الحكم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر حالات الاستئذان في داخل الأسرة وتخفيف الثياب الظاهرة عن العجائز
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
الإعراب:
ثَلاثُ عَوْراتٍ خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه ثلاث عورات، أي هذه ثلاثة أوقات عورات، وحذف المضاف اتساعا. ويقرأ بالنصب على أنه بدل من قوله: ثَلاثَ مَرَّاتٍ وهذا ظرف زمان أي ثلاثة أوقات، وأخبر عن هذه الأوقات بالعورات لظهورها فيها، مثل ليلك نائم، ونهارك صائم. وتسكين واو عَوْراتٍ لأنه حرف العلة، والحركة تستثقل على حرف العلة.
وقرئ بفتح الواو على قياس جمع التصحيح، نحو ضربة ضربات.
طَوَّافُونَ خبر مبتدأ محذوف أي هم طوافون، أي أنتم طوافون، وبَعْضُكُمْ بدل من ضمير طَوَّافُونَ أي يطوف بعضكم على بعض.
وَالْقَواعِدُ جمع قاعد: وهي التي قعدت عن الزواج للكبر، ولم يدخلها الهاء لأن المراد
به النسب، أي ذات قعود، كقولهم: حامل وحائض وطاهر وطالق، أي ذات حمل وطمث وطهر وطلاق.
فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ دخول الفاء في فَلَيْسَ يدل على أن اللَّاتِي في موضع رفع لأنه صفة للقواعد لا للنساء لأنك لو جعلته صفة للنساء، لم يكن لدخول الفاء وجه لأن الموصول هي التي يدخل الفاء في خبرها، فإذا جعلت اللَّاتِي صفة للقواعد، فالصفة والموصوف بمنزلة شيء واحد.
غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ حال من ضمير (هن) في ثيابهن، أو من ضمير يَضَعْنَ.
البلاغة:
عَلِيمٌ حَكِيمٌ سَمِيعٌ عَلِيمٌ صيغة مبالغة.
المفردات اللغوية:
الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ العبيد والإماء. وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ الصبيان الذين لم يبلغوا من الأحرار، والحلم من حلم: وقت البلوغ: إما بالاحتلام وإما ببلوغ خمس عشرة سنة.
ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي في ثلاثة أوقات. وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ أي تخلعون ثيابكم وقت الظهر، وقوله: من الظهيرة: بيان للحين. وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ لأنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف. ثَلاثُ عَوْراتٍ أي ثلاثة أوقات يختل فيها تستركم وتبدو فيها العورات لإلقاء الثياب، والعورة: الخلل، والأعور: المختل العين، وسميت كل حالة عورة لأن الناس يختل تحفظهم وتسترهم فيها. لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ أي لا على المماليك والصبيان.
جُناحٌ إثم وذنب في الدخول عليكم بغير استئذان. بَعْدَهُنَّ بعد الأوقات الثلاثة.
طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي هم طوافون عليكم للخدمة والمخالطة وكثرة المداخلة. وفيه دليل على تعليل الأحكام. بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ بعضكم طائف على بعض، أو يطوف بعضكم على بعض، والجملة مؤكدة لما قبلها.
كَذلِكَ مثل ذلك التبيين لما ذكر. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي الأحكام. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأمور خلقه وأحوالهم. حَكِيمٌ بما دبره لهم وشرع. ولكن تهاون الناس في ترك الاستئذان.
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ أيها الأحرار، ولا يدخل فيهم المماليك. فَلْيَسْتَأْذِنُوا في جميع الأوقات. كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي الأحرار الكبار الذين بلغوا من قبلهم.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ كرره تأكيدا ومبالغة في الأمر بالاستئذان.
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ العجائز اللاتي قعدن عن الحيض والحمل والولد لكبرهن.
لا يَرْجُونَ نِكاحاً لا يطمعن في النكاح لكبرهن. فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أن يتخففن بإلقاء الثياب الظاهرة كالجلباب والرداء، والقناع فوق الخمار. غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي غير مظهرات زينة خفية كقلادة وسوار وخلخال. وأصل التبرج: التكلف في إظهار ما يخفى من الزينة، مأخوذ من قولهم: سفينة بارجة أي لا غطاء عليها، إلا أنه خص بكشف المرأة زينتها ومحاسنها للرجال. وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ أي يرتدين أكمل الثياب خير لهن من الوضع لأنه أبعد من التهمة. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لمقالهن للرجال وقولكم. عَلِيمٌ بمقصودهن وبما في قلوبكم.
