
لا يفارق. والرابع: هلاكاً، قاله أبو عبيدة: والخامس: أن الغرام في اللغة: أشدُّ العذاب، قال الشاعر:
وَيَوْمَ النِّسار وَيَوْمَ الجِفا | رِكانَا عذاباً وكانَا غَرَاماً» |
قوله تعالى: ساءَتْ مُسْتَقَرًّا أي: بئس موضع الاستقرار وموضع الإِقامة هي.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يَقْتِروا» مفتوحة الياء مكسورة التاء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «يَقْتُروا» بفتح الياء وضم التاء. وقرأ نافع، وابن عامر: «يُقْتِروا» بضم الياء وكسر التاء. وفي معنى الكلام قولان «٢» : أحدهما: أن الإِسراف: مجاوزة الحدِّ في النفقة، والإِقتار: التقصير عمّا لا بُدَّ منه، ويدل على هذا قولُ عمر بن الخطاب: كفى بالمرء سَرَفاً أن يأكل كلَّ ما اشتهى. والثاني: أنَّ الإِسراف: الإِنفاق في معصية الله وإِن قَلَّ، والإِقتار: منع حق الله تعالى، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج في آخرين. قوله تعالى: وَكانَ يعني الإِنفاق بَيْنَ ذلِكَ أي: بين الإِسراف والإِقتار قَواماً أي: عَدْلاً قال ثعلب: القَوام، بفتح القاف:
الاستقامة والعَدْل، وبكسرها: ما يدوم عليه الأمر ويستقرّ.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(١٠٥٤) أحدها: ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أيُّ الذَّنْب أعظم؟ قال: «أن تَجْعَلَ لله نِدّاً وهو خَلَقَكَ»، قلتُ: ثم أيّ؟ قال: «أن تَقْتُلَ وَلَدَكَ مخافة أن يَطْعَمَ معك»، قلت: ثم أيّ؟ قال: «أن تُزانيَ حليلة جارك»، فأنزل الله تعالى تصديقها: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية.
(١٠٥٥) والثاني: أن ناساً من أهل الشرك قَتلوا فأكثَروا وزَنَوْا فأكثَروا، ثم أتَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا: إِن الذي تقولُ وتدعو إِليه لَحَسَنٌ لو تُخبرنا أنّ لِمَا عَمِلنا كفارة، فنزلت هذه الآية إلى قوله
صحيح. أخرجه البخاري ٤٨١٠ ومسلم ١٢٢ وأبو داود ٤٢٧٤ والنسائي في «التفسير» ٤٦٩ والحاكم ٢/ ٤٠٣ والبيهقي ٩/ ٩٨ والواحدي في أسباب النزول ٦٥٨ من طريق يعلى بن مسلم به.
وأخرجه الطبري ٢٦٥١٢ من طريق منصور بن المعتمر عن سعيد بن جبير به.
__________
(١) البيت لبشر بن أبي خازم، كما في «تفسير الطبري» ٩/ ٤١٠ وفي «اللسان» - غرم- نسبه للطرماح.
(٢) قال الطبري رحمه الله ٩/ ٤١٢: والصواب من القول أن معنى الإسراف الذي عناه الله في هذا الموضع: ما جاوز الحد الذي أباحه الله لعباده إلى ما فوقه، والإقتار: ما قصر عما أمر الله به، والقوام بين ذلك. [.....]

تعالى: غَفُوراً رَحِيماً، أخرجه مسلم من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(١٠٥٦) والثالث: أن وحشيّا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد أتيتك مستجيراً فأجِرني حتَى أسمع كلام الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: قد كنت أُحِبُّ أن أراك على غير جوار، فأما إِذا أتيتَني مستجيراً فأنت في جواري حتى تَسمع كلام الله، قال: فإنِّي أشركت بالله وقتلتُ النَّفْس التي حرَّم الله وزنيتُ، فهل يقبل الله مني توبة؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى نزلت هذه الآية، فتلاها عليه، فقال: أرى شرطاً، فلعلِّي لا أعمل صالحاً، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله، فنزل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ، فدعاه فتلاها عليه، فقال: ولعلِّي ممن لا يشاء، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله، فنزلت: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الآية «١»، فقال: نعم، الآن لا أرى شرطاً، فأسلم، رواه عطاء عن ابن عباس وهذا وحشيّ هو قاتل حمزة وفي هذا الحديث المذكور عنه نظر، وهو بعيد الصحّة، والمحفوظ في إِسلامه غير هذا، وأنه قَدِم مع رسل الطّائف فأسلم من غير اشتراط.
وقوله تعالى: يَدْعُونَ معناه: يَعْبُدون. وقد سبق بيان قتل النفس بالحق في الأنعام «٢».
قوله تعالى: يَلْقَ أَثاماً وقرأ سعيد بن جبير، وأبو المتوكل: «يُلَقَّ» برفع الياء وفتح اللام وتشديد القاف مفتوحة. قال ابن عباس: يَلْقَ جزاءً. وقال مجاهد، وعكرمة: هو وادٍ في جهنم. وقال ابن قتيبة: يَلْقَ عقوبة، وأنشد:
جَزَى اللهُ ابنَ عُرْوَةَ حيْثُ أمْسَى | عُقُوقاً والعُقُوق لَهُ أثام «٣» |
مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بنا في دِيارِنا | تَجِدْ حَطَباً جزْلاً وناراً تَأجَّجَا |
__________
(١) الزمر: ٥٣.
(٢) الأنعام: ١٥١.
(٣) البيت لبلعاء بن قيس الكناني كما في «غريب القرآن» ٣١٥. ونسبه في «اللسان» - أثم- إلى شافع الليثي.
والعقوق: عدم بر الوالدين وقطع صلتهما.

جعفر مثله، إِلا أن العين مكسورة، و «العذابَ» بالنصب.
قوله تعالى: وَيَخْلُدْ وقرأ أبو حيوة وقتادة والأعمش: «ويُخْلَد» برفع الياء وسكون الخاء وفتح اللام مخففة. وقرأ عاصم الجحدري وابن يعمر وأبو المتوكل مثله، إِلا أنهم شدَّدوا اللام.
فصل:
ولعلماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية قولان: أحدهما: أنها منسوخة وفي ناسخها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ «١»، قاله ابن عباس. وكان يقول: هذه مكية، والتي في النساء مدنية. والثاني: أنها نسخت بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ الآية «٢». والثالث: أنّ الأولى نسخت بالثانية، وهي: إِلَّا مَنْ تابَ.
والقول الثاني: أنها محكمة والخلود إِنما كان لانضمام الشرك إِلى القتل والزنا. وفساد القول الأول ظاهر، لأن القتل لا يوجب تخليداً عند الأكثرين وقد بيَّنَّاه في سورة النساء «٣»، والشِّرك لا يُغْفَر إِذا مات المشرك عليه، والاستثناء ليس بنسخ.
قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ. قال ابن عباس:
(١٠٥٧) قرأنا على عهد رسول الله سنتين: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ثم نزلت إِلَّا مَنْ تابَ فما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم فرح بشيء فرحه بها، وب إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً.
قوله تعالى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ اختلفوا في كيفية هذا التبديل وفي زمان كونه، فقال ابن عباس: يبدِّل الله شركهم إِيماناً، وقتلهم إِمساكاً، وزناهم إِحصاناً وهذا يدل: أولا:
على أنه يكون في الدنيا، وممن ذهب إلى هذا المعنى سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد. والثاني: أن هذا يكون في الآخرة، قاله سلمان رضي الله عنه، وسعيد بن المسيّب، وعليّ بن الحسين. وقال عمرو بن ميمون: يبدِّل الله سيئات المؤمن إِذا غفرها له حسنات، حتى إِن العبد يتمنَّى أن تكون سيئاته أكثر مما هي. وعن الحسن كالقولين. وروي عن الحسن أنه قال: وَدَّ قومٌ يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا استكثروا من الذُّنوب فقيل: من هم؟ قال: هم الذين قال الله تعالى فيهم: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ.
(١٠٥٨) ويؤكِّد هذا القولَ حديثُ أبي ذرّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «يؤتى بالرّجل يوم القيامة، فيقال:
صحيح. أخرجه مسلم ١٩٠ والترمذي ٢٥٩٦ وأحمد ٥/ ١٧٠ وابن حبان ٧٣٧٥ وأبو عوانة ١/ ١٦٩- ١٧٠ وابن مندة في «الإيمان» ٨٤٧- ٨٤٩ من طرق عن الأعمش به. وأخرجه الترمذي في «الشمائل» ٢٢٩ والبغوي ٤٢٥٦ من طرق كلهم من حديث أبي ذر.
__________
(١) النساء: ٩٣.
(٢) النساء: ٤٨.
(٣) النساء: ٩٣.