
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٩ الى ٦١]
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)اللغة:
(وَالْقَواعِدُ) : جمع قاعد بغير تاء وفي المصباح: «وقعدت المرأة عن الحيض أسنت وانقطع حيضها فهي قاعد بغير تاء والجمع قواعد صفحة رقم 648

وقعدت عن الزوج فهي لا تشتهيه» ولولا تخصيصهن بذلك لوجبت التاء نحو ضاربة وقاعدة من القعود المعروف.
(مُتَبَرِّجاتٍ) : مظهرات للزينة، وحقيقة التبرج تكلف اظهار ما يجب اخفاؤه من قولهم سفينة بارج لا غطاء عليها والبرج محركة سعه العين يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شيء إلا انه اختص بأن تتكشف المرأة للرجال بابداء زينتها وإظهار محاسنها للرجال وفي المختار: «والتبرج اظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال» فالبرج يعطي معنى الاتساع يقال برج يبرج برجا من باب تعب اتسع أمره في الأكل والشرب ونحوهما، وبرجت عينه اتسعت بحيث يرى بياضها محدقا بالسواد كله، والبرج الركن والحصن والقصر وكل بناء مرتفع على شكل مستدير أو مربع ويكون منفردا أو قسما من بناية عظيمة وجمعه برج بضمتين وأبراج وأبرجة، والبرج أيضا أحد بروج السماء وهي اثنا عشر: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، والبارجة سفينة كبيرة للقتال وتجمع على بوارج، ومن أقوالهم: ما فلان إلا بارجة قد جمع فيه كل الشر أي انه شرير.
(صَدِيقِكُمْ) الصديق يكون واحدا أو جمعا وكذلك الخليط والقطين والعدو وهو الصادق في المودة والمخالّة، قال الشاعر:
دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا | بأعين أعداء وهن صديق |
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت | له عن عدو في ثياب صديق |
على لاحب لا يهتدى بمناره | إذا سافه العود النباطي جرجرا |

وسافه شمه والعود المسن من الإبل والنباطي: الضخم وجرجر رغا وضج وأخرج جرته فقوله «لا يهتدى بمناره» لم يرد أن له منارا لا يهتدى به ولكن أراد أنه لا منار له فيهتدى بذلك المنار.
وكذلك المراد هنا والقواعد من النساء اللاتي لا زينة لهن فيتبرجن بها لأن الكلام فيمن هي بهذه المثابة، وكأن الغرض من ذلك أن هؤلاء استعفافهن عن وضع الثياب خير لهن فما ظنك بذوات الزينة من الثياب، وأبلغ ما في ذلك أنه جعل عدم وضع الثياب في حق القواعد من الاستعفاف إيذانا بأن وضع الثياب لا مدخل له في العفة، هذا في القواعد فكيف بالكواعب؟!.
٢- الإيضاح:
وفي قوله «ولا على أنفسكم الآية» فن الإيضاح وهو أن يذكر المتكلم كلاما في ظاهره لبس ثم يوضحه في بقية كلامه، والإشكال الذي يحله الإيضاح يكون في معاني البديع من الألفاظ وفي اعرابها ومعاني النفس دون الفنون، وقد سبق ذكره في هذا الكتاب، وهنا في هذه الآية ترد على ظاهرها أسئلة أولها: ما الفائدة في الاخبار برفع الجناح عمن أكل من بيته؟ وكيف يظن أن على من أكل من بيته جناحا؟
وثانيها: لم يذكر بيوت الأولاد كما ذكر بيوت غيرهم من الأقارب القريبة؟
وثالثها: ما فائدة قوله «أو ما ملكتم مفاتحه» وظاهر الحال أن هذا داخل في قوله «من بيوتكم» ؟