سبب النزول:
قال ابن عباس: وجّه رسول الله صلّى الله عليه وسلم غلاما من الأنصار يقال له:
مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك، فقال: يا رسول الله وددت لو أن الله تعالى أمرنا ونهانا في حال الاستئذان، فأنزل الله تعالى هذه الآية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ...
وقال مقاتل: نزلت في أسماء بنت أبي مرثد كان لها غلام كبير، فدخل عليها في وقت كرهته، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية.
وفي رواية: ثم انطلق- أي عمر- إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فوجد هذه الآية قد أنزلت، فخرّ ساجدا، شكرا لله. وهذه إحدى موافقات رأي عمر للوحي.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي أنه قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعجبهم أن يباشروا نساءهم في هذه الساعات، فيغتسلوا، ثم يخرجوا إلى الصلاة، فأمرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا
عليهم في تلك الساعات إلا بإذن بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الآية.
فإذا صح أن سبب النزول قصة أسماء المتقدمة، كان قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطابا للرجال والنساء بطريق التغليب لأن دخول سبب النزول في الحكم قطعي، كما هو الراجح في الأصول.
التفسير والبيان:
هذه الآيات عود إلى تتمة الأحكام السالفة في هذه السورة، بعد الفراغ من الإلهيات الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيرها، والوعد عليها والوعيد على الإعراض عنها. وموضوع هذه الآيات استئذان الأقارب بعضهم على بعض، والتخفيف عن العجائز بإلقاء الثياب الظاهرة. أما ما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض. وتفسير الآيات ما يأتي:
الحكم الحادي عشر:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ، وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ أي أيها المؤمنون والمؤمنات بالله ورسوله يطلب من خدمكم مما ملكت أيمانكم من العبيد والإماء، وأطفالكم الصغار أن يستأذنوكم في ثلاثة أحوال أو أوقات:
الأول- من قبل صلاة الفجر لأنه وقت النوم في الفراش واليقظة من المضاجع وتغيير ثياب النوم وارتداء ثياب اليقظة، ويحتمل انكشاف العورة.
الثاني- حين تخلعون ثياب العمل وتستعدون للنوم وقت الظهيرة أو وقت القيلولة لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله.
الثالث- من بعد صلاة العشاء لأنه وقت خلع ثياب اليقظة، ولبس ثياب النوم.
فيؤمر الخدم والأطفال ألا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال لما يخشى من انكشاف العورات ونحو ذلك من مقدمات النوم والراحة، فهي ساعات الخلوة والانفراد ووضع الملابس.
والأمر في قوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ ظاهر في الوجوب، لكن قال الجمهور: إنه مصروف إلى الندب والاستحباب، والتعليم والإرشاد إلى محاسن الآداب، مثل
قوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم عن عبد الله بن عمر: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين».
فلو حدث دخول بغير استئذان لم يكن ذلك معصية، وإنما خلاف الأولى، وإخلال بالأدب. فإن علم الخادم أن في دخوله على سيده إيذاء له، حرم الدخول بسبب الأذى لغيره.
وزعم البعض أن حكم الاستئذان في الأوقات الثلاثة السابقة منسوخ لجريان عمل الصحابة والتابعين في الصدر الأول على خلافه، أو أنه كان يعمل بها عند عدم وجود ستور للبيوت. والأصح أن حكم الاستئذان في هذه الأوقات محكم غير منسوخ، وهو قول أكثر أهل العلم. قال أبو حنيفة رحمه الله: لم يصر أحد من العلماء إلى أن الأمر بالاستئذان منسوخ.
والجمهور على أن الخطاب في الآية عام في الذكور والإناث من الأرقاء، الكبار منهم والصغار. وروي عن ابن عباس أنه خاص بالصغار، كما روي عن السّلمي أنه خاص بالإناث، وكلا الرأيين غير معقول.
والمراد بقوله تعالى: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ هم الصبيان من الذكور والإناث، سواء أكانوا أجانب أم محارم. وهم المراهقون لقوله تعالى:
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [النور ٢٤/ ٣١].
وعلة طلب الاستئذان ما قال الله تعالى:
ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ أي إن هذه الأوقات المذكورة هي ثلاثة أوقات عورات يختل فيها التستر عادة، والعورة لا يجوز النظر إليها. وما عدا ذلك فهو مباح كما قال سبحانه:
لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ أي لا إثم ولا حرج في ترك الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة، وإنما الأمر مباح على أصل الإباحة في الأشياء.
وأما الوقت الممتد بين العشاء والفجر، فيدخل في وقت المنع قبل صلاة الفجر، من باب أولى، وإنما سكت عنه النص لندرة الدخول فيه بسبب النوم، ولأن المعمول به عادة حصول الاستئذان فيه، منعا من التهمة وسوء الظن.
وعلة الإباحة كما ذكر تعالى:
طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ، بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي إن هؤلاء الخدم والأطفال الصغار يطوفون عليكم في الخدمة وغير ذلك، ويترددون على مجالسكم أنسا بكم ومعاشرة ومداخلة، وقضاء حاجات، وبعضكم طائف عادة على بعض، وكرر الله تعالى ذلك للتأكيد، فالتعبير الأول تسلية للمماليك والخدم، والتعبير الثاني مراعاة لجانب السادة المخدومين وإشعار بحاجتهم إلى خدمات الخدم.
وفيه دلالة على تعليل الأحكام لأن الله تعالى نبّه على علة طلب الاستئذان بقوله: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ كما نبّه على أن التطواف علة الإباحة في غير الأوقات الثلاثة، ويغتفر في الطوافين دفعا للحرج والمشقة ما لا يغتفر في غيرهم.
لهذا
روى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في الهزة: «إنها ليست بنجسة، إنها من الطوافين عليكم، والطوافات».
وفي الآية دلالة أيضا على أن المميز غير البالغ يعوّد على الأدب والنظام والانضباط والإعداد لتحمل المسؤولية والتكاليف الشرعية، قال تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم ٦٦/ ٦] أي أدبوهم وعلموهم.
وهذا التأديب والتعليم والبيان والتشريع بفضل الله تعالى، لذا قال:
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي مثل ذلك التبيين لما ذكر من الأحكام يبين الله لكم الشرائع والأنظمة في آياته البينة الواضحة الدلالة على معانيها ومقاصدها، والله عليم بأحوال عباده وبما يصلحهم وما لا يصلحهم، حكيم في تدبير أمورهم وتشريع الأصلح الأنسب لهم في الدنيا والآخرة.
الحكم الثاني عشر:
انتقل البيان لمعرفة حكم استئذان البالغين الأحرار، فقال تعالى:
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي إذا بلغ الحلم الأطفال الذين كانوا يستأذنون في العورات الثلاث، فيجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال، مع الأجانب والأقارب، كما استأذن الكبار الذين سبقوهم من ولد الرجل وأقاربه. فهذه الآية مبينة لآية: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [النور ٢٤/ ٣١] أي أن الطفل الذي لم يظهر على العورات مستثنى، فإذا ظهر على العورات، وذلك بالبلوغ، فيستأذن.
وأفرد «الطفل» في الآية لأنه يراد به الجنس.
ولم يذكر المماليك هنا، وإنما بقي الحكم السابق مقررا عليهم وهو الاستئذان في أوقات ثلاثة لأن حكم كبارهم وصغارهم واحد.
وبلوغ الحلم إما بالاحتلام أو ببلوغ خمس عشرة سنة في رأي أكثر العلماء لما
روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه عرض على النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أحد، وله أربع عشرة سنة، فلم يجزه، وعرض عليه يوم الخندق، وله خمس عشرة سنة فأجازه.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يكون الغلام بالغا حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ويستكملها، والفتاة حتى تبلغ سبع عشرة سنة لقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
[الأنعام ٦/ ١٥٢] وأقل حد لبلوغ الأشد ثماني عشرة سنة، فيبنى الحكم عليها للتيقن، أما الإناث فيكون إدراكهن ونشوؤهن أسرع، فنقص في حقهن سنة «١».
ويرى جماعة من العلماء منهم الشافعي أن الإنبات (إنبات الشعر) من أمارات البلوغ لما
روى عطية القرظي أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بقتل من أنبت من قريظة، واستحياء من لم ينبت، قال: فنظروا إلي فلم أكن أنبتّ، فاستبقاني صلّى الله عليه وسلم.
ولا يعتبر الإنبات عند الحنفية بلوغا لظاهر قوله تعالى:
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ فإنه ينفي كون الإنبات بلوغا إذا لم يحتلم، كما نفى كون خمس عشرة سنة بلوغا.
ثم عاد البيان القرآني لتأكيد نعمة الله بتشريع هذه الأحكام فقال تعالى:
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي كما بين لكم ما ذكر بيانا كافيا شافيا، يبيّن لكم أحكاما أخرى تحقق الاستقرار والاطمئنان وسعادة الدنيا والآخرة، والله عليم بأحوال عباده، حكيم في معالجة أمورهم.
الحكم الثالث عشر:
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ هذا بيان حكم النساء العجائز، والمعنى: إن النساء اللواتي كبرن، وانقطع الحيض عنهن، ويئسن من الولد، ولم يبق لهن رغبة في التزوج، فلا إثم عليهن ولا حرج أن يخففن في ملابسهن ويخلعن ثيابهن الظاهرة
كالجلباب والرداء والقناع فوق الخمار (غطاء الرأس) إذا لم يقصدن إظهار ما عليهن من الزينة الخفية كشعر ونحر وساق، ولم يكن فيهن جمال ظاهر، فإن وجد حرم خلع الثياب الظاهرة، ولم يؤد إلى كشف شيء من العورة.
وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي أن التعفف والاحتياط بالستر، وإبقاء ثيابهن المعتادة، وإن كان جائزا، خير وأفضل لهن، والله سميع لأحاديثهن وكلامهن مع الرجال وكلام الرجال معهن، عليم بمقاصدهن لا تخفى عليه خافية من أمرهن وغير ذلك، فإياكم ووساوس الشيطان.
فقه الحياة أو الأحكام:
اشتملت الآيات على أحكام ثلاثة هي:
١- يندب ندبا مؤكدا للمماليك العبيد والإماء والأطفال غير البالغين الاستئذان عند الدخول على الأبوين (عماد الأسرة) في أوقات ثلاثة: هي ما قبل صلاة الفجر، وعند القيلولة ظهرا، وما بعد صلاة العشاء. قال ابن عباس: إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحبّ السّتر، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال «١»، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل، والرجل على أهله، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير، فلم أر أحدا يعمل بذلك.
وسبب تخصيص هذه الأوقات أنها أوقات تقتضي عادة الناس كشف شيء من عوراتهم فيها، فطلب فيها الاستئذان منعا من الاطلاع على العورات. وهذه الآية خاصة، وأما التي سبق ذكرها فهي عامة، وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها.
٢- يجب على البالغين الأحرار الاستئذان في كل وقت عند الدخول على الآخرين أجانب أو أقارب.
٣- يباح للعجائز القاعدات في البيوت اللواتي لا يشتهين عادة من الرجال خلع الثياب الظاهرة كالجلباب والرداء والقناع فوق الخمار، دون أن يؤدي ذلك إلى كشف شيء من العورة، ودون قصد التبرج أو إظهار الزينة لينظر إليهن، وإن كن لسن بمحل لذلك عادة، والاستعفاف خير وأفضل من فعل المباح.
وإنما خص الله تعالى القواعد من النساء بهذا الحكم دون غيرهن لانصراف النفوس عنهن عادة.
ومن التبرج أن تلبس المرأة ثوبا رقيقا يصف جسدها، وهو المراد
بقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عند مسلم عن أبي هريرة: «ربّ نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها»
جعلن كاسيات لأن الثياب عليهن، ووصفن بعاريات لأن الثوب إذا رقّ يكشفهن، وذلك حرام «١».
٤- قال أبو بكر الرازي الجصاص: دلت هذه الآية على أن من لم يبلغ، وقد عقل، يؤمر بفعل الشرائع، وينهى عن ارتكاب القبائح، فإن الله أمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات،
وقال صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عمرو: «مروهم بالصلاة، وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نعلّم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله. وكان زين العابدين علي بن الحسين يأمر الصبيان أن يصلوا الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا، فقيل له: يصلون الصلاة لغير وقتها، فقال: هذا خير من أن يتناهوا عنها. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له الحسنات، ولا تكتب عليه السيئات، حتى يحتلم.