
(إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا).
أما أولها: وهي التوبة فهي أعلى درجات الاعتذار عن العمل السيئ، وقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني في مفرداته: " التوبة ترك الذنب على أكمل وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه، إما أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا أو فعلت وأسات وقد أقلعت، ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة، والتوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة فمن اجتمعت له هذه الأربع فقد كمل شرائط التوبة ".
ولا شك أن من تكون له هذه الإنابة يغسل قلبه من أدران الشر، ويرحض

عنه كل ما كان من المآثم التي ارتكبها في حال غيه، ولذلك يغفر اللَّه ما قد سلف، ويبتدئ التائب صفحة جديدة تحل محل صفحة السوء، ويبدل مكان السيئات حسنات، ويقول اللَّه تعالى في ذلك: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ...).
هذا هو الأمر الأول، وهو الأساس للأمرين الآخرين، بل هو النور الهادي لهما، أما الأمر الثاني: فهو الإيمان بأن ينتقل من دركة المعصية إلى درجة الوحدانية، ومن دركة الكفر بمحمد والقرآن والعناد إلى درجة الإذعان للحق والإيمان به والجهاد في سبيله.
وأما الأمر الثالث، فهو العمل الصالح، وقد قال تعالى: (وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا) وإن ذلك العمل يؤكد الإيمان ويوثقه، لأن والعمل ثمرة الإيمان، أو هو جزء منه، كما أن ثمرة العلم العمل، والإيمان أعلى درجات العلم، إذ هو علم وتصديق وإذعان وتسليم، وقد أكد سبحانه وتعالى العلم فقال (وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا) وذلك بذكر المصدر تأكيدا لمعنى العمل، وليكون ذلك العمل بعد الإيمان مقابلا للعمل الذي كان في جاهليتهم، ولبيان أنهم يعملون عمل عباد الرحمن، الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما.
وقد بين سبحانه وتعالى جزاء هذه المثوبة الكاملة، وذلك العمل الصالح، والأيمان الكامل فقال: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) الفاء واقعة في جواب الشرط، أو ما هو في معنى الشرط، لأن الموصول في معنى الشرط، وأولئك إشارة إلى الذين كانت فيهم هذه الأحوال من توبة وإيمان وعمل صالح، والإشارة إلى الموصوف بصفات إشارة إلى هذه الصفات، وإلى أنها سبب الحكم، ولم تجد الحكم جزاء بالنعيم، وسيجيء ذلك من بعد، إنما الجزاء أن يبدل سيئاتهم حسنات، والتبديل هو التغيير، أي أنه سبحانه وتعالى يغير سيئاتهم، ويضع محلها حسنات، وإن ذلك بلا ريب واضح من التوبة، ذلك أن التوبة كما قررنا ترحض النفوس، وتزيل عنها أدرانها، وتجعلها مجلوة مصقولة، وصالحة لأن يحل محلها

الطهر والنقاء، والعمل الصالح المجدي، ألم تر إلى عمر بن الخطاب الذي مكث يكابر ويغلظ في عناد، ويشتد على المؤمنين بضع سنين بعد البعث المحمدي، كيف تاب وآمن وعمل عملا صالحا، ألا تراه قد زالت مآثمه من قلبه وأحل اللَّه تعالى محلها عملا صالحا، فَحَلَّت الأعمال الصالحة ذات الأثر البعيد في الإسلام محل ما كان منه في الجاهلية، ولذا قال سبحانه (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) فالتبديل على هذا هو تغيير ما كان في النفس من أدران السيئات، وإحلال طيبات الأعمال والنيات محلها.
وختم اللَّه سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) هاتان صفتان من صفات اللَّه تعالى أنه يغفر السيئات ويسترها، ويرحم عباده بهذا الغفران، وكذلك شأنه الأعلى، شأنه سبحانه يقرب عباده بالغفران والرحمة وفتح باب التوبة لمن أراد من عباده الصالحين.
ثم قال تعالى: