ عاتية قال ابن كثير: وكان إهلاكهم بالريح الشديدة الهبوب، ذاتِ البرد الشديد وهي الريح الصرصر العاتية، وكان سبب إهلاكهم من جنسهم، فإِنهم

صفحة رقم 357

كانوا أعتى شيءٍ وأجبره، فسلَّط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشدَّ، فحصبت الريح كل شيء حتى كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه، وترفعه في الهواء ثم تنكّسه على أم رأسه، فتشدخ رأسه ودماغه ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ أي إن في إهلاكهم لعظة وعبرة ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي وما آمن أكثر الناس مع رؤيتهم للآيات الباهرة ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾ أي وإِن ربك يا محمد لهو العزيزُ في انتقامه من أعدائه، الرحيمُ بعباده المؤمنين، ثم شرع تعالى في ذكر قصة «صالح» فقال ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين﴾ أي كذبت قبيلة ثمود نبيَّهم «صالحاً» ومن كذَّب رسولاً ققد كذب جميع المرسلين ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ﴾ ؟ ألا تخافون عذاب الله وانتقامه في عبادتكم غيره! ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين﴾ كررت الآيات للتنبيه على أن دعوة الرسل واحدة، فكل رسولٍ يذكِّر قومه بالغاية من بعثته ورسالته، وأنها لصالح البشر ﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هاهنآ آمِنِينَ﴾ أي أيترككم ربكم في هذه الدنيا آمنين، مخلَّدين في النعيم، كأنكم باقون في الدنيا بلا موت؟ قال ابن عباس: كانوا معمَّرين لا يبقى البنيان مع أعمارهم، قال القرطبي: ودل على هذا قولُه تعالى
﴿واستعمركم فِيهَا﴾ [هود: ٦١] فقرَّعهم صالح ووبَّخهم وقال: أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت ﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ أي في بساتين وأنهار جاريات ﴿وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ أي وسهولٍ فسيحة فيها من أنواع الزروع والنخيل الرطب اللين؟ أتتركون في كل ذلك النعيم دون حساب ولا جزاء قال المفسرون: كانت أرض ثمود كثيرة البساتين والماء والنخل فذكّرهم صالحٌ بنعم اله الجليلة من إنبات البساتين والجنات، وتفجير العيون الجاريات، وإِخراج الزروع والثمرات، ومعنى «الهضيم» اللطيف الدقيق وهو قول عكرمة، وقال ابن عباس معناه: اليانع النضيج ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فَارِهِينَ﴾ أي وتبنون بيوتاً في الجبال أشرين بطرين من غير حاجةٍ لسكناها قال الرازي: وظاهر هذه الآيات يدل على أنَّ الغالب على قوم «هود» هو اللذاتُ الخيالية وهي الاستعلاء، والبقاء، والتجبر، والغالب على قوم «صالح» هو اللذاتُ الحسية وهي طلب المأكول، والمشروب، والمساكن الطيبة وقال الصاوي: كانت أعمارهم طويلة فإِن السقوف والأبينة كانت تبلى قبل فناء أعمارهم، لأن الواحد منهم كان يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ أي فاتقوا عقاب الله وأطيعوني في نصيحتي لكم ﴿وَلاَ تطيعوا أَمْرَ المسرفين﴾ أي ولا تطيعوا أمر الكبراء المجرمين ﴿الذين يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ﴾ أي الذين عادتهم الفساد في الأرض لا الإِصلاح قال الطبري: وهم الرهط التسعة الذين وصفهم الله بقوله ﴿وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ﴾ [النمل: ٤٨] ﴿قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين﴾ أي من

صفحة رقم 358

المسحورين سُحرت حتى غُلب على عقلك قال المفسرون: والمُسَّر مبالغةٌ من المسحور ﴿مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ أي لستَ يا صالح إلا رجلاً مثلنا، فكيف تزعم أنك رسول الله ﴿فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ أي فائتنا بمعجزة تدل على صدقك ﴿قَالَ هذه نَاقَةٌ﴾ أي هذه معجزتي إليكم وهي الناقة التي تخرج من الصخر الأصم بقدرة الله قال المفسرون: روي أنهم اقترحوا عليه ناقة عُشراء - حامل - تخرج من صخرة معينة وتلد أمامهم، فقد صالح عليه السلام يتفكر فجاءه جبريل فقال: صلِّ ركعتين توسلْ ربك الناقة ففعل، فخرجت الناقة وولدت أمامهم وبركت بين أيديهم فقال لهم هذه ناقة يا قوم ﴿لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ أي تشرب ماءكم يوماً، ويوماً تشربون أنتم الماء قال قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كلَّه، وشربُهم في اليوم الذي لا تشرب هي فيه، وتلك آيةٌ أخرى ﴿وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء﴾ أي لا تنالوها بأيِّ ضرر بالعقر أو بالضرب ﴿فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي فيصيبكم عذاب من الله هائل لا يكاد يوصف قال ابن كثير: حذَّرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء، فمكثت الناقة بين أظهرهم حيناً من الدهر، تردُ الماء وتأكل الورق والمرعى، وينفعون بلبنها يحلبون منها ما يكفيهم شرباً وريَّاً، فلما طال عليهم الأمد وحضر أشقاهم تمالئوا على قتلها وعقرها ﴿فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ﴾ أي فقتلوها رمياً بالسهام، رماها أشقاهم - قُدار بن سالف - بأمرهم ورضاهم فأصبحوا نادمين على قتلها خوف العذاب قال الفخر: لم يكن ندمهم ندم التائبين، لكن ندم الخائفين من العذاب العاجل ﴿فَأَخَذَهُمُ العذاب﴾ أي العذاب الموعود، وكان صيحةً خمدت لها أبدانهم، وانشقت لها قلوبهم، وزُلزلت الأرض تحتهم زلزالاً شديداً، وصُبَّت عليهم حجارة من السماء فماتوا عن آخرهم ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ أي لعظةٌ وعبرة لمن عقل وتدبَّر ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾ تقدم تفسيرهخا فيما سبق، ثم شرع تعالى في ذكر قصة «لوط» فقال ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين﴾ أي كذبوا رسولهم لوطاً ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ﴾ أي ألا تخافون عقاب الله وانتقامه في عبادتكم غيره! ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين﴾ نفسُ الكلمات والألفاظ التي قالها من قبلُ صالحٌ، وهودٌ، ونوح مما يؤكد أن دعوة الرسل واحدة، وغايتها واحدة، وأن منشأها هو الوحي السماوي، ثم قال لهم لوط ﴿أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين﴾ استفهامُ إِنكارٍ وتوبيخٍ وتقريعٍ أي أَتنْكحون الذكور في أدبارهم، وتنفردون بهذا الفعل الشنيع من بين سائر الخلق؟ ﴿وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ قال لمجاهد: تركتم فروج النساء إلى أدبار الرجال ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ﴾ أي بل أنتم قوم مجاوزون الحدَّ في الإِجرام والفساد، وبَّخهم على إتيانهم الذكور، ثم أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في التوبيخ كأنه يقول خرجتم عن حدود الإِنسانية إلى مرتبة البهيمية بعدوانكم وارتكابكم هذه الجريمة الشنيعة، فالذكر من