ورابعها: كيف وقعت التسوية بين الصديق وبين هؤلاء الأقارب؟
والأجوبة التي تتضح بها هذه الإشكالات الأربعة هي:
الجواب الأول:
أما فائدة الإخبار برفع الجناح عمن أكل من بيته فإنما ذكر ذلك توطئة ليبني عليه ما يعطفه على جملته من البيوت التي قصد إباحة الأكل منها، فإنه إذا علم أن الإنسان لا جناح عليه أن يأكل من بيته فكذلك لا جناح عليه أن يأكل من هذه البيوت ليشير الى أن أموال هذه القرابة كمال الإنسان، وإذا تساوت هذه الأموال سرى ذلك التساوي الى الأزواج، فيكون سبحانه قد أدمج في ذلك الحض على صلة الأرحام ومعاملتهم معاملة الإنسان نفسه.
الجواب الثاني:
وأما عدم ذكر بيوت الأولاد فإنما ذكر من الأموال ما يظن بأن الأكل منه محظور فاحتاج الى بيان الإباحة، وأما أموال الأولاد فتصرف الوالدين فيها كتصرفهم في أموالهم أنفسهم، لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه، ألا ترى أن الشرع يوجب على الولد نفقة الوالدين إذا كانا محتاجين؟ وفي الحديث: «إن طيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه».
الجواب الثالث:
وأما زعم القائل بأن الكلام فيه تداخل لأن قوله «أو ما ملكتم مفاتحه» هو ما في بيوتهم فإنه يحتمل أن يراد بما في البيوت المال التليد

العتيد وما ملك الإنسان مفاتحه: المال الطريف المكتسب الذي يتسبّب الإنسان في تحصيله ويتعب في اكتسابه.
الجواب الرابع:
وأما سر التسوية بين الصديق وبين هؤلاء الأقارب فهو تعريف حق الصديق الذي ساوى باطنه ظاهره في اخلاص المودة، ولا يسمى صديقا حتى يكون كذلك، فإن اشتقاق اسمه من صدق المحبة وصفاء المودة وهو الذي أشار اليه سبحانه بقوله «ولا صديق حميم» فإذا كان الصديق بهذه المثابة وعلى هذه الصفة ساوى هذه القرابة القريبة فليس على الإنسان جناح إذا تصرف في ماله تصرفه في مال نفسه.
فنون أخرى في الآية الكريمة:
هذا وقد اشتملت هذه الآية الكريمة بعض إيضاح هذه الإشكالات على تسعة أضرب من فنون البديع ندرجها فيما يلي مع التلخيص والاختصار:
آ- صحة التقسيم: وذلك لاستيعاب الكلام جميع أقسام الأقارب القريبة بحيث لم يغادر منها شيئا.
ب- التهذيب: وذلك في انتقال الكلام على مقتضى البلاغة في هذا المكان، فإن مقتضى البلاغة تقديم الأقرب فالأقرب كما جاء فيها.
ج- حسن النسق: وذلك في اختياره «أو» لعطف الجمل وهي تدل على الإباحة.
د- الكناية: فقد كنى سبحانه عن الأموال بالبيوت التي هي حرز الأموال ومقرها من باب تسمية الشيء بما جاوره، كقولهم: سال الميزاب وجرى النهر.

هـ- المناسبة: وذلك بمناسبة الألفاظ بعضها ببعض في الزنة وهي واضحة في لفظة آبائكم وإخوانكم وأعمامكم وأخوالكم.
والمثل: وذلك في قوله: «ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا وأشتاتا» خرج مخرج المثل السائر الذي يصح أن يتمثل به في كل واقعة تشبه واقعته.
ز- التذييل: فإن الكلام الذي خرج مخرج المثل جاء تذييلا لمعنى الكلام المتقدم لقصد توكيده وتقريره.
ح- المطابقة: وذلك في قوله «جميعا أو أشتاتا» فإن هاتين اللفظتين تضادتا تضادا أوجب لهما وصفها بالمطابقة لأن المعنى جميعا أو متفرقا.
ط- المقارنة: وذلك في موضعين: أحدهما اقتران التمثيل بالتذييل كما تقدم بيانه، والثاني اقتران المطابقة بالتمكين فإن فاصلة هذا الكلام في غاية التمكين.
الفوائد:
ذكرنا في باب الإعراب أقرب الوجوه في تأويل قوله تعالى «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ» الآية ووعدناك بأن نورد بقية الوجوه التي ذكرها المفسرون: فقد كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات الى بيوت أزواجهم وأولادهم والى بيوت قراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها، فخالج قلوب المطعمين والمطعمين ريبة في ذلك وخافوا أن يلحقهم