صفحة رقم 359

الحيوان يأنف عن إتيان الذكر، وأنتم فعلتم ما يتورع عنه الحيوان ﴿قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين﴾ أي لئن لم تترك تقبيح ما نحن عليه لنخرجنك من بين أظهرنا وننفيك من بلدنا كما فعلنا بمن قبلك، توعدوه بالنفي والطرد ﴿قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين﴾ أي إني لعملكم القبيح من المبغضين غاية البغض وأنا بريء منكم ﴿رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ﴾ اي نجني من العذاب الذي يستحقونه بعملهم القبيح أنا وأهلي قال تعالى ﴿فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين﴾ أي نجيناه مع أهله جميعاً إلا امرأته كانت من الهالكين الباقين في العذاب قال ابن كثير: والمراد بالعجوز امرأته فقد كانت عجوز سوء، بقيت فهلكت مع من بقي من قومها حين أمره الله أن يسريَ بأهله إلا امرأته ﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين﴾ أي أهلكناهم اشد إهلاكٍ وأفظعه بالخسف والحَصْب ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً﴾ أي أمطرنا عليهم حجارة من السماء كالمطر الزاخر ﴿فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين﴾ أي بئس هذا المطر مطر القوم المُنْذرين الذين أنذرهم نبيهم فكذبوه ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ أي إنَّ في ذلك لعبرة وعظة لأولي البصائر ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾ تقدم تفسيره، ثم شرع تعالى في ذكر قصة «شعيب» فقال: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ المرسلين﴾ أي كذَّب أضحاب مدين نبيهم شعيباً قال الطبري: والأيكةُ: الشجرُ الملتف وهم أهل مدين ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين﴾ سبق تفسيره ﴿أَوْفُواْ الكيل﴾ أي أوفوا الناس حقوقهم في الكيل والوزن ﴿وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين﴾ أي من المُنْقِصين المُطَفِّفين في المكيال والميزان ﴿وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم﴾ أي زنوا بالميزان العدل السويّ ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ﴾ أي لا تُنقصوا حقوق الناس بأي طريق كان بالهضم أو الغبنأو الغصب ونحو ذلك ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ أي ولا تُفسدوا في الأرض بأنواع الفساد من قطع الطريق، والغارة، والسلب والنهب ﴿واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين﴾ أي خافوا الله لاذي خلقكم وخلق الخليقة المتقدمين قال مجاهد: الجِبِلَّة: الخليقة ويعني بها الأمم السابقين ﴿قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين﴾ أي ما أنت إلا من المسحورين، سُحِرت كثيراً حتى غُلب على عقلك ﴿وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ أي أنت إنسانٌ مثلنا ولست برسول ﴿وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين﴾ أي ما نظنك يا شعيب إلاّ كاذباً، تكذب علينا فتقول أنا رسول الله ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء﴾ أي أنزلْ علينا العذاب قِطِعاً من السماء، وهو مبالغة في التكذيب ﴿إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ أي إن كنت صادقاً فيما تقول قال الرازي: وإِنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه، فظنوا أنه إذا لم يقع ظهرَ كذبه فعندها أجابهم شعيب ﴿قَالَ ربي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي الله أعلم بأعمالكم، فإِن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به وهو غير ظالم لكم، وإِن كنتم تستحقون عقاباص آخر فإِليه الحكم والمشيئة، قال تعالى ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة﴾ أي فكذبوا شعيباً فأخذهم ذلك العذاب الرهيب عذاب يوم الظلة وهي السحابة التي أظلتهم، قال المفسرون: بعث الله

صفحة رقم 360

عليهم حراً شديداً فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابةً أظلَّتهم من الشمس، فوجدوا لها برداً ونادى بعضهم بعضاً حتى اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم ناراً فاحترقوا جميعاً، وكان ذلك من أعظم العذاب ولهذا قال ﴿إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي كان عذاب يوم هائل، عظيم في الشدة والهَول ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾ وإِلى هنا ينتهي آخر القصص السبع التي أوحيت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لصرفه عن الحرص على إسلام قومه، وقطع رجائه ودفع تحسره عليهم كما قال في أول السورة ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ ففيها تسلية لرسول الله وتخفيفٌ عن أحزانه وآلامه، وإِنما كرر في نهاية كل قصة قوله ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾ ليكون ذلك أبلغ في الاعتبار، وأشدَّ تنبيهاً لذوي القلوب والأبصار.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - إطلاق الكل وإِرادة البعض ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين﴾ أراد بالمرسلين نوحاً وإِنما ذكره بصيفة الجمع تعظيماً له وتنبيهاً على أن من كذب رسولاً فقد كذب جميع المرسلين.
٢ - الاستفهام الإِنكاري ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون﴾ ؟
٣ - الاستعارة اللطيفة ﴿فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً﴾ أي احكم بيننا وبينهم بحكمك العادل، استعار الفتاح للحاكم والفتح للحكم لأنه يفتح المنغلق من الأمر ففيه استعارة تبعية.
٤ - الطباق ﴿يُفْسِدُونَ.. وَلاَ يُصْلِحُونَ﴾.
٥ - الجناس غير التام ﴿قَالَ.. القالين﴾ الأول من القول والثاني من قلى إذا أبغض.
٦ - الإِطناب ﴿أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين﴾ لأن وفاء الكيل هو في نفسه نهي عن الخسران، وفائدته زيادة التحذير من العدوان.
٧ - المبالغة ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين﴾ والمسحَّر مبالغة عن المسحور.
٨ - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل ﴿يُفْسِدُونَ، يُصْلِحُونَ، الأرذلون﴾.

صفحة رقم 361
صفوة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد علي بن الشيخ جميل الصابوني الحلبي
الناشر
دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة
الطبعة
الأولى، 1417 ه - 1997 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية